شاهدت فيلم يوسف شاهين الجديد ولا أقول الأخير "سكوت حنصور" في عرض له طابع احتفائي واحتفالي، حضره يوسف شاهين بنفسه، وإن كان هذا الحضور تم وفق طقوسه الخاصة. جلس يوسف وحيداً في حجرة، خوفاً من تأثير الزحام الشديد علىه. فهذا الزحام أصبح سمة من سمات العروض الخاصة في القاهرة الآن. حيث توجه الدعوات إلى مدعوين يحتاجون الى ضعف عدد مقاعد السينما. ما يؤدي الى الزحام المرهق ومعارك الحصول على مقعد. وعدد الواقفين الذي يفوق أضعاف عدد الجالسين يعطي انطباعاً بالازدهار الكاذب. لأن النجاح الحقيقي هو ما يعبر عنه الإقبال على الفيلم من خلال شباك التذاكر. "سكوت حنصور" صاحبت تنفيذه الذي استغرق عامين دعاية واسعة. ودخل على الخط مرض يوسف شاهين أكثر من مرة. ويقال إن مساعده الذي يحاول الاستقلال خالد يوسف استكمل تصوير بعض مشاهده. وخلال عمليات إنجاز الفيلم الفنية الأخيرة من تحميض وطبع وميكساج ومونتاج عرفت مصر مشكلة جزيرتي الذهب والوراق. وذهب يوسف شاهين على رغم مرضه ليقف بنفسه مع الفلاحين الفقراء الذين كانوا مهددين بالطرد من أجل إقامة مشاريع سياحية على أرض الجزيرتين. وأثبت يوسف شاهين قدرته كمثقف قبل أن يكون مخرجاً على الالتحام بقضايا الناس. حتى لو كان ذهابه إلى جزيرة الذهب سببه، كما يقال، انه يفكر في تحويل الأزمة إلى فيلم سينمائي يصبح الجزء الثاني من رائعته القديمة "الأرض"، الذي أصبح من كلاسيكات السينما المصرية الآن. إذ كلما عرض من جديد أقبلت علىه الجماهير وكأنها تشاهده لأول مرة. الشكل الفني لفيلم شاهين الجديد ليس جديداً، سبق أن شاهدناه من قبل في أكثر من فيلم. وهو اسلوب يمكن أن نطلق علىه اسم فيلم في داخل الفيلم. حيث نشاهد طوال الفيلم مخرجاً قام بدوره زكي فطين عبد الوهاب يحاول أن يخرج فيلماً عن مجموعة من الناس لا يحيطون به فقط، ولكن تربطهم به علاقات القربى والمودة. حاول يوسف شاهين أن يصنع فيلماً عن عالمه الأثير. وفي تصوري أن هذا الفيلم يمكن أن يكون الجزء الثالث من ثلاثية: "اسكندرية ليه" و"اسكندرية كمان وكمان". فشاهين يقدم هنا عصارة عمره كمخرج. إذ يأخذ بيد المشاهد، يحاول أن يشركه في هذه العملية الممتعة: عملية خلق فيلم سينمائي، ابتداء من الفيلم الخارجي وصولاً إلى الفيلم الداخلي الذي يحاول المخرج صنعه طوال الفيلم. هنا يفكر الأبطال بصوت عال في مصير الفيلم ومساره وتطور أحداثه. ثم في النهاية التي يحاول الجميع صنعها أمامنا. لذلك سيطرت حالة يوسف شاهين على الكون الخاص الذي يقدمه الفيلم الداخلي. لعب دور يوسف شاهين في الواقع زكي فطين عبد الوهاب الذي تصرف وتكلم كما لو كان هو يوسف شاهين. والأبطال قلدوا يوسف شاهين، أداءً وتمثيلاً ونظرة إلى الحياة من داخلهم. وقدم الفيلم هذه النماذج الأثيرة لدى عالم يوسف شاهين السينمائي خصوصاً أنه صاحب الكتابة والرؤية السينمائية التي قدم عنها الفيلم. بل ان شاهين لحن إحدى الأغنيات التي أدتها لطيفة في الفيلم، وحاول أن يتصرف مثل مخرجي الغرب. أن يقدم لنا سينما المؤلف حيث يقوم المخرج بكل المطلوب في الفيلم ابتداء من القصة حتى الإخراج. أسرة من أطلال وبقايا بورجوازية ما قبل ثورة تموز يوليو 1952. جدة وأم وابنة فيهم جنون يوسف شاهين نفسه ونظرته الى الحياة نفسها. الجدة لعبت دورها ماجدة الخطيب. والأم، المطربة ملك، مثلتها الفنانة لطيفة في أول دور لها في السينما، ممثلة ومطربة معاً. والابنة روبي وجه جديد يظهر للمرة الأولى. الأم متزوجة على الورق من محام مشغول بعمله فقط ولعب دوره أحمد محرز بطل "اسكندرية ليه" و"عودة الابن الضال". والأب يبدو كالغريق يتشبث بأصوله البورجوازية في مواجهة المتغيرات. وعلاوة على أنه لا وجود له في حياة زوجته، فهو يعلن ارتباطه بإنسانة أخرى. لا نراها... ربما لسبب الرغبة