منذ فترة، انتشرت درجة "قديمة" وهي هجاء المثقفين وتسفيه شخصياتهم ومهنتهم. وغالباً ما يأتي هذا الهجاء والتسفيه من قبل أشخاص يعتبرون في عداد المثقفين أنفسهم. وبهذا يكون هذا الهجاء نوعاً من "جلد الذات"، وجلد الذات عملية نفسية غالباً ما تكون تكفيراً عن آثام حقيقية، أو متخيلة، كما هو معروف في علم النفس. مصدر آخر لهجاء الثقافة والمثقفين، وغالباً ما يأتي من "السياسيين"، وهؤلاء في أغلبهم، وخصوصاً في العصور الحديثة، والبلدان المتخلفة تحديداً، يأتون من بين صفوف المثقفين المذمومين إياهم، إلا أن دخولهم في تنظيمات سياسية و"قبضهم" على مراكز السلطة والادارة يخلق لديهم نفسية جديدة ووضعاً ومصالح خاصة، تتعدى الثقافة بمفهومها المعرفي، بل إن كثيراً من السياسيين يبقون طوال حياتهم يحسون بحنين أو "بعقدة نقص" تجاه الثقافة والمثقفين بعد أن خرجوا من دائرتهم الخاصة، ولهذا فإن أول ما يفعلونه عندما "يستولون" على السلطة هو الاستيلاء على - إن لم نقل شراء - شهادة "دكتوراه" ربما بسبب إدراكهم الدفين لأهمية الثقافة، وشاراتها ورموزها وألقابها ورتبها الشكلانية. يأتي العداء للمثقفين والثقافة من طرف السياسيين لأسباب كثيرة أهمها ان من طبيعة الثقافة، أو من وظيفتها، أن يكون المثقف ضميراً جهير الصوت للمجتمع و"الحقيقة" من دون أن يكلفه أحد بذلك، وبالتالي ألا يسكت عما يراه خطأ وباطلاً، وقد مارس هذا الدور رجال الدين قديماً - كالإمام الأوزاعي والعز بن عبدالسلام - عندما كانت هذه الفئة تمثل المثقفين في العصور الوسطى، ومارسه المثقفون "العلمانيون" في العصر الحديث، ومنذ قضية دريفوس، وموقف إميل زولا منها، كما هو معروف في فرنسا أواخر القرن التاسع عشر، وصولاً الى موقف عباس محمود العقاد من محاولة الملك فؤاد تجاوز الدستور، في ثلاثينات القرن العشرين في مصر، الى مقالات طه حسين ومحمد مندور السياسية، الى كثير من الكتابات والمواقف السياسية والفكرية للمثقفين والأدباء في البلاد العربية منذ جمال الدين الأفغاني، مروراً بعلي الوردي وحسين مروة وأدونيس وعبداللطيف اللعبي وصادق العظم وسيد قطب وجمال الأتاسي وفؤاد زكريا ومحمد عابد الجابري ووصولاً الى ميشيل كيلو وعبدالرزاق عيد وعارف دليلة... الخ في سورية، مروراً بشهداء 6 أيار مايو في سورية ولبنان، والذين كانوا في حقيقتهم طلائع التنوير والعمل الثقافي والسياسي في البلاد العربية في مطلع القرن العشرين، وما زال أحفادهم يتناسلون، لكن من دون مشانق، لحسن الحظ، حتى اليوم. الأحيان، أقل من قرار يتخذه السياسي، فيؤثر في مصائر البشر أكثر من مقالات وخطابات الكتَّاب والمثقفين، فيما يرى السياسي، أضف الى ذلك أن المثقف ساخر ويبحث عن النواقص والعيوب، أما السياسي فهو "رسمي" يبحث عن الأمجاد والانتصارات. يتمتع السياسي، غالباً، بجماهير واسعة، ويتنعم بالسلطة وببهارجها وآلائها، أما المثقف، ف"مفلوك" بحسب التعبير القديم، أو مصاب، أدركته "حرفة الأدب" يعيش فقيراً، حسوداً، طامحاً في مراكز السلطة، ورانياً بعينيه اليها، كما يقول السياسي، أو ان هناك تناحراً أو تناقضاً، بين سلطتين، سلطة الثقافة، وسلطة السياسة، كما قد يقول المثقف. يرى المثقف ان "الثقافة قوة" بينما يرى السياسي ان "القوة ثقافة" وهنا