في منزله الدوبلكس (من طبقتين) في إيل سان – لوي في دائرة باريس الرابعة، يكسو الغبار وطبقاته أجهزة الغيتار. والغبار لم يُنفض على رغم أن المرض كان يثقل على تنفس سيد المكان، جورج موستاكي الإسكندراني الولادة والراحل قبل أيام عن 79 سنة. ولكن ناظم قصائد أيقونات الغناء الفرنسية لم يكن يوماً ممن يكدون في العمل وينصرفون إليه انصرافاً متناسلاً ومتصلاً. كان من كبار الكسالى السعداء. فهو لم يشأ يوماً أن يواجه العالم ويصفي الحسابات معه. باريس في 1967: جورج موستاكي يستلقي يومياً ساعات طويلة على الأريكة في منزل باربارا ليشاهد التلفزيون. فلم يكن من الراحلة إلا أن تهدده: «لن تجد الجهاز (التلفزيون) في محله بعد اليوم إذا لم تكتب لي أغنية. وفي ساعة من الزمن، كتبتُ أون لونغ فام برون» (سيدة طويلة سمراء)، كما يروي. ويُرجح أن كتابة كلمات أغنية ميلورد لم تأخذه كذلك أكثر من ساعة في 1959 قبيل انفصاله عن إيديت بياف. يومها، خربش الكلمات على ورقة صغيرة. وذات يوم، وضعت المغنية الكبيرة (بياف) ورقة في الآلة الكاتبة الخاصة بالفنان الشاب، فنزل على طلبها وكتب لها أغنية. كُثر هم الفنانون الفرنسيون الذين بددوا ساعة من وقته، فانعقدت ثمار التبديد أغنيات، منها «ما فيي بونجور» (صباح الخير ابنتي) لغريكو، و «إيل نيا بلو داماند» (اللوز نفد) لهانري سالفادور، و «لا فيي أو بييه نو» (الشابة الحافية القدمين) لداليدا. وعناوين أغنياته محفوظة في ذكريات ملايين من الفرنسيين. الفنون كانت أثيرة على قلبه، وكان شغوفاً بالدنيا محباً للنساء. ويوم ربطته علاقة بإيديت بياف، لم تمتنع الصحافة عن تسميته ب «جيغولو». كان في الرابعة والعشرين من العمر، وهي في السابعة والأربعين. ويوم وصل باريس من مسقط رأسه في الإسكندرية، كان في السابعة عشرة عام 1951. والداه، نسيم وسارا موستاكي، يهوديان يتحدران من اليونان كانا يديران مكتبة في المدينة الساحلية. غيساب أو يوسف في السجلات الرسمية المصرية صار اسمه جورج في باريس، وسار على خطى والده في مغازلة النساء، وتماهى مع براسن وارتضاه معلماً وأستاذاً. واختار أن يحمل اسمه (جورج). والتقى في ملاهي الضفة الشمالية لنهر السين، بوريس فيان وليو فيرييه، وترينييه، وإيف مونتان ومولودي، وجاك بريل، وغيرهم من الفنانين والشعراء والموسيقيين. لكن اليافع الإسكندراني لم يتخفف من الخجل، وتردد في غناء نصوصه غير واثق في قدراته الصوتية الطرية العود، الضعيفة القدرات. لكن القدرات الواهنة هذه وسمت صوته في مرحلة لاحقة، والتصقت به. صاحب أغنية «لو ميتيك» (الغريب أو الهجين) كان فاتناً خجولاً يصوغ الكلمات ليغنيها الآخرون، كأنه توأم المغني غاينسبورغ اللطيف والمضطرب. كان سباقاً، ومتمرداً على العادات، فهو لم ينتظر جموع «أيار 1968» ليلحق بها ويختار طراز حياته. فأرخى لحيته وأطال شعره، ورفع لواء نبذ العنف، والحرية الجنسية. حملته المصادفة في 1969 إلى التربع على عرش أكثر الأغنيات رواجاً والتحول أيقونة، إثر رفض ريغياني غناء «لو ميتيك». فغناها هو، وكان في الخامسة والثلاثين من العمر، صاحب وجه سرمدي لم يخلف الزمن أثره فيه. فهو اليهودي المترحل صاحب البشرة السمراء الملونة تحت شمس كل مواسم الصيف، واللحية البيضاء. غنّى في الأسطوانة ذاتها، أغنية «غاسبار» من قصيدة لفيرلين، وهو الهجين أو الغريب كذلك. فكأن الأغنية هذه أماطت اللثام عن وجه الغريب اليوناني الآخر العذب والأليم، وهي تقول: «توجهتُ، أنا اليتيم المستكين/ ومقلتاي الهادئتان هما مستودع ثروتي الوحيدة/ إلى رجال المدن الكبيرة/ لم يستسيغوني (...) هل ولدت قبل الأوان أو بعد فواته؟/ ما أنا فاعل في هذا العالم؟/ آه منكم/ ألمي عميق/ صلّوا من أجل غاسبار المسكين!». فطار موستاكي على جناح الشهرة والنجاح، وتناسلت أغنياته وحفلاته طوال السبعينات. سافر كثيراً إلى البرازيل وجوارها، وولج عالم السينما مرة واحدة عام 1971 في فيلم يقتبس رواية «المتسول» لصاحبها كوسري. وشارك في صوغ السيناريو، لكن شاغله الأبرز كان اصطحاب النساء في نزهات على دراجاته النارية. «أشعر بالامتنان العميق إزاء كل منهن. الامتنان للمتعة الفريدة التي شاركنني بها»، أَسَرّ في حديث نشر عام 2000. كان ميسور الحال ومد يد العون إلى عدد من الأصدقاء. والتحديات التي اختار موستاكي جبهها شخصية الطابع. فهو تحدى باكو إيبانيز، تعلّم العبرية في 3 أشهر، وصار لاعباً محترفاً في البينغ بونغ (كرة الطاولة) في مباراة خسرها أمام هنري ميلر. وتعلم لعب الشطرنج ليفوز على جاره في سان- لوي. لم يشهر التزاماته السياسية، لكنه كان يسارياً متطرفاً، ولم يخرج على دعمه اليسار إلا في 2012 حين اقترع لفيليب بوتو، مرشح «نوفو بارتي» المعادي للرأسمالية. في كانون الثاني (يناير) 2009، اضطر إلى إلغاء حفلة في برشلونة إثر إصابته بانتفاخ في الرئة. ومذّاك اعتزل المشاركة في الحفلات، وفي الأسابيع الأخيرة، أدخل الأطباء أنبوباً في حنجرته في مستشفى في ضواحي نيس. وأَسَرَّ إلى صحيفة بأن جلّ ما يأسف له هو العجز عن الغناء في المرحاض. في الإسكندرية، حملت مكتبة والده اسم «مدينة الكتاب»، وصارت اليوم متجر بورسلين. وفي «إيل سان– لوي»، حملت المكتبة في المبنى الذي نزل فيه جورج موستاكي أكثر من خمسين سنة، اسم عوليس. ويبدو أن رحلة هذا الإغريقي المتغرب والمترحل التائه، كانت سعيدة. * عن «ليبراسيون» الفرنسية، 24/5/2013، إعداد منال نحاس