«الداخلية» تدعم الجاهزية الأمنية في «الشمالية»    حوكمة سوق الإعلان العقاري والتحذير من الإساءة للمنافسين ونشر البيانات الوهمية    زيارة ولي العهد.. جسور بين الذكاء الاصطناعي والإستراتيجية التقنية    أمير القصيم يهنئ القيادة بنجاح زيارة ولي العهد لأميركا    محمد بن سلمان.. حين يكتب حضورُهُ فصولاً جديدة في السياسة والاقتصاد    "حزب الله" يشيّع قائده العسكري وسط تزايد الضغوط لتجريد السلاح    خطة سلام أميركية - أوكرانية «معدلة» لإنهاء الحرب الروسية    نائب وزير الخارجية يستقبل رئيس البرلمان المجري    الاحتفاء بالمنجز الثقافي.. شهادة وطن    "الشؤون الإسلامية" تسلم 25 ألف مصحف للمالديف    تدشين مركز زراعة القوقعة في «سعود الطبية»    قرعة نصف نهائي كأس الملك تقام 30 نوفمبر في استوديوهات "ثمانية"    أخضر الملاكمة والركل يشارك في بطولة العالم للكيك بوكسينغ 2025    الأهلي يخسر أمام الشارقة بهدف في نخبة آسيا    البرهان يقاوم الحل الأمريكي    حقيقة ليلة منتصف النهار    رفع نسبة الالتزام بالتغطية الصحية الإلزامية    كريم بنزيما يغضب من مساعد كونسيساو    إنقاذ فتى من رافعة شاهقة    فصيلة الدم المعرضة لأمراض الكبد    آلية خفية تجدد الخلايا السرطانية    ليلة المقصية الذهبية: كيف أشعل رونالدو الصحافة العالمية؟    عبدالعزيز بن سعود يستقبل وزير الداخلية وزير مكافحة المخدرات بجمهورية باكستان الإسلامية    الأرصاد تؤكد سلامة أجواء المملكة من بركان إثيوبيا    فيصل بن خالد يُعلن أسماء الفائزين بجائزة الملك خالد لعام 2025    الهلال الاحمر السعودي بتبوك يرفع جاهزيته إستعداداً للحالة الجوية المتوقعة على المنطقة    بلدية الجبيل تنتهي من تنفيذ حديقة الجوهرة تعزيزا لجودة الحياة    هطول أمطار رعدية على بعض مناطق المملكة من يوم غدٍ الثلاثاء حتى الجمعة المقبل    أمير منطقة جازان يتفقد سير العمل في وكالة الشؤون الأمنية بالإمارة    جامعة سطام تواصل صعودها عالمياً في تصنيف البحث العلمي البيني    شراكة استراتيجية بين ميدل بيست و زين السعودية بهدف تطوير مستقبل الترفيه والموسيقى في المملكة    لأول مرة في آسيا وأفريقيا... زراعة أصغر جهاز لتنظيم ضربات القلب لرضيعة بالرياض    وزير الصناعة والثروة المعدنية يبحث تعزيز التكامل الصناعي مع الجمهورية التونسية    هيئة تقويم التَّعليم والتَّدريب تستعرض الرُّخص المهنيَّة للمدرِّبين في لقاء بجامعة أمِّ القرى    أمير تبوك يطلع على تقرير فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة    محافظ الطائف يقدم التعازي لوكيل المحافظة البقمي    أتعبنا عقلك يا طارق    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية ترصد ظهور النسر الأبيض الذيل    إحباط تهريب (214,650) قرصًا مخدراً    بيئات العمل.. قراءة في مستقبل الصحة والسلامة المهنية    يايسله: متحمسون لمواجهة الشارقة الإماراتي في النخبة الآسيوية    ارتفاع طفيف بتكاليف البناء    الإطاحة بملوث البيئة بالمواد الخرسانية    الناهشون في جسد النجاح!!    