لم يستغرب المتنزهون في "فيلا بور غيزي" في ذلك اليوم الصيفي وجود تلك المرأة الممددة على العشب بقامتها المشيقة وعباءتها البيضاء. فهي بدت من بعيد كأنها تتنعم بظلال الأشجار الوارفة وتحاول مثلهم تماماً الاستسلام للأحلام في اطار طبيعي رائع. وأحلام "فخرة" كما تمنياتها بدت كثيرة جداً وربما أكثر تعقيداً من السلسلتين اللتين أمسكت بهما في يدها اليمنى واللتين بحسب التقاليد الصوفية تحملان من العقد بقدر ما تحملان من الأمنيات. حركات يديها كانت تنم عن قلق عميق فهي تدرك تماماً ان تلك المبالاة التي يبديها المتنزهون تجاهها سرعان ما ستتحول تعابير شفقة وربما اشمئزاراً ما ان تقع أعينهم عليها من قريب وهو ما لا يزال يعذبها ويذكرها بأنها امرأة مشوهة فقدت وجهها الذي كان حتى الأمس القريب مفعماً بملامح فتيات الشرق الأقصى. فخرة 21 سنة سيدة باكستانية "فقدت" وجهها بعدما رشها زوجها نجل السياسي الباكستاني مصطفى خار في احد أيام آذار مارس الماضي بالأسيد وتركها مشوهة الى الأبد. أما "جريمتها" الوحيدة فهي انها قررت هجره والهروب من الجلاد الذي أوسعها وابنها البالغ من العمر خمس سنوات ضرباً، فحكم عليها بالعيش مشوهة الى الأبد اضافة الى انها فقدت النظر في عينها اليسرى وبالكاد ترى باليمنى. وعبثاً حاول الجراحون في بلادها "ردم" الفجوات التي خلفها الأسيد في خديها ووجنتيها. ترعرعت فخرة في "نابييه رود" الأحياء الواقعة في "المنطقة الحمراء المحظورة" في كراتشي التي تعج بالمنبوذين واللصوص والأمهات العازبات والأولاد المشردين والراقصات الساقطات وجميع من ضاقت بهم سبل العيش الكريم. في ذلك الحي يعيش ستة أو سبعة أو حتى عشرة أشخاض في غرفة واحدة وقد يصل الى ستين عدد سكان الطابق في مبنى على حافة الانهيار. من هناك تنحدر فخرة وأمها وجدتها وربما أم جدتها أيضاً، وجميعهم من سلالة النساء المعذبات والمهجورات اللواتي توارثن القهر والاذعان أيضاً. وفخرة المولودة من أب مجهول تتذكر جيداً زوج أمها الذي كان يزود زوجته جرعات الهيرويين كما تتذكر انها كانت تعشق مراقبة أمها وخالتها ترقصان على الأنغام الشعبية الباكستانية والهندية. ولم يطل الوقت حتى انضمت اليهما ولم تكن بلغت العاشرة عندما اصبحت راقصة "محترفة" تؤدي وصلاتها في مقابل حفنة من الروبيات في احدى غرفتي المنزل الذي تسكنه مع عائلتها. ففي "نابييه رود" لا يمكن احصاء عدد هذا النوع من الكاباريهات المتواضعة التي تعتبر من العلامات الفارقة لذلك الحي، يقصده بعض البورجوازيين للتمتع بإذلال تلك الفتيات اللواتي يتمايلن على الموسيقى الباكستانية التقليدية. كانت فخرة في الرابعة عشرة عندما باعتها خالتها في غرفة فندق عتيق الى رجل عجوز لقاء بعض المال غير عابئة بتوسلاتها، ذلك ان المبلغ الذي يدفع لقاء فتاة عذراء لا تمكن مقاومته في ذلك المجتمع الفقير. ومذ ذاك، بدأت فخرة تنخرط تدريجاً في عالم "نابيه رود"!. كان الرجال يعجبون بجسمها المشيق وغالباً ما كانوا يطالبونها بالمزيد عندما تنهي وصلتها، ولم يكن أمامها إلا الإذعان لرغباتهم كما تقول، شأنها في ذلك شأن كثيرات، حتى انها أحياناً كانت تلبي دعوة زبائن في المدينة حيث تعرضت يوماً للاغتصاب من خمسة أشخاص. وهي تتذكر بمرارة الرفض الذي لقيته من احد الزبائن عندما فاتحته بأنها حامل منه وهي في الخامسة عشرة فهو لم يرفض الزواج منها فحسب بل امتنع أيضاً عن اعطاء اسمه للطفل. وذات يوم، طلب منها بلال خار 35 سنة ان ترقص له، ثم تكررت دعواته لها لاحقاً وكانت حينها في الثامنة عشرة وراح يغازلها كما لم يفعل أحد من قبل، فاعجبت به وان لم تفكر بأن رجلاً مثقفاً مثله وابن وزير سابق قد يهتم بها يوماً أو يحترمها. وفي محاولة لإثبات حبه لها، طلب منها ان تصبح زوجته الثانية إذ كان متزوجاً من امرأة من طبقته، مؤكداً انه لا يكترث للفوارق الاجتماعية التي تفصل بينهما. وعلى غرار النهايات السعيدة للأفلام الهندية التي طالما حلمت بها فتيات "نابييه رود"، تُوّجت علاقتهما بالزواج. هناك في "فيلا بورغيزي" على بعد آلاف الكيلومترات من كراتشي وجلادها. تتوقف فخر فجأة عن سرد قصتها كأنها تحاول التقاط انفاسها من دون ان يعكس