هدف التكتل الدولي، الذي يضم الاممالمتحدة والاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة وروسيا ودولاً عربية رئيسية مثل مصر والأردن، في مبادرته على الساحة الفلسطينية - الاسرائيلية، هو ايجاد مخرج من الوضع الراهن. ووسيلة الانتقال الى استئناف المفاوضات، في رأي هذا التكتل، هي توصيات لجنة ميتشل التي تضع الخريطة من نقطة وقف النار الى نقطة الاستئناف لمفاوضات لا يعلم أحد على أي اساس يمكن استئنافها. فالمعارضون لهذا التوجه يعتبرونه خبيثاً هدفه وقف الانتفاضة في مقابل ثمن زهيد هو مجرد العودة الى المفاوضات. والداعمون له يجدونه الوسيلة الوحيدة لاستعادة منطق التفاوض لأن منطق المواجهة ألحق بالغ الأذى بالطرف الفلسطيني ووفر للتطرف الاسرائيلي ذرائع تنفيذ مخططات هلاك ليس في وسع الساحة الفلسطينية استيعابها. أصحاب التكتل في عتمة ومغامرة وخوف وقلق. وهم في غير وارد أصحاب الاجماع الذي يُصنع في شأن الملف العراقي، على رغم تقاطع "التكتل" و"الاجماع" في الملفين. ففي الملف العراقي تم احتواء الخطر. اما في الملف الفلسطيني - الاسرائيلي فإن التطرف هو الحاكم خصوصاً في ساحة القرار الاسرائيلي. ولهذا فإن التكتل مفيد انما بحذر شديد. لرئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون غايات من التكتل تضع المبادرة الدولية على حافة شاهقة قد تؤدي بها الى السقوط ذريعة ومبرراً لمغامرات شارونية مبيتة تدخل في عصب استراتيجيته. فهو في حاجة الى مخرج من وضع أدى الى سقوط حوالى مئة اسرائيلي وجعله منساقاً الى ما تمليه عليه عملية لا سلطة له عليها تسلب منه زمام القيادة وتضعه في موضع الانفعال. وهو يجتاز مرحلة متقلبة لقاعدة شعبية لا تعرف اين هي وماذا تريد. وهو في بحث عن مبرر للتطرف في الانتقام من الفلسطينيين لكنه في تردد من الافرازات دولياً. وهو على ثقة ب "جدوى" توسيع حلقة الحرب لتنضم سورية، الا انه ليس واثقاً باستعداد القاعدة الشعبية الاسرائيلية لمثل هذا القرار ولا يملك الضوء الأخضر الضروري لهذه المغامرة. انه رجل في بحث عن توجه يتخبط بين تاريخه وعواطفه السياسية، يريد مخرجاً، غير انه ليس قادراً أو مستعداً لأكثر من مجرد مخرج، ومع تحفظات. ولذلك فإنه في وارد المغامرة. أطراف التكتل الدولي تعي معنى مغامرة يخوضها شارون وتخاف منها. فهذا رجل يخشاه أطراف التكتل لأنه اعتباطي وانفعالي وانتقامي، لكن اسرائىل اختارته لمنصب القيادة، وهنا المعضلة هنا الخطورة. ذلك ان اسرائيل غير العراق في الاعتبارات الدولية التي تنساق بالضرورة في هذا الملف للاعتبارات الاميركية. فإذا ساق الرئيس العراقي صدام حسين العراق الى الخطأ، عوقب العراق، وقامت حملة دولية ضد صدام حسين وما قام به. أما اذا ساق ارييل شارون اسرائيل الى الخطأ، فإن المعادلة تقوم على التعامل معه والتوسل اليه لئلا يظن ان في الوارد معاقبة اسرائيل بسببه. هذا واقع سياسي من العبث عدم أخذه في الاعتبار. فمهما قيل عن تخاذل دولي أمام املاء شارون، فإن المحرك الاساسي يبقي العلاقة العضوية بين الولاياتالمتحدة واسرائيل والعلاقة التهادنية بين اسرائيل وأوروبا وروسيا. فالأمر، عندما يتعلق باسرائيل، لا يتوقف عند الزعيم أو الحزب الذي يقودها. فهي ذات بعد عميق في السياسات المحلية لاميركا وأوروبا وروسيا، ورجالها ليسوا تحت التدقيق والمحاسبة كما رجال المنطقة الآخرين، سيما العرب منهم. هذا ليس عادلاً، لكنه