انطلاق العروض المسرحية بموسم الرياض    جدة تستضيف مهرجان «ويكندز» للموسيقى    الانطوائيون أيضاً يصنعون النجاح    اقتحامات واعتقالات متصاعدة في الضفة الغربية    «الحج»:«نسك عمرة» منصة موحدة وتجربة ميسرة    78 شاحنة مساعدات إغاثية تدخل غزة    القطاع العدلي يواكب التحولات العالمية.. الصمعاني: الجودة القضائية ركيزة أساسية لجذب الاستثمارات    فرحة اسكتلندا بالتأهل للمونديال تسبب هزة أرضية    «أمانة جدة» تضبط 5 آلاف كجم من الأغذية الفاسدة    حين يكون العطاء لغة وطن    117 دقيقة مدة زمن العمرة خلال شهر جمادى الأولى    الشحن السريع لا يضر البطارية    افتتاح جامع المجدوعي بالعاصمة المقدسة    العبيكان رجل يصنع أثره بيده    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسار الديموقراطية وآفاقها في سورية . الصراع على السلطة وضوابط صندوق الانتخاب وحق العمل السياسي 1من2
نشر في الحياة يوم 09 - 08 - 2001

} ألقى رياض الترك، الأمين العام ل"الحزب الشيوعي - المكتب السياسي" وأبرز معتقل سياسي في سورية إذ سجن اكثر من 17 عاماً، محاضرة هي الأولى له منذ عقود في منتدى الأتاسي في دمشق، الأحد في 5/8/2001.
وتنشر "الحياة" نصها الكامل على حلقتين. وهنا الأولى.
الحديث في سورية عن الديموقراطية في وضعنا الراهن حديث سياسة قبل ان يكون حديث فكر، لذا سيتناول الحاضر ومشاكله، والمستقبل وآفاقه. لكن، لكي تكون رؤيتنا للحاضر وتلمسنا للمستقبل اسلم وأصوب، لا بد لها من ان تنطلق من دروس الماضي وعبره.
من هنا ستكون لي وقفة مع الماضي، على الاقل، منذ الاستقلال وحتى الآن. وذلك بغرض تسليط الضوء على النظم السياسية التي سادت خلال تلك الحقبة، بما فيها من القوى السياسية والاجتماعية وآليات ممارستها. وربما يكون مفيداً وعادلاً، ان نقسم هذا الماضي الى قسمين، يتناول اولهما اوضاع البلاد منذ الاربعينات وحتى الستينات، وثانيهما منذ الستينات وحتى المرحلة الراهنة.
1- المرحلة ما بين
الاربعينات والستينات
من المعروف ان النظام السياسي الذي ساد في سورية منذ اوائل الاربعينات، وبخاصة بعد الجلاء، كان نظاماً برلمانياً ديموقراطياً. هنا اود الاشارة الى ان فكرة النظام البرلماني على النمط الغربي، لم تأت بها فرنسا فحسب، بعد احتلالها سورية المحررة عقب الحرب العالمية الأولى، وإنما كانت ايضاً في البداية اختياراً ارتضاه الساسة والمثقفون في بلاد الشام المتأثرين بالفكر الغربي، وأكدّوه عند انعقاد المؤتمر السوري العام سنة 1919، حيث تشكلت في اطار لجنة برئاسة الرئيس هاشم الأتاسي، صاغت مشروع دستور لمملكة يصل على النمط المشار اليه. وكان ذلك الدستور متقدماً في العديد من مواده على الدساتير الغربية، بخاصة في ما يتعلق بحقوق المرأة على سبيل المثال.
