اتصل مرة ابو عمار بصديقه حسيب الصبّاغ، رئيس مجلس ادارة شركة المقاولات سي سي سي ليطلب منه مخاطبة قصر بعبدا تلفونياً والاعتذار عن موعد سابق مع الرئيس سليمان فرنجية. ولما سأله عن السبب، قال عرفات بأن الجيش اعتقل أحد كبار قادة "فتح" في الجنوب، وبأن قرار الغاء الزيارة اصبح التعبير الوحيد للاعراب عن احتجاجه. وانتقل حسيب الصبّاغ في الصباح الباكر الى قصر بعبدا ليخبر الرئيس فرنجية، ويتوسّط معه للإفراج عن الضابط الفلسطيني المُعتقل. وبالفعل اتصل فرنجية بالعماد اسكندر غانم، قائد الجيش، وطلب منه اطلاق سراح المتهم ببعض عمليات الاعتداء على جنود لبنانيين. ويبدو ان تصرّف عرفات أثار غضب الرئيس اللبناني، الأمر الذي دفعه الى استبقاء الصبّاغ ليكون شاهداً على اللقاء. ثم طالب بضرورة استدعاء شهود آخرين بينهم الدكتور وليد الخالدي وسفراء السعودية ومصر والكويت. عندما وصل ابو عمار الى القصر يرافقه ابو اياد، فوجئ بالحضور كأن الزيارة تحولت الى محاكمة علنية. خصوصاً وان اللواء الركن قائد قوات الردع العربية احمد الحاج كان مدعواً للمشاركة في الاجتماع باعتباره يملك سجل المخالفات التي قام بها المسلحون الفلسطينيون. واستعد عرفات كعادته لطبع قبلاته على وجنتي الرئيس وكتفه وجبينه، ولكنه تراجع امام الاستقبال الفاتر وعبارة: "قبل تبويس اللحى، لازم نتصارح". وجلس ابو عمار وابو اياد في المواجهة في حين طلب فرنجية من اللواء الركن الحاج تلاوة قائمة المخالفات والاعتداءات. كان ياسر عرفات يعترض ملوّحاً بسبابته، وهو يقول: هذا غير صحيح… هذا هراء. وقاطعه فرنجية محتداً: لو انك تملك الشجاعة المعنوية، لكنت سارعت الى الاعتراف بالحقيقة! وتبدّلت سحنة ابو عمار، وجحظت عيناه كأن اتهام فرنجية صفع كبرياءه، فإذا به يردّ بعبارات الدفاع عن النفس، ويقول: انت تتهمني لأنني محروم من وطن… ولأنني لا املك السلطة. وفجأة تهدج صوته، وبلّلت دموعه كوفيته. واستهجن الرئيس اللبناني هذا المشهد، فإذا به يطالب عرفات بالتوقف عن ذرف الدموع، ويخاطبه بلهجة المتعاطف مع قضيته قائلاً: ليس لك وطن؟ لبنان وطنك. مصر وطنك. كل الاوطان العربية تفتح ذراعيها لاستقبالك. ولكنه من واجبك ضبط تصرفات جماعتك لأن مخالفاتهم المتواصلة تمنع اللبنانيين من احترام القوانين والنظام. وهنا تدخّل السفراء العرب لإنهاء النقاش الساخن بطلب المصافحة والصفح. واتفق الجميع على اصدار بيان مشترك يدعو الى التهدئة والانضباط وضرورة المحافظة على سلامة النظام وتطبيق القوانين. هذه الواقعة تعكس الى حدّ بعيد موهبة ياسر عرفات وقدرته على ايجاد مخارج ينفذ منها الى الخلاص حتى لو اضطره الامر لأن يستعمل دموعه. وبسبب تكرار هذا الاسلوب اتهمه خصومه بالكذب والمراوغة والتضليل، وبأنه دائماً يتملص من التزاماته ولا يحافظ على تعهداته. وكان دائماً يدافع عن نفسه بالقول ان السباحة ضد التيارات العربية والدولية فرضت عليه استخدام التحايل وسيلة لاتقاء الاذى والضرر. ولقد اثبتت الاحداث ان رهاناته الحقيقية لم تكن تعتمد على هذا الاسلوب فقط، وانما على حاجة الاتحاد السوفياتي الى ذخيرة الحركة الفلسطينية التي تحولت الى سياسة محورية في الشرق الاوسط. اضافة الى هذا المعطى الدولي، فإن الحضانة العربية لهذا التيار القومي الجارف، اعطى عرفات دعماً اقليمياً قوياً كان يوظّفه في الحالات الطارئة. ففي صدامات الاردن عام 1970 