الواقع. الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، خصوصاً، محط أنظار وتدقيق ومحاسبة من قبل ما يسمى بالأسرة الدولية، كما هو محط حرصها ورغبتها بتجنب خسارته. فلسطين ليست بأهمية اسرائيل عندها، لكن فلسطين في خاصرة اسرائيل ولا يمكن تجاهلها. لذلك، فإن التكتل الدولي بمبادرته اليوم انما يهدف ايضاً الى معالجة حاجة ياسر عرفات الى مخرج. فموازين القوى على الساحة الفلسطينية - الاسرائىلية وضعت الفلسطينيين أسرى اجراءات اغلاق الأراضي الفلسطينية ومحاصرتها اقتصادياً اضافة الى سقوط اكثر من 500 ضحية فلسطينية، فتفاقمت المعاناة. والانتفاضة التي كسبت في مطلعها تعاطف الرأي العام الدولي افتقدت في الفترة الأخيرة توجهها الاستراتيجي وتحوّل التعاطف معها الى لوم لها بسبب اختراقها بعمليات على حسابها. ومع وضوح التوجه الشاروني الى تحالف تطرف فلسطيني - اسرائيلي كأمر واقع يملي السياسات ويبرر النزعة الانتقامية، ازدادت حاجة السلطة الفلسطينية الى المخرج من الوضع الراهن. ذلك ان حصيلة تحالف التطرف هي نسف قاعدة التفاوض وأطرافه كي يعود منطق المواجهة. وبذلك ينتصر شارون المتعطش الى تحالف التطرف كخطوة تمهيدية لمعركة حاسمة بين قطبيه. فكما في اسرائيل صراع خفي على السلطة كذلك في فلسطين. وكما في صفوف القاعدة الشعبية الاسرائيلية انقسام وحيرة، كذلك في صفوف القاعدة الشعبية الفلسطينية. اسوأ ما يمكن ان يحدث على الساحة الفلسطينية هو استخدام الانتفاضة وسيلة للصراع على الحكم والقيادة الفلسطينية. وهذا ما يحدث فعلاً الآن، وهو في غير محله ووقته. فلا يجوز ان تستغل الانتفاضة لغايات سياسية ضيقة لأطراف فلسطينية مهما كانت هذه الاطراف وطنية أو قومية. شأن الانتفاضة هو مقاومة الاحتلال وليس تنصيب قيادات، وإلا فإنها تسقط ضحية تكتيك وقد تتحول أداة لحرب أهلية. فإذا كانت أكثرية القاعدة الشعبية الفلسطينية جاهزة لاستبدال السلطة الفلسطينية بقيادة بديلة عنها، هذا حقها، وله وسائله، ووسيلته ليست الانتفاضة. واذا كانت هذه القاعدة جاهزة للحسم بين خياري الكفاح المسلح والتفاوض، فهذا قرارها، انما من غير المنطقي ان يزعم ان في الامكان مزاوجة الانتفاضة والتفاوض. يمكن ان تتحول الانتفاضة الى عصيان وان تتخذ شكل المقاومة المدنية وان تسير جنباً الى جنب مع المفاوضات. لكن تنسيق الادوار بما يسمى باستمرار التفاوض واستمرار المواجهة مضى وقته في هذا المنعطف. موافقة ياسر عرفات على وقف النار ليس خذلاناً للانتفاضة وانما هو انقاذ لها من التخبط ريثما تستعيد بعدها الاستراتيجي. بذلك أعاد عرفات الانتفا ضة الى أهلها الطبيعيين بعدما وقعت محاولات خطفها لغايات ليست في مصلحة أهل الانتفاضة. فالانتفاضة ليست هدفاً استراتيجياً، وانما وسىلة لتحقيق الهدف الاستراتيجي تبقى في ايادي الفلسطينيين غداً كما بالأمس. وقفها اليوم ليس خيانة لطموحات فلسطينية وانما حرصاً عليها. ومصيرها غداً مرتبط بحسن أو بسوء نيات الطرف الاسرائيلي. ياسر عرفات انتزع التطرف من الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي قبل ان يقضي التطرف على السلطة الفلسطينية وعليه وذلك بقبوله وقف النار وتوصيات لجنة ميتشل وبتجاوبه مع التكتل الدولي. فعل أكثر من ذلك، اذ ان مرحلة "التبريد" واجراءات بناء الثقة الواردة في التوصيات توفر الفرصة لاعادة ترتيب البيت السياسي الفلسطيني وكذلك الاسرائيلي على الصعيدين المحلي