بعد انقضاء تسعة شهور على انتفاضة الاقصى تحاول الولاياتالمتحدة، بالنيابة عن اسرائيل، اجبار الفلسطينيين على العودة الى "قفص" أوسلو. وتتعرض السلطة الفلسطينية الى ضغوط كي تعتقل أولئك الذين يشنون هجمات داخل اسرائيل، وتقدم اسرائىل لائحة محددة بأعضاء "حماس" و"الجهاد الاسلامي" الذين يجب احتجازهم فوراً. بالإضافة الى ذلك، يُطلب من السلطة الفلسطينية اتخاذ اجراءات لوقف الهجمات المسلحة داخل اسرائيل وضد المستوطنين والقوات الاسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين. إن مطلباً كهذا كان سيبدو في وقت مضى معقولاً، إذ كان آنذاك من اعتقد بأن اتفاقات اوسلو ستؤدي الى انهاء الاحتلال وازالة المستوطنات واقامة دولة فلسطينية. واليوم، بعد عشر سنين على بدء المفاوضات في مدريد وثماني سنوات على اتفاق اوسلو، يبدو الاحتلال الاسرائيلي اكثر رسوخاً واكثر شمولاً من أي وقت مضى. ومكّنت الطرق الالتفافية الجديدة، التي اُقيمت منذ مدريد، اسرائيل من تقسيم الاراضي المحتلة الى 12 كانتوناً كبيراً و64 كانتوناً صغيراً معزولة كلياً عن بعضها بعضاً. بالاضافة الى ذلك، ارتفع عدد المستوطنين في الأراضي المحتلة بحوالى 100 ألف بالمقارنة مع 1991. فضلاً عن ذلك، قتل اكثر من 500 فلسطيني وأصيب 12 الفاً آخرون بجروح منذ بدء الانتفاضة، معظمهم مدنيون ابرياء. على خلفية الاجراءات الاسرائيلية منذ 1993، وفي ضوء هذه الخسائر البشرية والحصانة الكاملة من العقاب التي يتمتع بها الجنود والمستوطنون الإسرائيليون الذين تسببوا بها، لا ينبغي للجانب الفلسطيني ان يستجيب حتى لمجرد النظر في طلب اعتقال اولئك الذين يهاجمون مدنيين اسرائيليين أو منع الهجمات على المستوطنين وقوات الاحتلال في الاراضي المحتلة. ولكن ماذا يمكن القيام به لمواجهة الضغوط المسلطة على الجانب الفلسطيني من الولاياتالمتحدة، والمدعومة بحصار اسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، والتي يُحتمل ان تُدعم بنداءات اوروبية وعربية ودولية تدعو الى "وقف العنف"؟ إذا كرّر الجانب الفلسطيني ما كان يفعله في السابق، التفاوض سراً وعدم اتخاذ موقف مبدئي او عدم الافصاح عن موقفه على نطاق واسع وبوضوح، فان الحصيلة ستكون محتومة: إما ان يُجبر على قبول ما لا يمكن قبوله، وإما انه سيُحمل المسؤولية عن "الوقوف ضد السلام". كيف يمكن الفلسطينيين ان يخرجوا من هذا الفخ الاميركي - الاسرائيلي المصمم إما لإعادتهم الى قفص اتفاقات اوسلو، وإما لتبرير المزيد من الاعتداءات الاسرائيلية عليهم؟ من الضروري أولاً بالنسبة الى السلطة الفلسطينية ان تتخذ موقفاً واضحاً مبدئياً: كل الاعتداءات على المدنيين الابرياء مرفوضة، ينبغي للجانب الفلسطيني ان يدينها من دون غموض. ولكن في مقابل مقتل أقل من مئة من المدنيين الاسرائيليين الابرياء وجرح 800 نتيجة تفجيرات وهجمات انتحارية داخل اسرائيل، يجب ان نضع المئات من المدنيين الفلسطينيين الابرياء الذين قتلوا والألوف الذين جرحوا داخل الاراضي المحتلة. واذا كان يتعين اعتقال الذين كانوا مسؤولين عن قتل وجرح اسرائيليين ابرياء، ينبغي ايضاً اعتقال اولئك المسؤولين عن ارتكاب ما يفوق ذلك اضعافاً مضاعفة من اعمال القتل والتشويه بحق الفلسطينيين الابرياء. وإذا كان يتوقع من الفلسطينيين ان يمنعوا بصرامة أي هجوم على مدنيين اسرائيليين داخل اسرائيل، ينبغي ألا يفعلوا ذلك الاّ شرط ان تُمنع بصرامة