يعوّل الكثيرون داخل إيران وخارجها على الرئاسة الثانية لمحمد خاتمي ويرون أنه لن ينجح في تنفيذ حزمة من السياسات الإصلاحية ما لم يتم إدخال تعديلات على الدستور الإيراني لإحداث توازن بين الهيئات الرئيسية الحاكمة في البلاد. والدستور الإيراني فاجأ المراقبين بأمرين: الأول هو مذهبية الدولة، إذ أنه ينص على أن المذهب الرسمي هو المذهب الشيعي الجعفري الاثنا عشري. وكان البعض يراهن على النص فقط على إسلامية الدولة وانفتاحها على كل المذاهب لسببين: - وجود أقلية سُنية كبيرة. - سيطرة فكرة تصدير الثورة وهي تعيش في محيط سُنّي هائل. وكان لهذا النص دلالاته التي لا تخفى على أحد. ثم صدقت السياسات والتحالفات هذا التوجه المذهبي، فبنت إيران تحالفاً قوياً مع سورية الأسد، ودعمت بقوة وعزم حزب الله في لبنان وعاشت توترات مع الخليج ومصر، ومازلنا نأمل أن يتم الانتقال من العلاقة الطبيعية مع السعودية إلى تعاون سياسي وثيق. ونأمل أيضاً أن تعود العلاقات الطبيعية مع مصر وأن يمهد ذلك لتحالف استراتيجي يضم مصر والسعودية وسورية وإيران، وإذا تم إصلاح حقيقي في العراق وحل لمشاكله المتراكمة وانضم إلى مثل ذلك التحالف المرجو والمأمول فسيتغير وجه المنطقة العربية بالكامل بيد أبنائها لا بيد أعدائها والمتربصين بها. الأمر الثاني: ابتكار صيغة جديدة للتوفيق بين اعتبارات عدة دينية مذهبية ودستورية برلمانية وشورية إسلامية. وكانت صيغة جديدة، فقد انقطع الفقه السياسي الشيعي منذ مدة طويلة ولم تكن الدول الصفوية والقاجارية والبهلوية معبرة عن المذهب الشيعي بقدر ما كانت دولاً يعيش فيها الشيعة فقط. لذلك جاءت الصيغة التوفيقية المبتكرة لترسم سلطات عدة وتحاول أن تخلق توازنات دستورية بينها. فأولاً: ابتكر الإمام محمد حسين منتظري نظرية "الوليّ الفقيه" أو ولاية الفقيه، وحلت هذه النظرية مشكلة كبيرة عند الشيعة لأنهم لا يؤمنون بولاية غير الأئمة المعصومين الإثني عشر ومنهم المهدي محمد بن الحسن العسكري الذي يعتقد الشيعة بغيبته وعودته من جديد. وبذا يحل الولي الفقيه محل الإمام الغائب ويدير شؤون الدولة والإمامة والسياسة الشرعية حتى يظهر الإمام الغائب. وحيث إن الأئمة عند الشيعة منصوص عليهم ولا يجوز اختيارهم ببيعة عامة كما هو عند أهل السُنّة، وهذا هو جوهر الخلاف الذي نشب في صدر الإسلام بين أغلبية ساحقة رأت بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه صحيحة وشرعية، وبين أقلية ضئيلة جداً اعتقدت بأحقية عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه بالإمامة لأن النبي صلى الله عليه وسلم في ظنهم نص على إمامته، ولأن شأن الإمامة ليس بالهيّن حتى يترك للأمة كما يقول بذلك أهل السُنّة. فقد جاء ابتكار أن تتولى هيئة خاصة تسمية "الولي الفقيه" وهي "مجلس الخبراء" وهي هيئة منتخبة من الأمة. ولم تثر مشكلة وقت حياة "الإمام الخميني" لأن إمامته السياسية لم يجادل فيها أحد في حين نازعه المرجعية، بل نازع هو مراجع آخرين أقدم منه مرجعية وأطول منه باعاً في الشؤون الفقهية والشرعية. وظهرت المشكلة بعد وفاته، خصوصاً وقد عزل في آخر حياته نائبه "منتظري" وكانت المفاجأة أن الذي اجتهد في إخراج نظرية "ولاية الفقيه" هو الذي يتزعم الآن حملة صغيرة لإعادة الانضباط إليها ويدعو إلى أن تكون ولاية دستورية منضبطة بأحكام الدستور لأن الوضع الحالي يتيح للولي الفقيه صلاحيات هائلة جداً أشبه بصلاحيات رؤساء الجمهوريات في بلاد مثل مصر وتونس. وثانياً: تم العمل بالنظام الدستوري النيابي وتشكيل هيئات عدة للعمل في إطاره فمثلا: ينتخب رئيس الجمهورية من قبل الشعب في انتخاب حر مباشر بين عدد من المرشحين يجيزهم "مجلس صيانة الدستور". ويتم انتخاب برلمان "مجلس الشورى" يقوم بدور الرقابة والتشريع ومن صلاحياته الموافقة على أعضاء الحكومة وانتخاب أعضاء "مجلس صيانة الدستور" الذين يتم ترشيحهم وفق آليات متعددة لأن نصفهم من الفقهاء ونصفهم الآخر من الحقوقيين والسياسيين. وهذا الأخير يقوم بدور أشبه بما تقوم به "المحكمة الدستورية العليا" في الرقابة ليس فقط على أعمال البرلمان من الناحية التشريعية، بل بتدخل للبت في صلاحية المرشحين للبرلمان مجلس الشورى ولرئاسة الجمهورية بجانب صلاحيات أخرى. وهناك "مجلس تشخيصي يصلح النظام" وهو أشبه بمجلس الأمن القومي في بلاد أخرى، وهو يتدخل بناء على توجيه المرشد ولي الفقيه للحسم في النزاعات مثلما حدث الآن، ويرسم الاستراتيجيات الكبرى للبلاد. وهناك انتخابات محلية وبلدية وهناك صحافة حرة إلى حد كبير وهناك هيئة قضائية مستقلة، وبقيت الحوزات العلمية كما هي من قديم كمؤسسة دينية علمية وفقهية وبقيت الجامعات الحديثة تمد البلاد بالخبراء والتكنوقراط كما بقيت مؤسسة الحرس الثوري التي نشأت في بداية الثورة جنباً إلى جانب مع الجيش وأجهزة الاستخبارات المتعددة ووزارة الداخلية، ويخضع بعض هذه المؤسسات للمرشد، وتخضع الأخرى للحكومة ولرئيس الجمهورية. إذن هو نظام مبتكر لبّى حاجات إيران في بداية ثورتها العظيمة التي أطاحت أقدم عرش في التاريخ، عرش الطاووس، وقلبت الموازين في المنطقة كلها. فهل تحتاج إيران اليوم إلى مراجعة نقدية شاملة لدستورها في ضوء التجربة التي مضى عليها 23 عاماً كلها تضحيات وحروب وصراعات خاصة في ظل تجربة 4 سنوات مضنية عانى فيها الرئيس خاتمي مصاعب عدة وتحققت إنجازات هائلة، يكفي استمرار الثورة بإسلاميتها ويكفي الانتخابات الدورية 21 استحقاقاً انتخابياً في 21 سنة بمعدل انتخاب كل سنة ويكفي الحيوية الثقافية والفكرية، ويكفي الدور الذي تقوم به المرأة الإيرانية ويقوم به الشباب في إيران. إذن هناك حاجة في ظل هذه الحيوية لإصلاح دستوري شامل في إيران فلا يكفي الدور الذي يقوم به الآن المرشد الأعلى السيد علي خامنئي وهو ما رسمه له الدستور كحَكَم بين المؤسسات ومرجعاً أعلى لحسم الخلافات. فالمتوقع أن تزداد حدة الخلاف، وهو ليس خلافاً بين المقدس وبين المدنس كما يقول محمد الرميحي "الحياة" 8/8 إذ أن الإسلام في نظامه لا يعرف الحياة الدنسة النجسة ولا يعرف السياسة التي تتطلب الخديعة والمكر وربما الكذب والمناورة، وهذا ليس من طبعها الأصيل، بل هو ما طبعها به الغرب على مذهب ميكافيللي الشهير. فلماذا لا ندعو نحن ونعمل على إيجاد بيئة سياسية نظيفة وممارسة سياسية أخلاقية، صحيح أن تاريخ المسلمين شهد مثل هذه السياسات لفترات طويلة، إلا أنه في الوقت نفسه شهد ممارسات أخلاقية نظيفة نريد أن نستعيدها بصورة معاصرة وبتطبيقات عصرية. إن إيران في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى المضي قدماً في طريق الإصلاح وإلى التوافق على سلسلة من الإجراءات الكفيلة ببلورة موقف توافقي حول أهم الإصلاحات الضرورية للبدء بها، وإن العوامل التي تدعو إلى ذلك وتساعد عليه كثيرة ومتوافرة. فها هي فترة رئاسة ثانية لرئيس لم يسبق الإجماع على مثله، يؤيده الشعب خصوصاً النساء والشباب جيل المستقبل ولا تتحفظ عنه بشدة المؤسسة الحاكمة التي سمحت له بالترشيح مرتين، ويحظى بدعم معقول من الولي المرشد القائد الذي يمسك بيده خيوط اللعبة. وها هي إيران تحصد ولو خارجياً ثمار فترة رئاسية أولى تتيح لها للمرة الأولى منذ قيام الجمهورية الإسلامية هدوءاً بعيداً عن الحروب والمنازعات، ولعل الخطوات التي نشهدها في التقارب الإيراني - الإماراتي والزيارات المتبادلة والتي لا يخفى على أحد أنها لوضع حد للنزاع حول الجزر الثلاث رغم كل الاعلانات عن عدم إدراج الموضوع على جداول الزيارات. هذا فضلاً عن التنسيق الأمني مع السعودية وبقاء التحالف مع سورية ومحاولة تطبيع العلاقات مع مصر وتفعيل الاتفاقات مع أوروبا وحصار أميركا وحدها في خندق الأعداء. وها