يتدخل الجيش ليبرز للاثنين - المثقف والسياسي - من هي القوة الحقيقية، يرتاح السياسي لسكون الأوضاع وهدوئها، وحتى ولو كانا ظاهريين، وخصوصاً إذا كان في السلطة، أما المثقف فيرتاح للتغيير والحركة، وخصوصاً إذا كانت الأوضاع سيئة، لأنه يرى أن الحياة هي تغير وحركة وسعي نحو العدالة. يرى السياسي أن لكل نضال نهاية، وهذه النهاية هي تحقيق برنامجه، أو، بصريح العبارة، الوصول الى السلطة، بينما يرى المثقف أن لا نهاية للعمل طالما الحياة مستمرة، وتتجدد بتجدد مشكلاتها وأسئلتها. يغرم السياسي ب"النضال السري" ويبقى "نضاله سرياً" حتى ولو كان في قمة السلطة. أما المثقف فمغرم بالعلنية، وربما بالاستعراضية في كثير من الأحيان، والصفة الأخيرة يشاركه فيها السياسي، لكن من دون الوقوع في حبائلها دائماً. يستطيع السياسي أن "يشتري" مثقفاً، أما المثقف، فلا يستطيع أن يشتري سياسياً أو شيئاً، تماماً مثلما يستطيع الضابط أن يشتري سياسياً، بينما لا يستطيع السياسي أن يشتري ضابطاً، ومن هنا فوهم كثير من المثقفين العرب بتجسير المسافة، أو الهوة، بين المثقف والأمير هو في نتيجته، مثل وهم كثير من السياسيين بإمكان استخدام الضباط في مشاريعهم، وهو وهم نابع من عدم تقديرهم لطبيعة القوى بين طرفي المعادلة هذه، ومدى أو نوعية امكانات كل منهما، فالأمير يستطيع أن يضع المثقف أو الفقيه في خدمة أغراضه ومشاريعه، أما المثقف "العنيد" فيبقى شبه أعزل إلا من قلمه وكرامته، إن وجدت، وربما لهذا السبب، رفض الإمام أبو حنيفة أن يتولى منصباً عند السلطان بينما حذّر عبدالله بن المقفع من الركون والأمان للسلطان، وربما من هذا الاختلال بين طرفي المعادلة "طرد" "الضابط السلطان البشير" في السودان، الفقيه حسن الترابي من السلطة، عندما توهم الفقيه انه الأقوى في طرفي المعادلة الواضحة. يسيطر السياسي على عمله وعلى لغته، أما اللغة والعمل فيسيطران، في كثير من الأحيان، على المثقف، وينقاد وراءهما حيث يقودانه، في كثير من الأحيان، الى مجاهلهما غير المحسوبة. بالطبع ستطول "قائمة" المفارقات والموازنات وربما الاتهامات المتبادلة بين السياسي والمثقف، وربما بين السياسي والضابط، أو بين العملي والنظري كما يقولون، لكن العجيب، هذه الأيام، هو هجاء المثقفين لأنفسهم ولمهنتهم - إن صح ان الثقافة مهنة - ويبدو انها مهنة، بدليل أن أصحابها يعيشون منها، فمن خيانة وأفيون المثقفين، لدى جوليان باندا، وريمون آرون، الى تصريحات كتابات بعض السياسيين والمثقفين العرب هذه الأيام - لا حاجة الى الأسماء - في هجاء الثقافة والمثقفين وإعلان موتهم، وبوار مهنتهم التي يدعونها، وهي أن يكونوا ضمير بلادهم ومجتمعاتهم، إن لم نقل ضمير الانسانية، وفي المقابل كان هناك دفاع جان بول سارتر المجيد عن "المثقفين". العجيب في أمر "هجائي" الثقافة والمثقفين العرب الجدد، أنهم مثقفون، وغالباً دكاترة ثقافة، وأنهم، بهجائهم للثقافة، إنما يمارسون دور المثقفين، في التعبير عن آرائهم وآراء غيرهم، أو عن آراء سائدة، ويتصدرون في التلفازات والفضائيات وينشرون صورهم الكبيرة بالألوان، وفي أوضاع مختلفة - كأي شخص متطاوس - في الصحف والمجلات، ولا يتورعون عن التكسب والعيش والشهرة من طريق هجاء المهنة التي "يأكلون خبزهم" من