وجهها المشوه زي تعابير حزن أو فرح أو أي شيء آخر. وبعد نفس عميق، تروي تفاصيل الحلم الذي تحول كابوساً إذ لم تكن مضت ثلاث سنوات على زواجها عندما "بدأ يضربني ويشكك في انني أخونه. بدأ يهاجم ابني نورمان ويتهمني بأنني أوليه اهتماماً على حسابه. وكان يذكرني دائماً بأنه أخرجني من جحيم نابييه رود وعليّ قبول كل شيء منه". بما في ذلك الاهانات والضرب الذي كانت تتعرض له عندما يثمل. فكرت جدياً بالهرب إلا ان فكرة العودة الى ذلك الحي والعيش في غرفتين مع اختها وصهرها وأمها جعلتها تعدل عن قرارها. ولما ضاقت ذرعاً بتهديداته لم تجد أمامها الا تقديم شكوى ضده أمام الشرطة وهو ما كلفها ثمناً باهظاً لن تنساه. ففجر اليوم التالي حضر بلال الى منزلها وهي نائمة فلم تتذكر شيئاً مما حصل. أما ابنها نورمان فرأى تلك الزجاجة المليئة بسائل أصفر والتي كان يحملها زوج أمه يرافقه رجلان احدهما يحمل بندقية. للوهلة الأولى لم تفهم فخرة ما يحصل ولم تدرك ما اصابها الا بعدما استعادت وعيها في المستشفى وهي تكاد تموت من الألم. وقالت: "طوال شهر لم أنظر في المرآة ولم أعرف انني كنت مشوهة. أدركت ذلك لاحقاً عندما كان الأطباء يعاينون وجهي ويلمسونه باستمرار". لازمت المستشفى أربعة أشهر كانت تسمع خلالها أنين نساء آخريات تعرضن أيضاً لاعتداء بالأسيد وتوفيت اثنتان منهن جراء حروق بالغة. وعندما شاهد نورمان وجه امه للمرة الأولى بعد الحادث ارتعب كثيراً ورفض مذ ذاك زيارتها في المستشفى، أما بلال فأرسل لها في أوج آلامها باقة من الورد. بعد مغادرتها المستشفى عادت فخرة الى العيش في منزل عائلتها في "نابييه رود" سجينة أحزانها وأوجاعها، تقول: "لا أحد يستطيع ان يتفهم الألم الذي شعرت به. صرت بلا مستقبل، بلا أمل ولا حب ولا مال. لا شيء". طالب بلال باستعادتها مصراً على ان تعود الى منزله فوجدت نفسها للمرة الثانية أمام خيار وحيد. وعلى رغم الجرم الذي اقترفه في حقها لم يبد تجاهها أي شعور بالندم. ومنعها من استشارة طبيب بعدما اوشكت حروقها على الالتهاب وأسرها في مزرعة نائية. اسودّت الدنيا في وجهها مراراً وغرقت في المهدئات وهي لا تزال تتساءل حتى اليوم عن الأسباب التي دفعتها الى المكافحة من أجل الحياة. انه ابنها في الدرجة الأولى. الا انها تقر ان ثمة شيئاً آخر أيضاً أشبه بإرداة جامحة في أعماق نفسها، حضّتها دائماً على مواجهة الحياة. وقد يكون ل"تحكينا دراني" تلك الكاتبة والناشطة في مجال حقوق الإنسان فضل كبير في هذا الشعور، فهي تعرف بلال خار، ابن زوجها السابق مصطفى خار الذي انفصلت عنه قبل 12 سنة. وقد قاومت الأب طوال 14 سنة في ظروف صعبة تعرضت خلالها للاهانة والضرب والشتائم أيضاً فلم يعد الابن يخيفها. والمفارقة ان بلال نفسه الواثق من استحالة ملاحقته هو الذي أرسل فخرة اليها لاعتقاده انها ستساعدها على تجاوز محنتها الا انه لم يقدر جيداً شعورها وغضبها. نظمت تحمينا حملة واسعة من أجل التنديد "بجرائم الشرف" التي يبقى منفذوها بلا عقاب فاتهمت ب"عطاء صورة سيئة عن باكستان" عبر نشر آلام فخرة في وسائل الإعلام. إلا انها رفضت التراجع تحت تأثير الضغوط مناشدة السياسيين ورجال الذين التدخل لملاحقة المعتدين أمام القضاء. ولم تتوان عن الاعتصام في مقر الحكومة مطالبة بتوفير جواز سفر لفخرة لتتمكن من الانتقال الى ايطاليا للعلاج. وبفضل علاقاتها بالناشطين في الدول الغربية حصلت على موافقة المختبر الايطالي "سانت انجيليكا" لاستقبال فخرة وابنها كما اتصلت بمستشفى "سانت اوجينيو" في روما حيث ستخضع فخرة لعمليات جراحية عدة قال ثلاثة اختصاصيين انها ضرورية لاستعادتها وجهها. الطريق امام هذه الشابة الباكستانية لا تزال طويلة، فأمامها 25 عملية أو أكثر قد تمتد على سنتين. واولاها المتوقع اجراؤها في ايلول سبتمبر المقبل حساسة جداً إذ يفترض اعادة تأهيل الأجهزة التنفسية التي يمكن ان يكون الأسيد اتلف جزءاً منها. أما الحديث عن التجميل فلا يزال بحسب الدكتور سيرفيللي مبكراً جداً. المهم ان تستعيد فخرة أنفاسها. وقبل أيام استمتعت فخرة بحلم هو الأول منذ زمن بعيد إذ خيل اليها ان رجلاً يرفع القناع البشع عن وجهها بيدين بيضاوين.