هي تطلعات الشعب الإيراني تتعاظم بعد انتهاء الحرب ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية وبزوغ المشاكل الاجتماعية وتطلع جيل الشباب إلى الحريات والمشاركة الإيجابية، وكل ذلك يمثل تحديات خطيرة أمام الرئيس المنتخب. وها هي المؤسسات الدستورية تبدأ في العمل وفق اختصاصها، إذ أحال القائد المشكلة الأخيرة إلى مجلس تشخيص مصلحة النظام لإيجاد حل لها، وإذ يقوم مجلس صيانة الدستور بمرونة بمراجعة قوائم المرشحين. وكل تلك الممارسات أدت إلى جدل فكري وسياسي يدعو إلى اصلاحات دستورية مهمة على محاور عدة أهمها: * تفعيل مؤسسة الرئاسة والحكومة بمنحها صلاحيات أكبر في مواجهة بقية المؤسسات. * إعطاء البرلمان صلاحيات واسعة في المراقبة والمحاسبة وحسم الخلافات بتصويت ثان أو ثالث بنسبة عالية. * إضفاء مسحة دستورية على موقع "ولي الفقيه" بحيث يتم تعديل طريقة الاختيار وتقليص بعض الصلاحيات الواسعة لمصلحة الرئيس والبرلمان. ولعل هذه تكون آخر الاصلاحات لأن موقع القائد حتى الآن ضمان لعدم زوال النظام. * تحديد مسؤوليات "مجلس صيانة الدستور" بخصوص الحجب عن الترشيح بالذات. إن الجدل القائم الآن في إيران، ليس كما يصوره البعض مثل محمد الرميحي كأنه بين خاتمي وبين خامنئي بل هو بين مدرستين يعرفهما العالم الإسلامي من قديم، وتعرفه كل المجتمعات الحية. وأستطيع أن أزعم أن حكمة خامنئي هي التي تكفل لهذا الحوار والجدل أن يستمر بصورة حضارية سلمية هائدة رغم عنفوانها وأنها كفيلة أيضاً بقيادة سفينة الإصلاحات إلى بر الأمان. ولعل المراقب المحايد أو المحب لإيران يعلم أن أي إصلاح دستوري لا يتم بالسهولة نفسها التي يتم بها سن القوانين وأن استمرار الحوار كفيل بنضج الاصلاحات المطلوبة. وعلمي بآليات تعديل الدستور الإيراني محدودة، إلا أنه من الواضح أنها آليات للدساتير التي اصطلح الفقهاء الدستوريون على وصفها بأنها جامدة وليست مرنة، ومن المناسب أن تتم الاصلاحات في ظل وفاق وطني عام، وفي ظل استراتيجية جديدة ترسم دوراً جديداً لإيران، فهو ليس فقط جدلاً حول الصلاحيات بل هو جدل بين رؤيتين استراتيجيتين لإيران، ومن المناسب أن يتم في البداية حسم الرؤية الواضحة للدور المطلوب من إيران. وقبل حسم هذه الرؤية السياسية هناك بالقطع رؤية فكرية فقهية أصولية لاپبد من الاقتراب منها، وهي تمثل لغماً شديد الانفجار في الوسط الشيعي. إذ أن الإمام عند الشيعة معصوم، كما هو منصوص عليه، وولي الفقيه نائب عن الإمام، وإذا قلنا إنه غير معصوم فهو يمثل المرجعية الكبرى في السياسة الشرعية. وهنا تفترق الشيعة عن أهل السنة، وهذا ما يغيب عن البعض عند تناول قضية "ولي الفقيه" لأن القضية ليست أن الأمة مصدر السلطات، وأن المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة تكفل ترجيح جانب الرئيس على جانب القائد لأن الرئيس منتخب من الأمة بينما القائد المرشد ليس منتخباً مباشرة من الأمة. المسألة أعقد من ذلك، وتحتاج إلى اجتهاد شيعي قد يمس أصولاً مستقرة منذ بداية الانقسام المذهبي، وهذا إن حدث سيمثل نقلة خطيرة كبيرة في تاريخ هذا الانقسام لأنه سيعود بالشيعة إلى مربع قريب جداً من أهل السُنّة في الفقه السياسي. وفي ظني أن الممارسة السياسية الحديثة للدولة في إيران ستقوم بالتقريب العملي الإجرائي قبل بت الخلاف النظري الفقهي. ولعل لنا في مدرسة الإمام أبي حنيفة النعمان التي بدأت بالوقائع والفروع قبل تأصيل القواعد والأصول نبراساً يضيء لنا الطريق. نسأل الله للرئيس خاتمي كل التوفيق في رئاسته الثانية. ونسأل الله للقائد خامنئي كل السداد والحكمة في التوفيق بين الآراء. ونسأل الله للشعب الإيراني ولإيران كل تقدم وازدهار حتى تقدم نموذجاً إسلامياً طيباً يحقق إسهاماً حضارياً كبيراً. * نائب سابق في البرلمان المصري عن جماعة "الإخوان المسلمين".