المفاجأة كانت يوم 11 من الشهر التاسع ولا مفاجآت بعد هذا التاريخ، كانت الصدمة الناتجة عن اصطدام الطائرات الثلاث ببرجي نيويورك والمسطح الخماسي في واشنطن، عنيفة ومفاجئة بل مذهلة. ثم جاءت ردود الفعل، وكانت كثيرة وشاملة وغطت العالم بأسره، ولكنها لم تفاجئ، ولا أحد أصابه الذهول، والسبب في رأيي، إن صحَّ ما رأيتُ وقدرت، أن معظم ردود الفعل الأميركية، أو أهمها على الأقل، كان متوقعاً. ففي الشهور الأخيرة السابقة لثلثاء الكارثة كانت أقاليم كثيرة تغلي بالغضب، كانت الأجواء في أوروبا وروسيا والصين والقارة الأميركية معبأة بصدى الجدل الدئر حول موضوع درع الصواريخ، أي حول موضوع الحرب المقبلة، رغم أن القوى العظمى كانت في وضع سلام، أي في وضع يفضل فيه عدم الخوض في الحرب، فالناس في السلم تتفادى أحاديث الحرب أو تتشاءم منها. وفي أجواء الشرق الأوسط اختفى التفاؤل بإمكان التوصل إلى سلام عادل، أو حتى بإمكان تحقيق هدوء لا تستغله إسرائيل للتوسع والتخريب في سائر دول المنطقة - واختفى التفاؤل بإمكان تحول حكومات المنطقة الى تبني حريات اكثر وعدالة أوفر وكرامة وعزة. ساد الشعور في كل مكان بأن العالم في فوضى نسبية، وأنه متجه الى فوضى أشد. وكانت أصابع الاتهام تشير مترددة في الولاياتالمتحدة، فالدولة الاعظم قيدت حقوق بقية الدول في المشاركة في صوغ العالم الجديد وإدارة شؤونه وصراعاته، وفي الوقت نفسه لم تحرر نفسها من قيود داخلية وخارجية بما يسمح لها بحرية أكبر في ممارسة القيادة أو الهيمنة. بقيت متسعة المساحة التي تدور فيها تفاعلات دولية بغير ارشاد من قواعد معروفة أو متعارف عليها من السلوك الدولي، وبغير انضباط تفرضه قوة أعلى وهيمنة أعظم. في هذه المساحة ومنها انتشر القلق وعدم الثقة في المستقبل وزاد الغضب واستعد الناس وحكوماتهم لمرحلة كبت أو قمع، وتضاعفت علامات الاحتجاج في مدن الشمال، وفي الجنوب، وبين الجنوب والشمال وكان مؤتمر ديربان ساحة تجمعت فيها كل هذه الاحتجاجات. كانت كارثة الثلثاء مفاجأة لأنها تجاوزت التوقعات كافة. نوع العنف المستخدم كان مختلفاً، ودرجته غير معتادة، وكفاءته ملفتة، وضحاياه بالألوف، أما ردود الفعل فلم تحتو على مفاجآت، أو على الأقل حتى كتابة هذه السطور، كذلك كان كل الحصاد، حصاد ردود الفعل، لا مفاجآت فيه ولكن تطورات خطيرة لا أظن أن مخططي أو مرتكبي الكارثة تخيلوا وقوعها، أو تخيلوه بهذا الحجم وذلك العمق. في العالم خوف رهيب، خوف من حرب غير محددة الأهداف والأعداء والأدوات والحلفاء، وفي أغلب الجنوب خوف من أن تستغل حكومات متحالفة الفرصة فتستفرد بشعوبها، أو بالأقليات فيها، أو بالمعارضة فتنهال تنكيلاً، وفي معظم الشرق والغرب خوف من جحافل تزحف تحت رايات دينية لتأخذ بالثأر أو رايات حضارية لتنشر النور بالقسر أو بالدم إذا لزم الأمر أو تيارات امبريالية لتهيمن وتستقر وتستوطن. وفي الشمال كما في الجنوب خوف من سوء استخدام هذه الحرب أو المغالاة فيها أو الشطط، وخوف من أن يطول أحدها، كما وعد الرئيس بوش، فتصبح نظام حياة. وعندما تصبح الحرب نظام حياة يجب أن يتوقع الإنسان القسوة في التعامل، وكراهية الآخر أو الشك فيه، والقلق المتعصب بالهوية، وزيادة الانتهازيين وتجار الحروب ووسطاء الفساد والفجور والاسلحة، وتفاقم الشكوك بين الدول. والفرد خائف. يخاف السفر بالطائرة فتختطف وتنفجر في مبنى، أو تختطف وتنفجر بصواريخ اطلقتها مقاتلة اميركية، مكلفة بإسقاطها، والخوف سيكون اعظم اذا شاعت الممارسة واتسعت ومنحت كل دولة في آسيا وافريقيا وروسيا قواتها الجوية حرية اسقاط طائرات مشتبه فيها. لم يخف اعضاء الكونغرس خوفهم حين قرروا أن يستقلوا القطار في حياته، لم يخفوا خوفهم ولكن الى متى الابتعاد عن الطائرات. والخوف ايضاً هو هذا