خروج آخر جندي اميركي من العراق مع نهاية هذا العام هو مسمار آخر يُدق في نعش الامبراطورية، أو مشروع المحافظين الجدد والليكوديين الاميركيين من أنصار اسرائيل. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهناك هيمنة اميركية على بقية العالم، إلا أن ما بدأ دعماً لحرية الشعوب، ومشروع مارشال لإعادة تعمير اوروبا وإقالة اقتصادها من عثاره، والنقطة الرابعة لمساعدة دول العالم الثالث، انتهى في العراق على شكل التعذيب في أبو غريب، واستباحة ثروات البلاد وإطلاق الفساد على كل صعيد، مع طائرات بلا طيار تقتل المدنيين قبل أي إرهابي حقيقي أو مزعوم مستهدف بصواريخها. السياسة الخارجية الاميركية سقطت مع استنزاف القدرات العسكرية والمالية لبلد له مئات القواعد العسكرية حول العالم ومليون عسكري ومدني في الخارج لحماية المشروع الاستعماري. كان يمكن الهيمنة الاميركية أن تستمر لولا اسرائيل وعصابتها، فبدل فرض امبراطورية على العالم كله انتهت الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط، وأكبر دول المنطقة وأقواها تنتهج سياسات مستقلة أو معارضة. تركيا دولة عظمى محلية مع حكم إسلامي معتدل وكره للحليفة الفاشستية اسرائيل وما تمثل. ايران شوكة في خاصرة اميركا وتملك قدرة الدفاع عن نفسها في الداخل والمنطقة كلها. مصر تحولت من حليف في عهد حسني مبارك الى بلد أنشط ما فيه جماعات إسلامية ستكون لها حصة كبيرة من الأصوات في أي انتخابات مقبلة. ثم هناك المملكة العربية السعودية التي تملك استقلال القرار السياسي طالما أن العالم كله يحتاج الى نفطها وهي لا تحتاج الى أحد. يستطيع القارئ أن يقارن هذا الوضع بما كان في المنطقة قبل عشر سنوات أو أقل، عندما كانت إدارة بوش الإبن تخطط لغزو العراق وتتحدث عن تغيير النظام في ايران وسورية، وتعتبر حزب العدالة والتنمية في تركيا ظاهرة عابرة سيتخلص منها الجيش التركي كما فعل بحكومات أخرى في السابق. اليوم، الولاياتالمتحدة أصبحت مثل ذلك الولد في الشارع الذي يجد أن الأولاد الآخرين لا يريدون أن يلعبوا معه، فيأخذ «الكورة» ويعود بها الى بيته. هنا يلعب الفلسطينيون دوراً لم يخططوا له، ولم يحلموا به ولم يطلبوه. الولاياتالمتحدة تهدد بوقف دفع حصتها من موازنة الأممالمتحدة إذا قبلت فلسطين عضواً، وهي أعلنت وقف تمويل اليونيسكو بعد قبول فلسطين عضواً، والكونغرس أصدر قانوناً بأن أي هيئة دولية تقبل عضوية فلسطين تخسر التمويل الاميركي. وبما أن الفلسطينيين يريدون الانضمام كعضو كامل الى بضع عشرة منظمة عالمية وهيئة، من صندوق النقد الدولي الى محكمة العدل الدولية والوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن هناك احتمالاً حقيقياً بأن تعزل الولاياتالمتحدة نفسها عن العالم. إذا انسحبت اميركا من العالم، فهناك كثيرون سيرحبون بغيابها وأنا منهم، فهي الآن تتبع سياسة خارجية اسرائيلية بالكامل بعد أن اشترى لوبي اسرائيل الكونغرس. وقد سجلت هذا الرأي مرة بعد مرة، وأستعين اليوم بكاتب اميركي بارز ومنصف هو فيليب جيرالدي الذي قرأت له أخيراً قوله إن المشترعين الاميركيين «أفضل ما يمكن أن يُشترى بالمال». ثم هناك البروفسور المشهور ستيفن والت الذي شارك البروفسور جون ميرزهايمر في تأليف الكتاب المرجع عن لوبي اسرائيل، فقد قرأت له أخيراً مقالاً عنوانه «نهاية العصر الاميركي»، فالولاياتالمتحدة وصلت الى القمة، وكل الطرق منها يشير نزولاً، وهو رأي سمعته من لاعب كرة المضرب جون ماكنرو، فعندما أصبح المصنّف الأول بين اللاعبين المحترفين شكا من أن التربع على القمة يعني أن كل الطرق يشير نزولاً. وبالمعنى نفسه، نشرت «الاندبندنت» اللندنية تحقيقاً عنوانه «هل انتهى الحلم الاميركي؟». كانت هناك كتب اكاديمية كثيرة أرهصت بنهاية العصر الاميركي وصدرت في السبعينات والثمانينات، حتى قبل سقوط الشيوعية. وهناك كتب جديدة، وأنا أتوكأ عليها ليعرف القارئ أنني لا أكتب تمنياتي، وإنما ما يتوافق عليه بعض أبرز الأكاديميين الاميركيين والكتّاب عن الامبراطورية الذاهبة والكونغرس المرتشي. ماذا يقول الدروز في بلادنا؟ يقولون: «أبقاش بدا. قوموا تنعزي...» لن أعزي، ولكن آمل أن تنهض الولاياتالمتحدة بعد سقوط الامبراطورية لتعود مثالاً يُقتدى في الحريات المدنية وحقوق الإنسان والديموقراطية. [email protected]