اذا عدنا الى النظام الساسي السائد بعد الاستقلال، نلاحظ عموماً ما يلي:
اولاً- ان القوى الأساسية التي وقفت وراء ذلك النظام ودعمته، كانت من الفئات البورجوازية المطعّمة ببقايا الاقطاع والملاّكين العقاريين. وإاذ سجّل لها، او لبعض فئاتها، المشاركة في النضال ضد المحتل مع باقي فئات الشعب، الا انها لم تكن قادرة على تحمل اعباء المرحلة الجديدة المضطربة، الامر الذي ولّد النقمة عليها. لقد كانت - بحسب تعبير المناضل الكبير المرحوم عبدالبر عيون السود - ترى في تحقيق الاستقلال وكأنه نهاية المطاف، فانصرفت لقطف ثماره، متناسية نضال الشعب السوري طوال ربع قرن من اجله. وهكذا برزت عوامل ثلاثة اضعفت سلطة هذه القوى التقليدية، هي:
أ- شكلانية واحتكار الممارسات الديموقراطية، الأمر الذي نتج عنه الاضعاف والقمع الجزئي للقوى الديموقراطية الناهضة.
ب- ضعف أدائها السياسي: في توطيد الاستقلال، وفي مواجهة التآمر الخارجي بأسلوب المهادنة والمراوغة، وفي العجز عن مقاومة المسار الامبريالي الذي ادى الى غرس اسرائيل في قلب الوطن العربي.
ج- نهوض الاحزاب الوطنية الديموقراطية وباقي الفئات الاخرى قوى معارضة، تطرح مطالب ذات طابع ديموقراطي وقومي اكثر تماسكاً وجذرية، مما اعطاها وزناً سياسياً مؤثراً في حياة البلاد.
ثانياً- شهدت سورية خرقاً فاضحاً للنظام الديموقراطي بقيام سلسلة من الانقلابات، نهجت نهجاً استبدادياً. وكان من نتائج اسقاط ديكتاتورية الشيشكلي، والتغييرات اللاحقة تنامي وزن الفئات الوسطى والصغيرة، المدينية منها والفلاحية، ونزوعها الى لعب دور رئيسي وحاسم الى جانب البورجوازية الكبيرة التي اخذ دورها السياسي وأداؤها بالتراجع.
هذه القوى الجديدة اعطت لتلك المرحلة طابعاً مختلفاً، وطعماً ديموقراطياً لا يزال شعبنا يتذكره بحنين خاص. فمن الممارسة الديموقراطية بطريقة اكثر عمقاً التي تربط ما بين الحرية والتسليم بدور صندوق الاقتراع، الى بروز دور الشعب في تحقيق مصالحه الوطنية والقومية، كما حدث في الاندفاع للتضامن مع مصر ضد العدوان الثلاثي، ثم في تحقيق الوحدة بتأييد جماهيري جارف، وأيضاً من خلال المكاسب الاجتماعية العمالية والفلاحية بخاصة، على رغم الهيمنة البورجوازية الرسمية. في تلك السنوات الثلاث 1955 - 1957 اجتمع للممارسة الديموقراطية بعداها: الحريات للقوى والفئات والمواطنين، وتجسيد مفهوم الشعب ودوره ومصلحته العامة. مما اسهم ايضاً في دفع التيارات الدينية الى المشاركة الوطنية في اللعبة السياسية.
ولكن، من ناحية اخرى كان للقوى الجديدة افرازات سياسية متنوعة لم تكن موحدة في تطلعاتها الاجتماعية والسياسية. اهم تلك القوى كان العسكر وحزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي السوري الذي لم يكن يختلف عنها في بنيته، لكن توجهاته السياسية الداخلية والخارجية، كما دلّت الاحداث الكبرى، كانت مرهونة بالاستراتيجيات السوفياتية اكثر مما هي نابعة من المصالح الشعبية او القومية العليا.
ثالثاً- عموماً، وبصرف النظر عن التطورات الكبرى التي طرأت على البلاد، يمكن القول ان الفئآت المذكورة طبعت ببصمتها مسرح السياسة السورية طوال مرحلة ما بعد الاستقلال وحتى الستينات، عدا فترة الانفصال القصيرة التي عادت خلالها البورجوازية الى الحكم.