ايضاً الاعتداءات الاسرائيلية على المدنيين الفلسطينيين من الجيش أو المستوطنين. وبمقدار ما يتعلق الامر بالمستوطنين والجنود، فإن صيغة اوسلو مفلسة تماماً: لا يحق لإسرائيل اطلاقاً ان تطلب من الفلسطينيين او أي جهة اخرى حماية مستوطنات غير شرعية وسكانها، او جنود احتلال غير شرعي سيصبح في غضون اقل من سنة الاطول في التاريخ الحديث الاحتلال الياباني لكوريا، من 1910 الى 1945، يعد الأطول حالياً. بعد عشر سنين من التوسع الاستيطاني وتعزيز الاحتلال لا يوجد أي سبب يدعو الفلسطينيين الى ان يثقوا بحسن نوايا اسرائيل. ولا يمكن لاسرائيل ان تطلب وقف الهجمات على المستوطنين وقوات الاحتلال الاّ اذا بدأت بتفكيك بعض المستوطنات وسحب قواتها، أقلها الى حدود الانسحابات وفقاً للمرحلة الثالثة التي كان يُفترض ان تنجز قبل اكثر من سنتين. صممت كفار داروم ونتساريم، ومستوطنات اخرى كثيرة، لتكون "نقاط خنق" تجعل الحياة الطبيعية مستحيلة بالنسبة الى الفلسطينيين. لذا يجب ان تكون هذه أول مستوطنات تتم ازالتها. ولا يعوّض "تجميد النشاط الاستيطاني"، الذي يستحيل التأكد منه ولا يعني شيئاً في كل الاحوال، عن تفكيك بعض المستوطنات وسحب قوات الاحتلال كخطوة اولى تسبق العودة الى المفاوضات. ولا يمكن الاّ بعد انجاز هذا كله، بعد توقف اعتداءات القوات الاسرائيلية والمستوطنين على المدنيين الفلسطينيين، وسحب قوات الاحتلال، وبعد وقف هجمات الفلسطينيين على اسرائيل والمستوطنين وقوات الاحتلال مقابل ذلك، ان تبدأ مفاوضات جدية في شأن القضايا النهائية المتبقية بين الطرفين. لكن تحقيق أي شيء من ذلك يقتضي حدوث تغير في ميزان القوى، وهذا بدوره يقتضي تغييراً جذرياً في طريقة اداء الجانب الفلسطيني. فطرح مثل هذا الموقف، بالاستناد إلى القانون الدولي والمبادئ الأساسية للعدالة والانصاف، لن يؤدي الى شيء اذا لم ترافقه اوسع حملة ممكنة لتوضيح هذا الموقف ونشره على كل مستوى: فلسطينياً وعربياً ودولياً واميركياً واسرائيلياً. سيقتضي ذلك توضيح هذه المطالب الاساسية، وما يبررها، للرأي العام الفلسطيني. وقد يعني هذا مناشدة الشعب الفلسطيني تقديم مزيد من التضحيات - لأن اسرائيل لن تقبل بسهولة، بالطبع، مثل هذه الشروط - ولكن بهدف واضح ومحدد. سيعني ذلك انه اذا لُبيّت هذه المطالب في النهاية، أي إذا أوقفت الاعتداءات على الفلسطينيين وسحبت قوات الاحتلال من بعض المناطق وفكّك بعض المستوطنات، فإن الانتفاضة ستنتهي، وستتوقف الهجمات على اسرائيل والاسرائيليين. وإذا اُعتقل مجرمو الحرب الاسرائيليون الذين اصدروا الاوامر بقتل المدنيين الفلسطينيين الابرياء، وحوكموا - وهو احتمال مستبعد - فإن الفلسطينيين الذين هاجموا اهدافاً مدنية اسرائيلية سيُعتقلون ويحاكمون ايضاً. وفي ما يتعلق بمقاومة قوات الاحتلال والمستوطنين غير الشرعيين، فإنه عمل مشروع بموجب القانون الدولي. وفي الوقت الذين يمكن وينبغي وقف عمليات المقاومة إذا وفقط اذا انهي الاحتلال والاستيطان، فإن أولئك الذين نفذوا هذه الأعمال في الماضي لا يمكن ان يلاحقوا قضائياً. يجب ان تتضمن هذه الحملة ايضاً توضيح الموقف الفلسطيني للرأي العام العربي. وسيعني هذا التصدي للمزايدات والكلمات الطنانة المهتاجة التي يطلقها بعضهم في العالمين العربي والاسلامي ممن يقفون بعيداً عن فلسطين ولكن يدعون الى القتال حتى موت آخر طفل فلسطيني. يجب ان يُطلب بوضوح من الشعوب