ممارستها وشتمها، أو جلد الذات من طريقها، وعلى كل حال فجلد الذات وهجاء المثقفين لمهنتهم أمر جديد، بينما هجاء، وربما بغض السياسيين والسلاطين والضباط والحكام للثقافة والمثقفين، أمر قديم، وقد يكون مفهوماً. أما الطرف الثاني من "هجَّائي" الثقافة، فيتمثل في "المثقفين السياسيين"، أي "مثقف أجهزة الدولة" وهو مثقف جديد ابتدعه النموذج السوفياتي في الدولة الحديثة، وسارت عليه كل الدول التي تسيطر على وسائل الاعلام والثقافة والتربية، فتضع السلطة في هذه الدول من يتفق مع خطها ومصالحها، وربما من يرضخ ويتكسب في الواجهة الاعلامية والثقافية والتربوية، وتعتبر البلاد العربية في غالبيتها، بعد نموذج الاتحاد السوفياتي، والكتلة الشرقية السابقة، من أنجب تلاميذ هذه المدرسة، ففي هذه المدرسة، يمكن أي موظف مرضٍ عنه من موظفي الدولة، أن يصبح مثقفاً كبيراً، أو روائياً، أو شاعراً، أو باحثاً، أو حتى رئيساً لاتحاد الكتاب، وربما عميداً للجامعة، في هذه المدرسة يمكن ممثلاً مسرحياً من الدرجة الثالثة، أو ضابطاً لا عمل له طالما وجدوا له "شاغراً" في "مكان ثقافي ما" أن يصبح منظراً وسياسياً و"مثقفاً" مثلما يمكن أي وزير، ومديراً عاماً أو ضابطاً، أن يحصل على شهادة دكتوراه، في الأدب، والفلسفة، وهو جالس في مكتبه، من دون أن يكتب مقالة - إن لم نقل كلمة واحدة - والأمثلة كثيرة ومعروفة، ولا سيما في بلدنا العزيز سورية، وبالطبع يؤدي ذلك الى عقد نقص وحقد تجاه الثقافة والمثقفين، من ناحية، والى امتهان أو عدم احترام الثقافة والمثقفين، من ناحية ثانية. ربما من هنا - أيضاً - يأتي العداء للثقافة وهجاؤها، أي من عقدة النقص هذه، إياها، والتي تقود بدورها الى تسفيه و"تتفيه" الثقافة، إذ يتولد لدى الكثيرين شعور بأن الثقافة عمل هين ومهين، وهي مجرد وظيفة شاغرة، أو لقب سهل المنال، أو علاقة بالسلطة، أو صور ملونة في الجرائد، وظهور متكرر في التلفاز، وقد يمتد هذا التصور حتى الى الناس العاديين، الذين يفقدون احترامهم للثقافة بعد أن يروا مدى ثقافة وممارسات ومدى طغيان وانتشار هذا النوع من "المثقفين" الذي تحدثنا عنه، في المناصب والجرائد ووسائل الاعلام والثقافة والجامعات. وهكذا تفقد الثقافة أو يفقد المثقفون اعتبارهم في المجتمع، وتصبح الثقافة مجرد منصب وحظوة وامتياز ولقب وكلام باسم "السلطة" التي تضع من يواليها في واجهتها ومناصبها وأجهزة الإعلام والثقافة المحتكرة من قبلها، وتمنع نشوء الأجهزة الثقافية الحرة. بالطبع من الصعب أن يحدث ذلك في المجتمعات التي لا تسيطر فيها الدولة على وسائل الإعلام والنشر والثقافة، ففي مثل هذه الأنظمة الأخرى ثمة علاقة مباشرة ما بين المثقف والشعب، ما بين القارئ والكتاب - مثلاً - من طريق النشر والإعلام والوجود الحر والعلني، والشعب أو القارئ، هو الذي يحدد أهمية الكاتب، أو المثقف ومكانته، من طريق شراء أو عدم شراء أعماله، وعن طريق الاطلاع على تعدد الآراء ومقارنتها دون حاجب السلطة وأجهزتها، على أن الوضع في الحالتين، يكشف عن أهمية الثقافة ودورها المستمرين منذ نطق أول انسان بكلمة حق، أو كلمة كذب، الى أن مُنع أو "أجيز" آخر كتاب، أو قلم، أو رأي مستقل. * كاتب سوري. والمنشور أعلاه فصل من كتاب يصدر قريباً في دمشق.