هنا ارى من المفيد استخلاص بعض نقاط الضعف والقوة في أداء القوى الاجتماعية والأحزاب السياسية لتلك المرحلة:
أ- ان قيام دولة الوحدة، كان انجازاً عبّر بامتياز عن نزوع قوى الأمة العربية وحاجتها لاستكمال اندماجها القومي، وتجلّى فيه تقدم العوامل الذاتية على العوامل الموضوعية، كما كان رداً سياسياً فاعلاً على الأحلاف الغربية وعدوانها.
ب- ان حدوث الانفصال كان اختباراً لذلك الانجاز، وكشفاً لضعفه امام اعدائه، حيث الغى نظام الوحدة عوامل قوته، عندما قام بحل الاحزاب التي كان من الممكن ان تتحول الى مؤسسات معبّرة عن ارادة المجتمع ودوره، حين استبدل دور الاجهزة البيروقراطية السياسية والأمنية الاتحاد القومي - المباحث بها من جهة، ومال الى صوغ علاقة مباشرة بين الزعيم والشعب، تتحولت الى مصدر رئيس لفساد تستثمره الحاشية والبطانة، بغض النظر عن اختلاف الفرد والدور، كما اصبحت لاحقاً واحدة من اهم أسس الديكتاتورية وشخصنة السلطة. هذه العلاقة او المعادلة بين الزعيم من جهة والشعب من جهة اخرى، أدّت وتؤدي الى إقصاء القوى التي تنظم الشعب وتمثله. وفي حال مختلفة عن تلك الحال الناهضة والصفات المميزة للرئيس الراحل جمال عبدالناصر، يتلاشى دور الشعب وتتلاشى السياسة من الحياة العامة، ليسود الاستبداد وحيداً.
ج- بعد الانفصال، تحولت العلاقات بين القوى الوطنية والديموقراطية ذات المصالح الاجتماعية المتشابهة والرؤية القومية المتقاربة، من علاقات تحالف وتعاون الى علاقات تنافس وتآمر، الأمر الذي أسس لتاريخ من فقدان الثقة بين القوى السياسية، كما حدث بين عبدالناصر والحركة الناصرية من جهة وبين البعث من جهة اخرى، او كما حدث بين اجنحة البعث نفسه، وما بين الأخيرين وبين الشيوعيين.
د- رسخت مرحلتا الوحدة والانفصال العداء بين الشيوعيين والقوميين، الذي كان تعبيراً عن الإلغاء المتبادل بين الطرفين، عندما سحبت القيادة الناصرية سلبيات تجربتها الحزبية في مصر على سورية، بينما تذرّع الحزب الشيوعي السوري بالديموقراطية وبالخصوصية السورية لمعارضة الوحدة. تلك الخصوصية كانت تخفي وراءها نزوع خالد بكداش غير الوحدوي، المستند اساساً على عدم ارتياح القيادة السوفياتية لقيام الوحدة، فكانتا كلمة حق أُريد بها باطل، اذ سرعان ما تكشفت حقيقتها في المبادرة الحماسية والفورية لبكداش في تأييد الانفصال، وقوله بخلاص سورية من "الاستعمار المصري"!
ه- تميزت الفترة اللاحقة لسقوط الانفصال بالتنافس والنزوع الى احتكار السلطة بين الحلفاء، الأمر الذي تقلص الى جانبه الهدف الأساس الذي عملوا من اجله وهو اعادة الوحدة. ذلك التنافس وتنامي حدته يقومان ويؤديان الى عدم الاعتراف بالآخر ثم العمل على إلغائه، ثم الى نفي التعدد وتقليص المجال السياسي للمجتمع حتى إنهائه. في مثل تلك الحال يتذكر المرء كيف كانت الثورة تأكل ابناءها، تماماً كما جرى في احداث الثورة الفرنسية، حتى استقرار بونابرت في السلطة.
و- في مثل تلك الحال ينتهي الحوار حول افضل السبل لتطوير البلاد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وتحسين فرص الديموقراطية. ويصبح من الطبيعي ان يشتد الصراع على السلطة والاستئثار بها، الأمر الذي يستدعي تنمية العصبيات ما قبل القومية كالعشائرية والطائفية والمناطقية وحتى العائلية، وتصبح الحزبية مجرد غطاء لعمل هذه الآليات.