واجه ابو عمار خطر الموت لولا الحماية العربية التي وفّرتها له عباءة الشيخ سعد العبدالله ووساطة باهي الادغم. وهو يذكر انه خرج من الحصار السوري الذي طوّقه عام 1976 في لبنان بفضل تدخّل السعودية مع الرئيس حافظ الاسد. وذكر في حينه ان موسكو خذلته عندما فشلت وساطتها مع دمشق، واشترطت عليه الانتقال الى قبرص حيث كانت تنتظره باخرة النجاة! ولكن التعويل على الدعم العربي لم يحرره من الارتهان للموقف السوفياتي. ولقد وجد خلال مرحلة بريجنيف المساندة العسكرية والسياسية التي تحتاجها حملاته الاعلامية ضد واشنطن. وهي حملات مركّزة برع في ممارستها اثناء فترة الحرب الباردة. وكثيراً ما كان يسقط في لجّة التناقضات بسبب اخفاء نيّاته الحقيقية وقدراته الذاتية. ويبدو ان الولاياتالمتحدة اكتشفت قيوده المعنوية مع موسكو اثر الاقتراح الذي قدّمه الرئيس رونالد ريغان بضرورة وضع خطوط عريضة لمشروع حل يقبل به الفلسطينيون. وابلغت السعودية عرفات بأن وزير خارجية اميركا وليام روجرز سيتقدم بمبادرة تحمل اسمه، وبأن الفرصة تتطلّب وضع مسودة للشروط الفلسطينية. وكان من المتوقع ان تتعرض مبادرة روجرز لانتقاد سورية ومنظمات الرفض، ولكن موقف عرفات ظل يتأرجح بين نعم ولا الى حين مواجهة الحقيقة في عمان. وبعد خلوة طويلة مع السفير السوفياتي خرج رئيس منظمة التحرير ليقول انه لا يستطيع الموافقة على المبادرة التي رسم خطوطها. وكان ذلك كافياً لاقناع الادارة الاميركية بأن عرفات لا يملك القرار النهائي الحاسم، وبأن ارتهانه للسوفيات شلّ ارادته. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عرّض عرفات الثورة الفلسطينية لأخطر القرارات واكثرها ضرراً. ذلك ان تأييده المفاجئ لغزو الكويت، جرّده من الحضانة العربية وأوقعه في إحراج انعكست نتائجه السلبية على مستقبل 360 ألف فلسطيني في الخليج. كما انعكست ايضاً على المساعدات السخية التي ملأت صندوق المنظمة بملايين الدولارات. ثم جاء مؤتمر مدريد ليخطف قرار التسوية السلمية من عهدته ويوزعه على الدول العربية. وفجأة اكتشف ان قضيته قد تعرّت من لباسها العربي والدولي، وانها لا تختلف في عزلتها ووحدتها عن قضية الارمن وقضية الاكراد. وبدلاً من ان يسلّم القيادة لشخص آخر كما فعل احمد الشقيري، أصرّ على مفاوضة الاسرائيلي في اوسلو، مدّعياً ان القرار الفلسطيني المستقل يسمح له بالخروج منفرداً عن سائر المسارات العربية. خصوصاً وان حكومة اسحق رابين كانت قد تعبت من التصدي للانتفاضة الاولى، وتهيأت لعقد تسوية معه تعفيها من التفاوض مع منافسيه المتطرفين في "حماس" و"الجهاد الاسلامي". بعد مرور نحو سبع سنوات على تجربة اوسلو الفاشلة، تراجع ياسر عرفات عن دعم الانتفاضة خوفاً من ربط الكفاح الفلسطيني بموضوع ارهاب بن لادن و"طالبان". ولقد دفعه الى اتخاذ هذا القرار الخطير خوفه من ان يؤدي استمرار العنف الى خلق شراكة بين جورج بوش وارييل شارون. وتقول الصحف ان الوزير كولن باول لعب دوراً اساسياً في اقناع عرفات بضرورة اعلان وقف الانتفاضة لأن الثقة بسلطته بدأت تفقد انصارها لدى الادارة الاميركية. وتمنى عليه إلقاء البيان باللغة العربية كإثبات بأن الرئيس الفلسطيني يخاطب جمهوره لا جمهور قناة ال"سي ان ان". وواضح ان كولن باول يحاول حماية رأسه بعدما هدد بوش امام قادة اليهود بتطهير دوائر الخارجية من الموظفين المتعاطفين مع العرب. وقال