حضور السينما العربية في مهرجان "البندقية" تمخض عن فيلمين مثيرين للاهتمام. في المقابل حضرت إسرائيل بثلاثة أفلام، واحد منها إنتاج محلي تماماً تنتج السينما الاسرائيلية من عشرة الى ثلاثة عشر فيلماً في السنة والآخران إنتاج مشترك مع اوروبا، وهما فيلمان لآموس غيتاي. الفيلمان العربيان هما فيلم يوسف شاهين الجديد "سكوت... ح نصور"، والتسجيلي الجديد والأول في هذا النطاق للمخرج التونسي محمود بن محمود. كلاهما خارج المسابقة، واستقبلا باستحسان، لكن النسبة تتفاوت. فيلم يوسف شاهين استند الى اسم مخرجه وحب الجمهور الإيطالي له فحظي بحضور أوفر، وعندما انتهى العرض التهبت أكف الحاضرين بالتصفيق. لأول مرة منذ وصوله يشرق وجه يوسف شاهين مبتهجاً ويقول بنشوة طفولية: "أهو كده. عايزين نضحك". "سكوت... ح نصور" فيلم عليه أن يُقدر من دون مقارنات بأعمال يوسف شاهين السابقة. انه ليس فيلم رسالة سواء من نوع "المصير" او من نوع "الآخر"، وليس فيلماً ذاتياً ولو أن ذلك لا يعني أنه ليس خاصاً وفيه من ذات المخرج الكثير. فيلم ينشد ترفيهاً مسؤولاً ويحصده، ولا يمانع في التوجه الى طبقة غير المثقفين على رغم أن "الآخر" مثلاً لم يبلغها ويوظف قصة ذات خيط تقليدي على نحو خاص وممتع في أكثر مراحل الفيلم. شاهين هنا يصر على وطنية الطبقة الانفتاحية ويحيي المثقف الوطني الناصري في الوقت ذاته. يبدو كما لو انه استخلص بعد سنوات عمله أن كلاهما بحاجة الى الآخر، وانه شخصياً لا يستطيع أن يتحوّل الى هذا الاتجاه أو ذاك. لكن السيناريو ليس بالنص الطافح بالدلالات. فشخصية الأم ليست رمزية الى أبعد من ظلال وضعها الطبقي. انها لا تمثل مصر ولا تمثلها ايضا ابنتها او حفيدتها كما كانت بعض بطلات شاهين يمثلن مصر في أفلام سابقة. هذه العائلة ايضاً لا تمثّل السيطرة على نحوها الذاتي كما الحال في أفلام يوسف شاهين الذاتية حيث الأم والشقيقة والزوجة يمتلكن زمام هذا المخرج السينمائي الذي هو يوسف شاهين. وهذا يندرج تماماً، وبصورة طبيعية، ضمن محاولة شاهين إطلاق فيلم مرفّه وبحد أدنى من الطروحات السياسية كما لو أنه اشتاق الى الفيلم المبهج والحيوي من دون آلام ومآس كبيرة لا تحل، النوع الذي كانت السينما المصرية تؤمنه في مجدها الذهبي. البحث عن الأب في اليوم الثاني لعرض "سكوت... ح نصور"، عرض المخرج التونسي محمود بن محمود فيلمه التسجيلي الجديد "وجد" والعنوان الأصلي الكامل "ألف صوت وصوت = موسيقى الإسلام". انه فيلم عن الأصوات في ايقاع الغناء الإسلامي، عن الترنيم، عن الآلات المستخدمة او بعض منها على الأقل وعن الصوفية كون محمود بن محمود "واحداً من المخرجين العرب القلائل الذين يملكون ميولاً صوفية" - كما يعترف بنفسه. وهو يبدأ فيلمه المؤلف من 90 دقيقة ومن إنتاج فرنسي/ بلجيكي / تونسي، بنفسه حيث يصل الى مزار صوفي في تونس لزيارة قبر والده. هناك يسمع محمود بن محمود صوت أناشيد دينية ويميّز صوت والده الشيخ فيها. يتعجب ويبدأ البحث في اروقة وجوانب قبل أن يكتشف أن شيخ المكان كان يدير شريطاً لتلامذته ليعلمهم كيفية الغناء الصوفي. يبدأ محمود بن محمود الذي يعلق على الفيلم بصوت جيد وبلغة عربية سليمة، فيلمه بحادثة، يتيح لنفسه استكمال التعليق على نحو قصصي من منطلق الراوي لذكرياته وملاحظاته ومعلوماته عن الموضوع الذي يبحث فيه. هذا يضمن للفيلم خلفية موحّدة كما يبعث على الثقة بما يتولى المعلّق - المخرج تقديمه. ليس أن مخرجاً آخر كان - بالضرورة - سيقدم فيلماً أقل أهمية، لكن ذلك البعد الخلفي هو الذي يتدخل أكثر من مرة لشرح هو في الوقت ذاته شخصي بمعنى ذاتي وخاص ومعلوماتي بمعنى عام. توليفة دائماً ما تزفر أفلاماً تسجيلية جيدة. ينتقل المخرج وفيلمه من تونس الى مصر، ومنها الى الهند ثم تركيافالسنغال وما بين زياراته الى البلدان غير العربية يغير أكثر من مرة على تونس ومصر. هدفه في كل ذلك يصبح أكثر تعدداً مما ينطلق الفيلم به، فهو يعرّف المشاهد على أنماط الغناء الصوفي وأنواع الآلات الموسيقية المستخدمة فيه، بل على ماهية الصوفية وطرقها العبادية. وباستثناء مشاهد الفيلم في الهندوالسنغال، يحافظ على روحانية ما تنقله الكاميرا مستخدماً في ذلك صمتها، طريقة استخدامها كمصدر صوري لا أكثر عوض أن تقحم نفسها محمولة على اليد او دائرة مع الدائرين في توظيف رخيص وصوت الأناشيد والذكر والآلات الموسيقية. بذلك يصل الفيلم الى مصاف الطرب ايضاً. في غمار كل هذا لا يتردد المخرج في ضخ المعلومات عن الإسلام كافة. معاني بعض آيات القرآن الكريم وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وما ردده الصحابة. ايضاً يصطاد المناسبات المتاحة للتأكيد على أن قواسم مشتركة عدة تجمع بين الإسلام والمسيحية واليهودية. ولا عجب في رغبته توفير مثل هذا الغطاء الديني ليس فقط من منظور فهمه وممارسته للإسلام، بل لأنه يتوجه بفيلمه أساساً الى جمهور غربي ما عاد يسمع عن الإسلام سوى أنه يحلل القتل والموت وانه مجتمع رجالي كامل وسلطوي في ذلك. هذه النيّات لا تعرقل الفيلم وجمالياته. لكن اذا كان الفيلم يشكو من شيء، فمن أن بعض ما يذهب اليه من مشاهد طويلة ومنهكة خصوصاً تلك الهنديةوالسنغالية. وحين يحاول، بايجابية وتسامح كبيرين، القول إن غناء الصوفيين الهنود يجمع بين "تراث الإسلام وحضارة الهندوس" لا بد لهذا الناقد من التساؤل عن اي حضارة خلفها الهندوس الأول؟ اذا كانت موجودة، فإن العبارة اليتيمة الواردة لا تكفي للكشف عما يجسده هذا اللقاء المفترض بين الإسلام والهندوسية. أصل المشروع المقابلة التالية حدثت بعد ساعات قليلة على مشاهدة الفيلم ولقاء بن محمود بالجمهور والنقاد الأوروبيين وكان لا يزال مُثاراً بما استقبل به من اهتمام على رغم أنه كان لا يزال يتساءل عما اذا كانت رسالة الفيلم واضحة من دون قيامه هو بدور المجيب على اسئلة المشاهدين. كيف انطلقت بهذه الفكرة ولماذا؟ - في الحقيقة الفكرة ليست فكرتي. كانت محطةARTE طلبت من شركة انتاج فرنسية أسمها Les Productions du Sablier تنفيذ ثلاثة أفلام تتعلق بالموسيقى الدينية. واحد عن اليهودية والثاني عن المسيحية والثالث عن الإسلام. ورسا اختيار الشركة المكلفة على زميلي عمر اميرالاي منذ أكثر من سنة. لكن عمر اميرالاي كان مشغولاً. وقبيل نهاية العام 2000 انذرت المحطة التلفزيونية الفرنسية شركة الإنتاج بأن تسلمها الفيلم المتفق عليه والوحيد الباقي قبل نهاية العام وإلا فإنها ستلغي المشروع بأكمله. عمر اميرالاي أرسل اعتذاراً لانشغاله بتصوير فيلمه عن رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري ورشحني. حينما اتصلت الشركة بي اجتمعت بهم وعرضت عليهم بعض أفلامي السابقة وأعجبتهم. تتحدث في الفيلم بخبرة الصوفي... هل أنت صوفي؟ - أنا واحد من المخرجين العرب القلة جداً الذين يميلون الى الصوفية. والدي كان شيخاً صوفياً جليلاً. في فيلمك لا تتطرق الى الموقف الاسلامي المعادي للصوفية على أساس أنها تخرج عن تعاليم النبي الكريم وسنته... - هذا ليس له مكان في الفيلم. كما ترى هو فيلم عن الصوفية ليس كفكرة او كبحث في العقيدة بل كشكل موسيقي/ غنائي يتيح للمشاهد التعرّف على نواحي العلاقة بين الإسلام والموسيقى والإيقاع والصوت. الدخول في الفلسفة الصوفية وفي الآراء معها او ضدها كان يتطلب فيلماً مختلفاً. لكن ذلك لم يمنعك، وأنا معك في هذا الاختيار، من تضمين الفيلم معلومات عن الإسلام. - صحيح. الغاية هنا هي تقديم الإسلام في ضوئه الحقيقي. دين عدل وسماحة وحرية واعتدال في الرأي والعمل وتآلف. ودين يتلاقى مع الدينين المسيحي واليهودي في مسائل كثيرة لأنها مرسلة من المصدر الإلهي نفسه. وهو مصدر واحد للأديان الثلاثة. ما اردت تحقيقه هو عدم التوقف عند مشاهد من الشعائر، او بالأحرى عدم التوقف عند فكرة الفيلم وموضوعه بتجرد، بل استخدام الظرف للتعريف، او للتذكير، بأن الإسلام هو غير ما تتناقله وسائط الإعلام عنه. انه ليس الإرهاب ولا التطرف، وبذلك أجد أن فيلمي هو مضاد بالتالي للتطرف والمتطرفين. تأثير والدك عليك يبدو واضحاً، وأنت تتحدث الفصحى كما لا أسمعها من اي سينمائي تونسي آخر. - نعم والدي له تأثير كبير جداً عليّ. هو الذي وجهني للثقافة الإسلامية والعربية. وأيضاً هو الذي علمني الكثير مما أعرف عن الإسلام وعن الطرق الشاذلية التي يتحدث عنها الفيلم. وكان أحد المعلمين المؤثرين ايضاً في الكثير من تلامذته الى اليوم. ... والفيلم يرشدنا الى فروقات في التأدية بين الأمم... الممارسة الصوفية هنا تختلف عن الهندية وتلك عن التركية والسنغالية... الى آخره... - اسمها طرق، والطريقة الشاذلية هي الأكثر انتشاراً في تونس ومصر. لكن الطرق تختلف واخترت منها أحياناً ما يختلف كثيراً كما حدث في السنغال. قبل الحديث عما حدث في السنغال... لماذا اخترت زيارة دول غير عربية لضمها الى فيلمك؟ - لأن الإسلام ليس ديناً عربياً والصوفية وطرقها منتشرة في الكثير من الدول غير العربية. اختياري الهند نبع من انها مكان مزدهر للصوفية هناك. وفي تركيا كنت أول من يصوّر المجلس الصوفي في احتفاله. وفي السنغال تعاملنا بصورة مختلفة مع طريقتهم التي تتضمن عبادات وثنية. ما الذي حدث في السنغال؟ - حين وصلت وفريق تصويري نهاراً الى المحتفين اتفق باكراً على تصويرهم في احتفالهم الذي يبدأ قرابة منتصف الليل وينتهي صباحاً. حين بدأ الاحتفال وجدت كثيراً من المنشدين والراقصين في حالة نشوة كبيرة مرجعها غير روحي بل نتيجة المخدرات والشرب. وكنت ما زلت أريد تصوير الاحتفال على كل حال، لكن شيخ القبيلة رفض بإصرار وفشلت محاولات ووساطات سنغالية وفرنسية. ثم جاءني الوسيط السنغالي وقال لي انني أنا الوحيد الذي قد يعيد شيخ القبيلة عن قراره. وكنت أعلم أن اللغة العربية هي المهيمنة. ينظرون اليها نظرتهم الى ما هو مقدس لأنها اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، فحادثته بالعربية، فطلب مني الحديث بالفرنسية ورفضت. وبدأت إقناعه متحدثاً العربية وبعد قليل تراجع تماماً وأشار بيده أنني استطيع التصوير وفعلت. وسط الصف تصويرك تم بكاميرا 16 مم، وليس بكاميرا فيديو. - نعم لأنني أردت تقديم فيلم سينمائي، واسلوبي في التصوير كان سينمائياً ايضاً، وأعني بذلك أنه اندمج مع رغبتي في التصوير كما لو كنت أصوّر فيلماً روائياً. لكن كيف كنت تستطيع التحرك وسط المجاميع من دون إعادة تصوير لقطات... كيف كنت تتفاهم ومدير التصوير على الخطة؟ - كنا نحضر الرقصات سابقاً باستثناء السنغالية ونختبر خطواتها ونطاقها ونخطط لليوم التالي. هناك مشاهد لم تصوّر على هذا النحو من قبل. في مشاهد الاحتفال بالمولد النبوي في حي السيدة زينب وضعنا الكاميرا وسط صفي الراقصين. والمشهد التركي لم يصوّر مطلقاً من قبل. في المشاهد الهندية خاطرت بتسخيف الفكرة كلها... نرى الدراويش يقومون بأعمال حرّمها الإسلام مثل خرز الأسياخ في الوجوه... هذا كان كافياً للإطاحة بالموضوع بأسره... - أردت هنا تصوير شعائر تخرج عن الإسلام ومستقاة من ثقافات مختلفة. لا تنسى أن الفيلم اذ يدور في أماكن عدة يتواصل ويعبّر عن ثقافات متعددة واحدة منها الهندية. سأنتهز فرصة هذا اللقاء وأسألك عن فيلمك الروائي الأخير "قيلولة الرمان" وما رأيك بما قيل فيه من اتهامات؟ - قيل فيه الكثير وواجهت المنتقدين بحوارات طويلة. بعضهم كان يقتنع مني حين الجلوس اليّ، ثم حين يعود الى بلاده يعود فيكتب ما كان مقتنعاً به من قبل. المشرقيون يعتقدون أننا حين نتقدم لإنجاز أفلام مشتركة مع الغرب نتنازل، وأننا من أجل أن نفوز بالعقود نبيع مشاهد معينة. الحقيقة أن الشركات الأجنبية لا تهتم، شركات التوزيع العربية وأصحاب الصالات في تونس هم الذين يطلبون مثلاً مشاهد عارية. هل تعتقد أن شركة فرنسية تطلب إضافة مشهد عار؟ لكن ماذا عن الكتابة اليهودية في "قيلولة الرمّان" على قبعة صبي يظهر كما لو كان امتداداً لمعاناة واضطهاد؟ - أردنا أن نأتي بمثال لما تحدثه الغربة من فقدان توازن وهوية، تماماً كما حال بطلة الفيلم التي تبحث في هويتها بعد طول ابتعاد عن تونس. فكرنا بقبعة عليها ماكدونالدز أو شيء آخر من هذا القبيل، لكننا وجدنا ذلك سخيفاً. واهتدينا الى المشهد الذي تذكره والذي يتحدث عن حال الصبي وحال مقدمة البرامج غير الواعية تماماً لما يدور. انتقد الفيلم على أنه دعاية يهودية وعلى أنه يفضل انتماء تونس لأفريقيا وليس للعالم العربي. هذه قراءات قاصرة وضيقة جداً للفيلم.