في التوفير. وعدم اسناد الدور لممثلة ما. الأم المطربة ملك يظهر في حياتها مثقف أفّاق، هو لمعي. كاتب السيناريو والمطرب والممثل الذي يمثل علىها دور العاشق المتيم بها. فتقرر الزواج منه. في الوقت نفسه هناك سيناريست يلازمها لعب دوره أحمد بدير وإن كانت ملك تجري وراء حب الفتى القادم من المجهول والذي يستأجر الملابس التي يذهب بها إلىها حتى يبدو في أحسن صوره. هذا الأفّاق ما إن تموت الجدة حتى يوقعه أحمد بدير في مكيدة، عندما يقول له إن التركة لن تأول إلى ملك ولكن إلى الحفيدة ابنة ملك فيقرر الشاب الاتصال بالحفيدة، وكلماته نفسها التي استخدمها مع الأم يقولها الآن للابنة. فينكشف أمره. ويعلن هو أنه للمرة الأولى تنكشف حسبته. وستكون الأخيرة. أما الابنة فهي مرتبطة عاطفياً بابن سائق العائلة. الذي يحب جمال عبد الناصر واسمه ناصر لعب شخصيته مصطفى شعبان. هذا الفتى تنحصر أحلامه في أن يصدر مجلة للشباب، ونجوم البورجوازية القديمة، التي أصبح بعض أفرادها لصوصاً في زمن الانفتاح الاقتصادي يتعاملون مع السائق وابنه بدرجة عالية من الديموقراطية التي لا نجدها عندهم في أرض الواقع. ويخيل إليّ أن يوسف شاهين حاول أن يقدم فكرة تقول بالتصالح بين الطبقات. لأن الصراع القديم لم يعد مجدياً الاستمرار فيه. هذا الصراع كان جزءاً من زمن لم يعد له وجود. هذا الشاب هو الوحيد من بين أبطال الفيلم الذي يعرف ماذا يريد، ويصمم علىه ويبدو قادراً على تحقيقه. وهو الوحيد الذي يعلن عن رؤية سياسية وفكرية واضحة. في رأيه أن عبد الناصر لم يمت. وهو يتعامل مع فلول البورجوازية بدرجة عالية من الندية. وتماسكه الداخلي يؤكد انه انسان الغد، في مواجهة تراجع بقية أبطال العمل وانهيارهم. الجدة ترفض المثقف الانتهازي النصاب الذي يلف شباكه حول ابنتها المطربة ملك، وإن كانت توافق بقوة على زواجها من الطالب الجامعي. بل إنها هي التي تطلب يده من والده، سائقها الخصوصي! في عملية إخراج الفيلم من داخل الفيلم الأصلي على الطبيعة لم يشرح يوسف شاهين باعتباره المخرج الخارجي، من خلال زكي فطين المخرج الداخلي، رؤيته في الإخراج ولا تجلياتها ولا نظرته الجمالية والأساس الفكري الذي تستند إلىه بقدر ما دار الأمر حول الخلاف بين المطربة وبطله الفيلم ملك والمخرج. فهي عندما حاولت أن تفرض لمعي علىه، راح يقاوم بكل قوته، وربما كان السبب في ذلك مرض يوسف شاهين أثناء تصوير الفيلم وعدم تمكنه من استخدام كل أدواته في عمله. يوسف شاهين هو الوحيد من أبناء جيله المصرّ على الاستمرار في العمل كمخرج وهذه نقطة تحسب له وتقلل من محاسبتنا له على الأخطاء الكثيرة الموجودة في هذا الفيلم. والذي يعتمد، مثل سينما يوسف شاهين الأخيرة كلها، على اللقطات السريعة جداً، والمتدفقة وراء بعضها مع مفاجأة القطع. ومفاجأة بدء المشهد التالي. الفيلم إنتاج مشترك بين شركة مصر العالمية يملكها يوسف شاهين ومدينة الإنتاج الإعلامي ممثلة للتليفزيون المصري والمركز القومي الفرنسي وبعض محطات التليفزيون الفرنسية. وهذا التركيب هو ما عودنا علىه شاهين سواء في أفلامه التي يخرجها بنفسه، أو الأفلام التي يعطي الفرصة فيها لمخرجين شبان. ولذلك كان من الطبيعي أن يصور بعض مشاهد الفيلم في مشروع مترو الأنفاق. وهو واحد من إنجازات علاقات مصر الفرنسية. وأيضاً أن يكون المصور فرنسياً. وهو قدّم تصويراً مبهراً وجميلاً. وإن كان نقاء الصوت، تحول إلى حال من الازعاج بسبب ارتفاع صوته. ورنينه المعدني في صالة العرض ما شكل ضغطاً على الأذن وقدرتها على الاستماع. في آخر الفيلم شكر للجانب الفرنسي وللفنان فاروق حسني وزير الثقافة وللشيخة سعاد الصباح، التي أعرف عنها أنها لا تحب لقب شيخة، بقدر ما تحب أن يناديها الناس بالشاعرة أو الدكتورة أو المثقفة. نصل إلى