2- المرحلة ما بين
الستينات ونهاية القرن
كان الصراع على السلطة قبل عام 1963، او لنقل قبل احداث تموز/ يوليو من ذلك العام يدور بين مختلف التيارات وفق آليات وضوابط تحتكم الى هذا الحد او ذاك الى صندوق الانتخاب وتعطي للجميع الحق بالوجود والعمل السياسي. وللتمايزات والتنوع المجتمعي بإيجاد تعبيراتها السياسية المناسبة. وحى في ظل الانقلابات العسكرية 1949 - 1954 لم تجرِ تصفية رموز الطبقة السياسية، بل أبعدوا فقط عن السلطة لمصلحة العسكر. لكن قواعد اللعبة تغيرت، وكذلك تغيّر اللاعبون انفسهم بعد الثامن من آذار مارس 1963، او لنقل ثانية: بعد احداث تموز 1963... لقد دخل مفهوم الحزب القائد للدولة والمجتمع، عندما اصبح العمل السياسي محصوراً بحزب البعث. اما الآخرون، فلم يبق لهم إلا اعتزال السياسية. وأما العمل السري او "التآمر" فكانت ضريبتهما باهظة، وبخاصة من خلال تطبيق حال الطوارئ، وما رافق ذلك من تعزيز وتقوية دور الاجهزة القمعية، وإطلاق يدها. وهكذا تبدلت شروط الدخول الى الحقل السياسي وتبدلت معها شروط اللعبة السياسية وطبيعة اللاعبين.
كذلك نلاحظ بعد ازاحة الناصريين، انتقال الصراع السياسي على السلطة الى داخل الجيش، وبالتالي الى داخل الحزب، الأمر الذي أدى تدريجاً الى اضعاف دوره، الى ان اصبح هامشياً مع حركة عام 1970 وفي الفترة التي تلتها. وكان من نتائج ذلك الصراع سلسلة من الاقصاءات التي طالت رموز الحزب، ورافقها ايضاً تسريحات واسعة في الجيش، كثيراً ما اخذت طابعاً طائفياً او عشائرياً او مناطقياً.
من الناحية الاجتماعية أذكر بقليل من الايجابية توسيع دائرة التأميم التي شملت معامل متوسطة وصغيرة وبإيجابية تجذير قانون الاصلاح الزراعي وسواهما. هذه التدابير كانت ايضاً موضع خلاف داخل اجنحة البعث الأمر الذي أدى الى خروج البعث اليساري ثم ازاحة البعث القومي بانقلاب شباط فبراير سنة 1966.
اما من الناحية السياسية فالصراع استمر مع التيارات الناصرية المشكلة منذ الانفاصل، والتي اهمها كان الاتحاد الاشتراكي العربي الذي أسسه المناضل الكبير جمال الأتاسي عام 1964. ان اهمية هذا الحزب تأتي في سعيه لتطعيم المفاهيم الناصرية القومية بمفهوم الديموقراطية وبخاصة شعار الوحدة العربية.
وجاءت تطورات الصراع العربي الاسرائيلي الكبرى في تلك الفترة، لتؤثر في شكل عميق وجذري على الاوضاع وتهزها بعنف.
فقد تمددت اسرائيل بعدوانها وسيطرتها في حزيران يونيو 1967، ووجهت ضربة قاصمة الى مفهوم "الأنظمة الوطنية التقدمية" وظهرت المقاومة الفلسطينية وجهاً ايجابياً تزامن مع اعادة النظر وترتيب المواقف ضمن جميع القوى والأنظمة المعنية بالصراع.
ولم تستطع حرب تشرين المجيدة حقاً ايقاف الانحدار الذي اصبح سمة الوضع العربي بمجمله، هذه السمة التي لم تستطع الانتفاضة الاولى محوها وعكس مسارها في شروط غياب الحرية عند الشعوب العربية، ولن تستطيع الانتفاضة الحالية - التي نحييها ونقف امامها بإجلال - ان تفعل ذلك ما لم تتغير هذه الشروط، التي عاشتها الاوضاع العربية منذ ذلك الحين.
