يصدر الرئيس الاميركي "أوامره" الى الرئيس الفلسطيني لكي يفعل كذا وكذا بمواطنيه الذين يقامون الاحتلال الاسرائيلي. ولا ينفك جورج بوش يقول ان يفعل اكثر وافضل مما يفعل الآن. ماذا عن بوش نفسه، ألا يستطيع القيام بما هو اكثر وافضل؟ وأي الرجلين أقدر، رئيس الدولة العظمى الوحيدة في العالم، ام رئيس السلطة الفلسطينية؟ على رغم الاجازة المثيرة للجدل اميركياً، والانشغال بلعب الغولف وسواه، اصبح بوش في الأيام الأخيرة اكثر ثرثرة بشأن الشرق الاوسط. وهي ثرثرة خالصة، لأن الرئيس الاميركي يبرهن فيها ان لا شيء لديه، وانما يكرر عبارة سبق ان قالها مراراً لكنه يعيد علكها وقولها كأنها جديدة. وعندما يكون الوضع بهذه الخطورة، ولا يكون عند "المرجع" الدولي الا اعلان عزمه على غضّ الطرف عن الوحشية الاسرائيلية، فلا يعني ذلك سوى انه موافق على الارهاب الذي يمارسه مجرم الحرب ارييل شارون، بل انه متضامن معه، وغاضب لكون الاستسلام الفلسطيني تأخر اكثر مما كان متوقعاً له. لعل تصريحات بوش في اليومين الأخيرين أشارت الى "انشغال" و"اهتمام" من جانب الادارة الاميركية بما يحصل في فلسطين. ولو جرى تحليلها جيداً لأمكن الاستنتاج بأن هذه التصريحات تضمنت ما يشبه "كلمة السر" التي ينتظرها شارون ليعرف كيف يتابع حملته العسكرية المبرمجة. صحيح ان الحليفين الاميركي والاسرائيلي لا يحتاجان الى هذه الطريقة البدائية في نقل التعليمات، الا ان ما يصرّح به ينبئ عما تبادله الحليفان من نيّات وتحليلات. بعد احتلال "بيت الشرق" انتظر شارون اربعاً وعشرين ساعة ليقوّم ردود الفعل، ولم يأته من واشنطن ما يقلقه. اذ تعامل الاميركيون مع الحدث على انه عادي ولا يستحق أي تنبيه استثنائي. لكن التنبيه جاء من داخل الحكومة عندما الح شمعون بيريز على ضرورة البدء باتصالات مع السلطة الفلسطينية. واضطر شارون للرضوخ، لكنه بدّل طبيعة الاقتراح البيريزي، اذ اجاز له اتصالات امنية فقط للبحث في وقف النار، وحظر عليه اللقاء مع الرئيس الفلسطيني. وبذلك نسف جوهر الاقتراح، فالسوابق برهنت ان بيريز لا يستطيع التفاوض حول شأن امني، واذا سمح له بأن يتفاوض فإنه مخوّل فقط نقل الشروط والأوامر والاملاءات والتهديدات. ناهيك بأن اقصاء عرفات عن التفاوض يعني ان هناك نيّة مسبقة بعدم انجاح هذا التفاوض. فجأة، انقلب الجو، ربما بسبب عملية حيفا التي جاءت بعد ايام من عملية القدس، وبدا اقتراح الاتصالات كلام ليل محاه النهار. هنا جاء كلام الرئيس الاميركي، بما فيه من تفهم ومسايرة لشارون، وبما فيه من لوم لعرفات بأنه لا ينفّذ المتوقع منه، ما شكّل ضوءاً اخضر لبدء المرحلة التالية من خطة شارون موفاز، فبدأت الاقتحامات من جنين وتبعتها البلدات المحيطة ببيت جالا، وستليها عمليات مماثلة. وهكذا ساهم بوش في امتصاص الجدل والادانات التي اثارتها عمليات الاغتيال، واحتلال "بيت الشرق" ليبدأ تحضير الرأي العام العربي والدولي لاحتمال اعادة احتلال المناطق الفلسطينية التي سبق للسلطة ان تسلمتها. تدرك الادارة الاميركية طبعاً مقدار التخريب الذي يحدثه شارون في بنية "سلام اوسلو" لكنها لم تبد اي اعتراض. لا شيء عندها يستحق ان تتخلى عن دعم اسرائيل حتى لو كان المجتمع الدولي كله غاضباً ومشمئزاً من ممارساتها الارهابية، وحتى لو كانت هذه الممارسات تكرّس الاحتلال وتبعد احتمال السلام وتعيد المنطقة الى حال الحرب يتساوى في ذلك ان تقع هذه الحرب او لا تقع. وهكذا تبرهن الولاياتالمتحدة ان حرب شارون هي حربها في نهاية المطاف، وها هي اهتدت اخيراً الى طريقة تستخدم بها الانتفاضة الفلسطينية والجنون الاسرائيلي ادوات في تعزيز هيمنتها على المنطقة. هذا هو التعبير الامثل عن عقلية بوش، وهو يطبّقها في كل مكان.