"توازن الرعب" الذي قام على أنقاض برجي مركز التجارة العالمية في نيويورك وأشعل قلب البنتاغون في واشنطن، لم يكسر القواعد التقليدية للحرب فقط، بل هزّ أيضاً أركان النظام الدولي الذي أعلنته الولاياتالمتحدة إثر سقوط الحرب الباردة وحرب الخليج الثانية. لذلك يصعب على أميركا ألا ترد بما يصحح هذا التوازن ويعيد الهيبة والكرامة، وما يستتبع ذلك من تبدل في العلاقات الدولية والخرائط هنا وهناك، ويعيد اللعبة إلى حدود الحلبات المرسومة. "يوم الطائرات الانتحارية" الذي أدمى أميركا وزرع الرعب في أوصال العالم، كل العالم، كشف أن "توازن الرعب" لم يعد يستلزم بناء ترسانة من أسلحة دمار شامل يستحيل أخلاقياً وإنسانياً استخدام قدرتها على التدمير وزهق الأرواح. لذلك لن يكون سهلاً إلغاء هذه المعادلة ومعها حال التوتر والذهول التي أصابت المجتمع الدولي... ما دام هناك رجل مستعد لاعتبار نفسه سلفاً أول الضحايا! ولن يكون سهلاً على الولاياتالمتحدة تحديد العدو الذي طرق بابها ونقل الحرب وإرهابها إلى بيوت مواطنيها ومكاتبهم وإداراتهم. فالقوة العظمى الوحيدة المهيمنة التي تدير العالم وتفرض قواعد نظامه الدولي بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، السياسية والعسكرية والاقتصادية، أعداؤها كثر: من مناهضي سياساتها في الشرق الأوسط وأنحاء أخرى من العالم، إلى مناهضي العولمة ومنظمة التجارة العالمية التي لا تقيم وزناً للحدود الجغرافية، ولا تقف وحشيتها عند حدود معاناة الفقراء، دولاً وشعوباً ومجتمعات، ليس في جنوب القارة فحسب بل في شمالها وفي عقر دار الدول الصناعية... ولائحة المواجهات التي قادها الرئيس جورج بوش في الشهور القليلة من ولايته تطول، من معاهدة كيوتو إلى الدرع المضادة للصواريخ إلى الموقف المتشدد في مؤتمر ديربان قبل أيام، إلى تجاهل ما يجري في فلسطين... ولكن لن يكون صعباً على القوة العظمى الوحيدة أن تفرض على الآخرين، دولاً ومجتمعات، تسليمها "المطلوبين" على "لائحة الإرهاب" التي تنشرها كل سنة. لن يكون صعباً أن تترجم الدعوات إلى تضافر الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب، إلى ما يشبه التحالف الدولي الذي أنشأته يوم اجتاح العراقالكويت وانتهى بإعلان ولادة النظام الدولي الجديد. لا مفر من أن تثأر الولاياتالمتحدة لكرامتها وموقعها في قيادة العالم. لكنها لن تنجح في النهاية في ضمان المستقبل الآمن. ولن تكون قادرة على اقتلاع الإرهاب، أياً كان مصدره وأياً كان سلاحه وموقعه، ما لم تتبدل نظرتها إلى كيفية بناء مصالحها وسبل المحافظة عليها، عبر بناء شبكة من العلاقات تقيم اعتباراً لمصالح الآخرين، ضعفاء أو أصحاب حقوق لا قدرة لهم على فرض هذه المصالح والحقوق... وما لم تراعِ في سعيها والمجتمع الغربي عموماً إلى ترسيخ قيم وقواعد ونظم وقوانين، خصوصيات مجتمعات مغايرة بتقاليدها وثقافاتها وقيمها، وما لم تراعِ أيضاً الشروط والظروف المحيطة بنمو هذه المجتمعات وتطورها في شتى المجالات. يصعب البحث عن مبررات مقنعة لهذا الإرهاب الذي يضرب المدنيين الآمنين في مكاتبهم ومنازلهم، ففيه من العبث بأرواح الناس ومن الجنون والهستيريا ما لا يمكن إيجاد أسباب تخفيفية له. إنه العنف الذي يقود الآمنين المستهدفين إلى الخوف على وجودهم ومصيرهم ويدفعهم إلى الارتماء في أحضان العنصرية ويزيدهم حقداً على "الآخر" وحباً في الانتقام والقتل... وتجربة المجتمعات والحركات المقاومة من أجل حقوقها التي وقعت في خطأ ضرب المدنيين بهدف تحريكهم ضد حكوماتهم فشلت في كسب الرأي العام فشلاً لا تزال عبره ماثلة. لكن "الثأر" الذي تشحذ له الهمم اليوم لمعاقبة المعتدين على القوة العظمى، لن يؤدي هو الآخر الهدف، ما لم ترافقه السياسة بما هي سعي إلى بناء نظام دولي يقيم وزناً لمفاهيم العدالة والحقوق، ويعير اهتماماً للفقراء والمضطهدين الضعفاء. أما أن تتصاعد وتيرة بعض الأصوات الغربية لترسيخ فكرة الصراع الحضاري الحتمي بين الغرب الصناعي والشعوب "الأخرى"، وأن تواصل إسرائيل ومن يواليها في العالم الدعوة إلى تبني فكرة "استعداء الإسلام" بديلاً من الاتحاد السوفياتي، استراتيجية وسياسة عليا، والدعوة إلى تصفية ما بقي من قضية فلسطين والعرب... فتلك بداية الانزلاق إلى نظام يؤسس لشرعنة الإرهاب وتفريخه في كل مكان لتسود قوانين الغاب!