الميل المبكر من جانب حكومة الرئيس بوش لاتخاذ إجراءات ووضع تشريعات تهدف جميعاً الى تقييد حرية التعبير وتحديد هامش للديموقراطية وتقليص مساحات الحوار الدولي المفتوح ودعم لا محدود لأجهزة الأمن والاستخبارات، ويزيد من خطورة هذا الميل، الذي صار انجرافاً أنه الإنجاز الأكثر قابلية للتقليد بين كل الحكومات من دون استثناء وإن اختلفت الدرجة. لا أظن أن حكومة قائمة في الغرب الليبرالي أو الشرق غير الليبرالي ستمانع اذا طلب منها تقييد بعض الحريات وزيادة امكانات وفرص التنصت على المواطنين وتبادل المعلومات الشخصية عنهم مع دول اخرى والحجز على اموال المشتبه فيهم. بل إن قيادة الحلف ستكون أكثر رضاء وسعادة - ولو الى حين - اذا شاعت ممارسة القمع باسم محاربة الإرهاب، ولما كان الارهاب يعني اشياء كثيرة اصبح جائزاً إلصاق تهمته بأي مواطن أو جماعة أو هيئة، ولا أدري حقيقة كيف سيؤدي مهامها السيدة الكريمة ماري روبنسون المفوض العام للجنة الدولية لحقوق الإنسان وهي التي رفضت ان تكون الولاياتالمتحدة عضواً فيها، وهي الآن من دون وظيفة، أو على الأقل مجمدة حتى إشعار آخر. والخوف الأشد يشترك فيه، أو يجب أن يشترك فيه، كل المواطنين الأميركيين والأوروبيين والأفارقة والآسيويين، انه الخوف من هذا التصعيد الرهيب في حوار الصدام بين الحضارات، لا أشك للحظة واحدة أن أيادي كثيرة تعبث، فالحرائق الحضارية مفيدة لأغراض حاملي مشاعل الدمار بقدر الفوائد التي سعى الى تحقيقها مخططو ومفجرو الهجوم المثلث على نيويوركوواشنطن، وقد تأكدت ان قطاعات واسعة في اميركا خافت حين ارتفعت اصوات دائرة الأصولية واليمين يلقون باللائمة على الانحلال الخلقي والشواذ. أو حين كتبت معلقة شهيرة تطالب بوش بالهجوم على الدول التي ينتمي اليها الخاطفون وبقتل حكامها أو نفرض عليهم الخروج عن دينهم. لا أريد، ولا يهمني، تسليط الضوء على ما فعله برلسكوني رئيس وزراء ايطاليا، فالرجل يمثل فئة في النخب القائدة في عالم اليوم مستعدة وجاهزة لتدوس بأقدامها ملايين البشر في بلادها وخارج بلادها في سبيل إثراء امبراطورياتها الصغيرة وفرض هيمنة نخبة العولمة على مصائر البشرية. أريد فقط أن لا نستهين، وأن لا يستهين قادة الحلف المعادي للإرهاب وكل أعضاء الحلف، إن كانوا حقاً صادقين في حربهم، بما فعله وسيستمر في فعله آرييل شارون وبرلسكوني وأعظم معلقي اميركا وقادة الاعلام فيها، فالتحريض على الفتنة جريمة قد تكون أشد بشاعة من ارتكاب الفتنة، أي من ممارسة الارهاب. وفي اميركا خوف، الناس خائفة على مدخراتها في الاسهم والسندات. والحكومة الاميركية خائفة على ثقة الناس في الاقتصاد الأميركي، هناك كانت الخسارة باهظة، وبأكثر مما خطط الارهابيون، والارقام تجاوزت كل التوقعات، ولكن اهم من الارقام ثقة المستهلك والمستثمر في المستقبل. وهذه اهتزت بقوة، ولا أظن انها ستعود قريباً الى ما كانت عليه. وعلى كل حال لم تكن في حال طيبة في الايام السابقة على الهجوم. فالخوف من الطائرات قائم ولن يقلل منه ان لم يزده وجود حرس على الطائرة أو طائرة مقاتلة على يمين الطائرة المدنية وطائرة أخرى على يسارها، وكلفة النقل والتأمين ستستمر باهظة لوقت قد يطول، والنتيجة بطبيعة الحال انكماش في التجارة الدولية وفي الصادرات الأميركية ونقص في الانتاج وبطالة فاحشة. ثم هناك الخوف من انفجار جرثومي وتخريب في الجسور الحيوية والقواعد العسكرية الخارجية ومصادر الطاقة وأتصور أنه خوف باقٍ معنا حتى تنتهي الحرب. ولكن الحرب لن تنتهي، فقد وعد منفوذها بأنها ستكون طويلة... طويلة. وهذا الوعد في حد ذاته، دافع اضافي وكاف لاستمرار الخوف، الأمل الوحيد هو في نجاح الرئيس بوش في مساعيه التي يقال عنها إنها تهدف الى التهدئة تمهيداً لتخفيض الخوف. * كاتب مصري.