مجموعة عمل الفيلم. وأبدأ بالوجهين الجديدين، بطل الفيلم أحمد وفيق الذي شارك في مشاهد قليلة في "الآخر". يقول بعض من يعملون مع يوسف شاهين انه تعب كثيراً من أجل الوصول إلىه وأنه بدأ عمله ممثلاً بفرقة المنصورة المسرحية، التي تعمل في إطار الثقافة الجماهيرية. جاء من المنصورة إلى استديو التصوير مباشرة. وهو لا يملك حتى الآن شقة في القاهرة. وهو حاصل على بكالوريوس التجارة، وسبق ومثل في مسرحية "بالعربي الفصيح" مع محمد صبحي. وكان الممثلون جميعهم في هذه المسرحية من الهواة. مشكلة أدائه أنه كان جزءاً من طريقة يوسف شاهين في كل شيء. وهذا يذكرنا مرة اخرى بأن يوسف شاهين يهيمن على ذاتية الفنان الذي يعمل معه. إنه ليس المخرج الذي يطلب من كل فنان أن يبدع من داخله، بعد الاكتفاء بشرح إطار الدور الخارجي له فقط. الفتاة تلعب دورها روبي، وغرابة اسمها جزء من غرابة أسماء جيل جديد من الممثلات مثلها في هذا مثل ممثلة شابة جديدة اسمها موناليزا، مشكلة روبي أنها تمثل ولكن بعينيها فقط. ربما كانت لديها حال تفوق في أداء العينين. ولكن لا يمكن الاعتماد علىهما فقط في الأداء. مصطفى شعبان يقدم محاولته السادسة في السينما. وإن كانت هي المرة الأولى التي يقدم فيها بطولة مطلقة. ظهر من قبل في أفلام "الشرف" و"فتاة من إسرائيل" و"القبطان" و"اتفرج يا سلام"، وانتهى من تصوير "دروس في الحب"، الذي يعتبره بطولته المطلقة الأولى، وإن كان لم يعرض بعد. وسبق له ان وقف على خشبة المسرح مع محمد صبحي في مسرحية "بالعربي الفصيح". إن كان مصطفى شعبان ظهر في "سكوت حنصور" مع لطيفة فهو يستعد لبدء تصوير فيلمه السابع "ممنوع الانتظار" عن قصة الدكتور أبو القاسم راجح عمر وسيناريو وحوار محمد كمال وإخراج حامد سعيد وتقوم بالبطولة أمامه المطربة باسكال مشعلاني. ويبدو أداء مصطفى شعبان معقولاً ومقبولاً في هذا الفيلم. إذا كان يوسف شاهين راهن في فيلمه السابق "الآخر" على تطويع نبيلة عبيد، وجعلها جزءاً من عالمه الفني، فإن رهانه هذه المرة على المطربة العربية التونسية لطيفة. ومن المعروف أن معظم المطربين والمطربات الآن يحاول طرق أبواب السينما. استغربت قبول لطيفة أن تكون بدايتها السينمائية في دور أم لابنة مراهقة. إن هذا يحرمها من تدرج الأدوار في ما بعد، إن كانت ستواصل هذا الطريق. أيضاً كانت هناك مشكلة نطق ومخارج ألفاظ العامية المصرية بالنسبة إليها. كنت أشاهدها وأتذكر جمال العامية المصرية على لسان صباح التي كانت تنطقها أكثر جمالاً من المصريين أنفسهم. ربما كانت لطيفة موفقة إلى حد ما في الغناء. أما في التمثيل فهي بحاجة إلى إعادة صوغ، خصوصاً أنها أدت أمام الكاميرا الدور نفسه الذي تقوم به في الحياة اليومية، أي دور المطربة، ولكن كانت هناك حال من الجمود الأدائي أو عدم التحليق الأدائي في الكثير من المشاهد. هل تصدق لطيفة أن أكثر لحظاتها حضوراً وتألقاً في الفيلم، كانت عندما طلبت منها أمها، وهي تحتضر، أن تغني لها "ليلة الوداع" لمحمد عبد الوهاب. عندها غنت لطيفة من دون موسيقى، ورن صوتها الشديد العذوبة والجمال في الصالة. حتى تمثيلها لحظة الغناء كان جيداً. فهل يعني هذا أن مستقبل المطرب العربي وراءه؟! أغاني الفيلم التي كتب واحدة منها الشاعر جمال بخيت، كانت مصرية الى حد الشوفينية القطرية. أما الموقف من الواقع المصري الراهن فكان له حضور ولكن ضمن منطق فيلم يحاول إعادة توليف الفيلم الداخلي ليوسف شاهين. الجديد في هذا الفيلم أن يوسف شاهين لم يعد يراهن على قضايا التنوير والعولمة التي كانت تتم على حساب جمالية الفيلم. ولكنه لم يعد أيضاً إلى أرض الواقعية، التي سبق ان قدم من خلالها أفلاماً جميلة وعذبة ما زالت الجماهير تحن إلىها حتى الآن مثل فيلمه التاريخي "الأرض". * روائي مصري.