العربية، خصوصاً ان تطالب حكوماتها بممارسة ضغوط على الولاياتالمتحدة واسرائيل كي تستجيبا مطالب الفلسطينيين، بدلاً من ان تُستخدم هذه الحكومات من جانب الولاياتالمتحدة واسرائيل أدوات للضغط على الفلسطينيين. يجب أن تتضمن حملة كهذه التصدي لآلة الدعاية الاسرائيلية عالمياً، خصوصاً في الولاياتالمتحدة، حيث لا يُبذل أي جهد عملياً من السلطة الفلسطينية أو الحكومات العربية لتوضيح الموقف الفلسطيني او العربي. واذا كان المطلوب تحييد الضغوط العالمية على الفلسطينيين، يجب ان تكون هناك أيضاً حملة قوية ومتطورة على هذا المستوى. لكن الاهم من ذلك كله بذل جهد للرد على مساعي العشرات من السياسيين والديبلوماسيين والجنرالات وضباط الاستخبارات والاكاديميين الاسرائيليين وغيرهم الذين يزورون الولاياتالمتحدة كل شهر للتعريف بالموقف الاسرائيلي. إذا كنا خسرنا الحرب الاعلامية في الولاياتالمتحدة خلال السنة الماضية، فإن السبب لا يرجع إلاّ لأننا لا نخوض هذه الحرب. فأين الكثرة، من الفلسطينيين وغيرهم من العرب، القادرة على توضيح القضية الفلسطينية للجمهور الاميركي؟ من بين الشخصيات الفلسطينية البارزة، لم يتعامل بجدية كافية مع هذا الميدان الحاسم سوى الراحل فيصل الحسيني، وكذلك حنان عشراوي وبضعة اشخاص آخرين، ليخصصوا وقتاً ذا شأن من اجل التعريف بالقضية الفلسطينية في الولاياتالمتحدة. لكن هذا ليس كافياً للتصدي لكتائب الناطقين الاسرائيليين الذين يتوافدون على الولاياتالمتحدة كل شهر. بالإمكان التصدي لهم، لكن المفجع انه لا يُبذل جهد يذكر للقيام بذلك من الاشخاص الذين يستطيعون وحدهم انجازه في شكل فاعل: ناطقين فلسطينيين وعرب قادرين على معالجة الامور في شكل موثوق، يدافعون عن موقف مبدئي واضح ويتحدثون انطلاقاً من تجربة شخصية. أخيراً، من الضروري مخاطبة الاسرائيليين، باللغة العبرية، عبر وسائل اعلامهم ذاتها، وان توضّح لهم ما هي مطالب الفلسطينيين الاساسية، وانه اذا لُبيّت يمكن ان يتحقق السلام بين الشعبين، فإذا لم يلبوها عليهم الاّ يتوقعوا من الفلسطينيين ان يوفروا لهم الأمن بينما يقتل جنودهم ومستوطنوهم المدنيين الفلسطينيين الابرياء في منازلهم وشوارعهم، وبينما يصبح الاحتلال اكثر رسوخاً، ويستمر توسيع المستوطنات. يجب العمل لجعل الإسرائيليين يدركون أن لديهم خياراً بالفعل، واقناعهم بزيف ما تريد الحكومة الاسرائيلية ان يصدقوه: انهم لا يملكون أي خيار وان الفلسطينيين لا يريدون شيئاً سوى تدمير دولة اسرائيل. ما لم يتخذ الجانب الفلسطيني موقفاً مبدئياً كهذا، ويتمسك به أياً تكن التضحيات، ويوضّحه للاصدقاء والاعداء ولاولئك الذين يقفون في الوسط، لن يكون هناك أي أمل بأن تؤدي تضحيات انتفاضة الأقصى الى نتيجة ايجابية. اما الاستمرار في السياسات الحالية الضعيفة وذات الطابع التكتيكي التي تتعامل بردود الفعل، المستندة إلى اتفاقات لم يعد الجانب الاسرائيلي يلتزمها منذ وقت طويل، فإنه وصفة لكارثة اخرى تحل بالفلسطينيين. ان ذلك يعني اما العودة الى قفص اتفاقات اوسلو، وهو ما لن يحتمله الشعب الفلسطيني طويلاً، وإما اعطاء الحكومة الاسرائيلية الحالية الذريعة التي تريدها لتوجيه مزيد من الضربات الى الشعب الفلسطيني. من الضروري ان تصحح هذه السياسات الفاشلة، وان يجري تبني سياسات صائبة، قبل ان تفرض اسرائيل والولاياتالمتحدة على الفلسطينيين خياراً مريراً. * رئىس اللجنة الاميركية للقدس.