مع استلام الرئيس الراحل حافظ الاسد السلطة، تحول النظام من حيث الشكل الى نظام رئاسي وفق ما نص عليه الدستور الذي فصّل على قياسه. وفي الممارسة العملية تمت شخصنة النظام وفق مقولة "القائد الفذّ والملهم" التي اصبحت بديلاً لمقولة "الحزب القائد للدولة والمجتمع". عملت تلك المقولة كناظم رئيس لآلية عمل واشتغال رجال السلطة والحزب والجبهة الوطنية التقدمية من حول القائد الفرد. بحيث ان الأهمية والوزن السياسي لأي طرف من اطرافها تتحدد بمدى قربه او بعده من الرئيس، لا بما يحمله من افكار او بما يمثله من وزن شعبي او ما يتبوأه من مناصب. وأصبح كل نشاط سياسي لا يخضع لهذه القاعدة خارجاً على القانون. وهكذا اصبحت هناك قواعد جديدة تختلف عما سلكه رفاقه العسكريون او المدنيون، حيث كانت السلطة السياسية العليا سلطة جماعية او شبه جماعية.
من جهة اخرى، كان للنصف الاول من السبعينات ملامح مختلفة عما سبقها. حيث اريد لها ان تظهر كخروج من "العزلة" في الداخل والخارج، مع انشغال بتأسيس "الجبهة الوطنية التقدمية" والادارة المحلة ومجلس الشعب والدستور الئام، ومع تركيز على متابعة بناء الجيش وتحديثه بالتوازي مع مصر وبمساعدة من الاتحاد السوفياتي للبلدين. ثم جاءت حرب تشرين المختلفة عما سبقها في شكل من الاشكال، وتدفقت الاموال النفطية، وابتداء البناء في بعض البنية التحتية والكثير من المشاريع الاقتصادية، في فورة كبيرة انعكست على التركيبة الاجتماعية والاقتصادية للبلد، وعلى مجمل التاريخ اللاحق لها. من خلال تلك الفورة ازدادت الثروات وتركزت أسس الفساد، وانتهت المرحلة الأولى بتبلور النظام حول الفرد والأجهزة الأمنية من دون اي حاجة الى الآخرين، او الى الشعب بعد تجميده وتحديده في أطره الجديدة، في الحزب المتضخم او المنظمات المبنية على الشكل القابل للمراقبة والحجز تحت مستوى ممارسة السياسة.
في تلك الفترة ذاتها، ومع تلمس الاصرار على شكلانية الخطوات، وتطوير النمط الشمولي للنظام، وتعميق مضمونه المتركز حول الفرد، ابتدأت خطى قوى سياسية واجتماعية وشخصيات ديموقراطية مستقلة بالابتعاد عن النظام تدريجاً، وبخاصة من خلال احساسها بالتوجه نحو تهميشها، وتهمي السياسة عموماً.
لكن، بما ان اي شعب من الشعوب لا يمكن اختصاره بشخص واحد، وأي خطاب سياسي لا يمكن ان يختزل كل السياسات الممكنة والخلاقة من خلال تنوعها وحسب، كان لا بد ان يفرض الاذعان والطاعة على الناس عن طريق الترهيب والترغيب، نظراً الى ان السلطة في هذه الحالات - كما يقول فاتسلاف هافيل - لا تسعى الى التوافق مع الحياة، وإنما تسعى لتطويع الحياة بما يوافق حاجتها هي. اما السلاح الأمضى في تحقيق ذلك، فهو كفاف العيش للمواطنين، والمكاسب والمغانم للموالين، والأجهزة القمعية والسجون والمنافي والمقابر للمعارضين.