ايضاً في احتفال أُقيم في البيت الابيض لمناسبة عيد الشموع "هانوكا"، بأنه يصنّف "حماس" و"حزب الله" بين المجموعات الارهابية، وبأن اي دعم لهما من قبل لبنان وسورية يفرض على اميركا معاملتهما كنظامين شبيهين بنظام "طالبان". اضافة الى حسابات اخرى تتعلق بعدم السماح لشارون بتدمير اتفاق اوسلو، ثم اظهار عرفات كقائد فلسطيني قادر على اطفاء نار الانتفاضة واشعالها. ومعنى هذا ان التجاوب مع نداء وقف العنف لا وقف الانتفاضة سيكون المعيار الصحيح لحجم المخاطر التي قد تنجم عن اغتيال الرئيس الفلسطيني، كما يخطط شارون ورئيس الاركان شاؤول موفاز، خصوصاً وان شارون اخذ الضوء الاخضر من الرئيس بوش لمواصلة الانتقام من الفلسطينيين، شرط التوقف بعد انتهاء الانتفاضة. ولقد تعرّض موقف جورج بوش لانتقاد الزعماء العرب الذين ذكّروه بأن شارون كان دائماً يأخذ من واشنطن اكثر مما تعطيه. ففي عام 1982 اعطاه وزير الخارجية الكسندر هيغ الموافقة على اجتياح جنوبلبنان مساحة لا تزيد على مدى الكاتيوشا 25 كلم، ولكنه تعدى المسافة المُتفق عليها ودخل الى بيروت بحجة اقامة نظام متعاطف مع اسرائيل، الامر الذي وضع قواته رهينة في يد "حزب الله" لمدة 18 سنة. وتتخوف العواصم العربية والاوروبية من تكرار تجربة لبنان في الضفة الغربية على اعتبار ان الموافقة الاميركية ستفسر بأنها مساندة ديبلوماسية لسياسة الحسم بالقوة العسكرية. وربما استفاد شارون من اعجاب جورج بوش بأدائه وتمثيله للشعب الاسرائيلي، ليأمر باحتلال المنطقة "أ" مرة اخرى. ومثل هذه المغامرة غير مستبعدة لان الحكومة الاسرائيلية راهنت على تقويض السلطة الفلسطينية في حال تجرأ ياسر عرفات واعلن استمرار العنف. ومن هذا الواقع المؤلم يخرج سؤال محرج: ماذا سيفعل الرئيس الفلسطيني اذا اتضح له ان شارون لن يستأنف المفاوضات، وان الاحتلال الذي دام 35 سنة سيستمر في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ الجواب يكمن في الحوار الذي يجريه عرفات مع "حماس" و"الجهاد الاسلامي"، حول المدة المطلوبة لاظهار حسن النيّة، ولاختبار نيات الفريق الآخر. وربما تكون المسافة الزمنية محددة بستة اشهر فقط، على ان يصار الى مراجعة المواقف كلها في حال استأنف الجيش الاسرائيلي عمليات الانتقام. عندئذ سيكون عرفات الداعي الاول الى تجديد زخم الانتفاضة، والى اعلان الدولة الفلسطينية حتى لو لم توافق اسرائيل على تحديد حدودها. ومن المؤكد ان الهدوء يربك شارون الذي يرفض استئناف المفاوضات كما تطالب توصيات لجنة ميتشل. ويتوقع المراقبون تمسك حزب العمل بخطة بيل كلينتون، والا فان شمعون بيريز سينسحب من الحكومة ويترك معركة الانتخابات المبكرة لنتانياهو. وعلى المستوى الفلسطيني لا أحد ينتظر استقالة عرفات كشهادة اقرار بأنه قاد اللاجئين من منفى الى منفى… وقاد المقيمين من حرب الى حرب، من دون ان يظفر بالسلام المنشود. ومثل هذه الانتكاسة السياسية تستدعي استبدال حكومة السلطة بحكومة وحدة وطنية تضم عناصر من "حماس" و"الجهاد الاسلامي" ومختلف فصائل المعارضة. ومعنى هذا ان المرحلة الجديدة تقتضي تنظيف السلطة من المسيئين الى سمعتها وصورتها. كما تقتضي وضع برنامج شعبي يصلح لمواجهات شارون الذي وعد في خطبه بتجديد الحركة الصهيونية، وبإحياء توصيات زئيف جابوتنسكي الذي قال انه لا يوجد طريق قصير للوصول الى ارض اسرائيل! * كاتب وصحافي لبناني.