عجيب أمر بعض القراء، يرى الواحد منهم القشة في عين ولا يرى الخشبة في عين أخرى. والقارئة يمنى عبدالله التي تدرس في لندن، تقول انني أهاجم الولاياتالمتحدة لأنني لا أجرؤ على مهاجمة الدول العربية، وتسألني أين الديموقراطية وحكم القانون في هذه الدول؟ وأسأل معها: أين حرية القول والتجمع، وأين الشفافية والمحاسبة، وأين وأين؟ القارئة يمنى التي تدرس اللغات الحديثة علقت على مقال لي الأسبوع الماضي قلت فيه ان الولاياتالمتحدة أول دولة خارجة على القانون في العالم، وانها أول "تاجر موت". ثم قدمت أدلة ثبوتية من مصادر اميركية خالصة عن رفضها محكمة دولية مسؤولة عن جرائم الحرب، وعن بيعها وحدها نصف السلاح في العالم. هذه حقائق لا ينقص منها أو يزيد أن يكون بلد عربي ديموقراطياً أو غير ديموقراطي، وأنا لم أتحدث عن الديموقراطية أصلاً، ولكن اذا طلبت القارئة رأيي فهو ان الديموقراطية الاميركية للأثرياء والأقوياء، وانني أفضل الديموقراطية الأوروبية، التي تحمي الفقراء والضعفاء. غير هذا أقدر ألا تفهم القارئة الربط بين الدفع للأمم المتحدة ومعارضة المحكمة الدولية. وأنا لم أربط شيئاً وإنما فعل ذلك المشترعون الأميركيون، فهناك اسلوب أثير عندهم، هو ان يربطوا مشروع قانون بثانٍ وثالث وربما عاشر. ومثلاً، فالنائب قد لا يوافق على مشروع الموازنة العامة إلا اذا ألصق به مشروع قانون لفتح طريق في ضاحية من بلدة يمثلها. وربما كنت أبديت رأيي بقسوة، إلا أن رأي الأوروبيين في الولاياتالمتحدة من رأيي حتى لو استعملوا لغة ديبلوماسية. وقد أظهرت استفتاءات للرأي العام في المانيا وبريطانيا وفرنسا وايطاليا معارضة السياسة الخارجية الأميركية واعتبار الأوروبيين ان ادارة بوش تتخذ القرارات على أساس المصالح الأميركية وحدها، ولا تهتم بالحلفاء. وكانت نسبة الاستياء قياسية، بلغت 73 في المئة، وهناك ردود مماثلة على أسئلة اخرى. واذا كانت الولايات تسيء الى حلفائها، فماذا يمكن أن نتوقع نحن منها؟ على كل حال لا أريد أن أوقف زاوية اليوم على رسالة واحدة، وإنما أقول للأخت يمنى انني أنتقد الدول العربية معها، غير ان الضرب في الميت حرام، لذلك أكمل مع الأحياء. أفترض أن القارئ "عراقي بلا هوية" حيّ يسعى، مع انه يتحدث في رسالة طويلة عن "المأساة العراقية من قتل وتعذيب واغتصاب واعدامات بالجملة والمفرّق، بالرصاص والحوامض، بالدبابات وقنابل النابالم والأسلحة الكيماوية". القارئ بدأ رسالته بالقول انني على حق عندما اتهم الدول الغربية، خصوصاً الولاياتالمتحدة، بازدواجية المعايير في تناول قضايا العالم العربي، وعلى حق أيضاً في القول ان السياسة الاميركية التي تقف وراء آرييل شارون انما هي مشاركة في الجريمة والتشجيع الفاضح على القتل. غير ان القارئ يضيف ان ما يحدث في العراق اليوم أضعاف ما يحدث في فلسطين، وهو أفظع لأنه يرتكب بأيدي عراقيين، ويزيد: "الصحافة العربية تتفرج على المذبحة العراقية، بل هي تبارك وتشارك في الجريمة، عندما تصمت وتسكت وتخرس ولا تقول كلمة حق صادقة...". أقول للقارئ انه يريد من الكتاب مثلي الذين يوقعون ما يكتبون بأسماء صريحة، وعناوينهم معروفة، أن يكتبوا، اما هو فيكتفي باللقب "عراقي بلا هوية"، ومن دون عنوان، وهو بالتالي يريد من الكاتب المصري أو اللبناني أو السوري أو الفلسطيني ان يغامر بحياته، اما هو فلا يفعل مع أن القضية قضيته قبل كل الكتاب الذين يحثهم على الكتابة. أهم من هذا بكثير ان الموضوع العراقي ليس محسوماً كما يتصور، فهناك عرب كثيرون، ربما غالبية، يؤيدون النظام العراقي. وأنا شخصياً مع الكويت قبل الاحتلال وخلاله وبعد التحرير والى اليوم، الا أن موقفي هذا لا يعني أن أنكر ما أرى في كل بلد عربي، أو أسمع، فهناك غالبية عربية تؤيد صدام حسين، وهي مخطئة في هذا التأييد إلا أنها موجودة ولا سبيل لإنكار ذلك. ونقطة أخيرة، فالرسائل التي لا تحمل توقيعاً صريحاً وعنواناً تهمل، غير انني تعاملت مع هذه الرسالة لأنها غير موقعة، ثم تطلب من الصحافة العربية كلها أن تناضل نيابة عن صاحبها. أفضل مما سبق رسالة من الأخ خالد الحروب، الأستاذ الزائر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة كامبريدج، عن عرضي كتاب ادوارد فوكس "فجر فلسطين: مقتل الدكتور ألبرت غلوك والآثار في الأرض المقدسة". الأستاذ الحروب يبدي دهشته من ترجيح المؤلف مسؤولية حماس عن مقتل عالم الآثار، بعد تقديم نظريات عدة، منها قصة غرام مع شابة فلسطينية، ومنافسة اكاديمية مع زميل في جامعة بيرزيت، وخوف اسرائيل من نتائج أبحاث غلوك. وهو يقول: "ترجيح نظرية مسؤولية حماس لا أساس علمياً أو بحثياً له. فكل من يتابع تاريخ عمليات حماس واستخدامها السلاح يدرك هشاشة هذا الترجيح. وأتعجب حقاً كيف يمكن أن يصل بحث علمي معمق الى نتيجة غير علمية مسطحة. وأسوق هذا الكلام ليس دفاعاً عن حماس، بل بحكم متابعتي لمسيرتها السياسية والعسكرية، ففور حادث مقتل الدكتور غلوك أصدرت حماس بياناً دانت فيه الاغتيال بشدة، وأشادت في سياقه بأعمال الدكتور غلوك ودراساته التي قالت عنها انها كانت تهدف الى اظهار قيمة تراث الشعب الفلسطيني...". وقد ورد بيان حماس في حينه في كتاب بالانكليزية لخالد الحروب عنوانه: "حماس: الفكر السياسي والممارسة"، وهو مرجع أكاديمي ممتاز في موضوعه. وكنت عندما عرضت كتاب ادوارد فوكس استغربت أيضاً ترجيح مسؤولية حماس، مع وضوح اسلوب اسرائيل في التنفيذ، ووجود اسباب اسرائيلية طاغية لقتل عالم آثار يحاول أن ينسف أسس النظريات الصهيونية عن فلسطين. وأكمل غداً.