هذه الحال ابتدأت منذ منتصف السبعينات وبلغت أوجها في عامي 1980 و1982، حين طرح مشروعان للبلاد، احدهما يقابل عنف السلطة بالارهاب، والآخر يطرح المخرج عن طريق الديموقراطية. في حين عجز النظام عن اي مخرج، إلا بالمواجهة الأمنية الشاملة، وربما كان لنجاحه في استثمار حال الحرب البادرة، واستناده الى رضا طرفيها معاص، وتمدد نفوذه الى خارج البلاد - بدخول الجيش السوري الخاطئ الى لبنان وفرض الهيمنة عليه - دور في عناده على خطه وتمسكه باحتكار السلطة مهما كان الثمن. كان هنالك ايضاً ضغط مكتوم مورس على الرئيس الراحل من الوسط العربي والدولي.
لقد كان عنف السلطة المتوحش والعنف المضاد الذي اخذ طابعاً طائفياً كارثة وطنية لم تشهدها سورية في تاريخها الحديث. وما زالت عشرات الآلاف من الأسر تئن تحت وطأتها. وما زالت آثارها قائمة، ولم يسع النظام للأم جراحاتها حتى الآن، على رغم حسمه الصراع لمصلحته إلا انه خلق هوة سحيقة بينه وبين الشعب من الصعب جسرها.
في مثل هذه الاوضاع، تمت حال من النفاق الجماعي والخوف المعمم، اصبح فيها السلوك الخارجي للمواطنين محكوماً بما يريد النظام منهم ان يحترموه في اقوالهم وأفعالهم. اما دواخل الناس وقناعاتهم الحقيقية فلا وزن لها ما داموا يستبطنونها، ويتصرفون في الحيز العام وفق رغبات وضوابط وطقوس السلطة. تنقل ليزا ويدن عن فريريك الكبير انه "لا يعبأ بما يظنه الناس ما داموا يقومون بما يأمرهم به"، وقنل مؤرخونا عن زياد بن أبيه ما يشبه ذلك في احدى خطبه. هذا بالضبط ما كان عليه المجتمع السوري وهو يخرج افراداً وجماعات في مسيرات التأييد والولاء. فاليأس كما قيل يقود الى الاستكانة، والاستكانة الى الامتثال، والامتثال الى هذه الممارسات الرتيبة التي تقام دليلاً الى نشاط الجماهير السياسي.
في العقدين الأخيرين من القرن الماضي ساد الركود كل الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وغدا اسمه "الاستقرار". في الأول منه كان الاستناد الى التخويف في الداخل، وعلى توازنات الحرب الباردة في الخارج، كافيين حتى لا تواجه الأزمة بأي تعقيدات. اما في الثاني، فقد انهار الاتحاد السوفياتي وانتهت تلك الحرب وقامت حرب الخليج الثانية، فابتدأ الاحساس الفعلي بالحاجة الى تغيير شيء ما، ولكن بعد ان افتقدت السلطة ذاتها الأدوات القادرة على الفعل وتخشّبت في المصالح الأنانية لأفرادها وغدا استبعاد الشعب وقمعه ونهبه طريقها المعتاد الأسهل. وربما اضيف عامل جديد في السنوات الأخيرة هو مرض الرئيس الراحل الذي لم يعتد احد على المبادرة خلال مرضه. وكان هذا الركود الشامل نتيجة لذلك الاستبداد وتلك الشمولية. ونتائجهما التي ابرزها الفرز الاجتماعي الحاد القائم على تنامي الثروات في ايدي قلة قليلة والافقار الواسع لطبقات الشعب الذي يكاد ينحدر الى مستوى الجوع. كذلك الازمة العميقة والمعقدة في مختلف مجالات حياتنا.
لقد انقطعت التدفقات السياسية والمالية من الخارج، وجاءت لحظة الحقيقة التي يواجه بها الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الداخلي انطلاقاً من الطاقات الذاتية، وهنا مصدر آخر للأزمة، لم يعد من الممكن مواجهته إلا بالتغيير.
غداً: سورية في المرحلة الراهنة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.