والدولي. اسرائيلياً، ان مرحلة "التبريد" توفر الفرصة لاستعادة معسكر السلام انفاسه ولاستعادة حزب العمل أدوات الضغط على أقطابه من أمثال شمعون بيريز لرسم طريق العودة الى المفاوضات الجدية. فما يجمع صفوف حزبي العمل وليكود هو تلاقي العنف والأمن في الطروحات الاسرائيلية. وما يجب الاستثمار فيه في مرحلة التبريد هو وضع استراتيجية تقويض وتقصير عمر حكومة شارون من خلال التجاوب الفلسطيني مع التكتل الدولي. فلسطينياً، من المصلحة الفلسطينية المحافظة على زخم التكتل الدولي وعلى الشراكة معه من اجل سحب كل غطاء وكل مبرر وكل ذريعة يريدها شارون لتنفيذ غاياته. ولأن كل المؤشرات تفيد ان الاكثرية الفلسطينية تريد استمرار قيادة السلطة الفلسطينية لها، لا بد ان تستعيد السلطة هيبة القيادة والسيطرة على القرار الفلسطيني. فتناثر القرار الفلسطيني يطيح بوحدة الطرح الفلسطيني على الساحة الدولية. ومن الضروري في هذه المرحلة استعادة ثقة الرأي العام العالمي وتعاطفه مع الحق الفلسطيني بالتخلص من الاحتلال واقامة دولته المستقلة. هذا لا ينفي حق المعارضة الفلسطينية في المشاركة في صنع القرار الفلسطيني شرط ألا تصب مساهمتها في تعزيز تطرف شارون وتمكينه من عقاب جماعي للفلسطينيين بلا لوم أو محاسبة دولية. دولياً، ان قيام تكتل يضم الاممالمتحدة والاتحاد الأوروبي الى جانب الولاياتالمتحدة وروسيا، تطور ايجابي بغض النظر عن مآخذ عليه لعدم توفيره الحماية الدولية للفلسطينيين أو لتركيزه على النواحي الأمنية. المهم لهذا التكتل الآن ان يضاعف الجهود السياسية في مرحلة التبريد كي يقترن الوصول الى استئناف المفاوضات بتصور وباستراتيجية لا تعيد الأمور الى نقطة الصفر حين العودة الى المفاوضات. الأمين العام للامم المتحدة كوفي انان، لدى وصوله غداً الى اسرائيل وفلسطين، يحمل معه أفكار تعزيز العنصر السياسي، انما يفعل ذلك كجزء من المبادرة الدولية. بين ما قد يطرحه فكرة قيام مراقبة دولية لتنفيذ الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني الالتزامات الواردة في توصيات ميتشل، ومن بينها قيام اسرائيل بتجميد الاستيطان وفك الحصار، وقيام السلطة الفلسطينية باجراءات السيطرة على الساحة الفلسطينية. قد يحمل معه ايضاً مقترحات مفصلة لكيفية ترابط الجهود الدولية، على الصعيد الأمني والسياسي والاقتصادي، كرزمة متماسكة غير قابلة للانتقاء منها اسرائيلياً أو فلسطينياً. فالاتحاد الأوروبي المساهم سياسياً في الجهود يتخذ عملياً الاجراءات الاقتصادية الضرورية لمساعدة الفلسطينيين على التعافي في اعقاب الحصار الاقتصادي لهم. والاجراءات الاقتصادية بالاهمية ذاتها للاجراءات الأمنية التي تتولاها الولاياتالمتحدة كما للاجراءات السياسية التي تحرص الاممالمتحدة على تعزيزها. لا احد يتحدث الآن عن الأسس التي يقوم عليها استئناف المفاوضات. فالهم الأول هو تنفيذ توصيات ميتشل وهذه التوصيات تتوقف عند نقطة استئناف المفاوضات، هناك كلام عن اعتماد مقترحات الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون اساساً لانطلاق المفاوضات مجدداً بصفتها الطرح المنطقي الذي يمثل الحل الوسط بين الموقف الفلسطيني المطالب باستئناف المفاوضات حيث توقفت في طابا والموقف الاسرائيلي الذي يريد لها الانطلاق من الاتفاقات الموقعة فقط. والأرجح ان تكون مقترحات كلينتون الأساس. لكن هذا الجانب من المبادرة الدولية ليس ناشطاً في هذا المنعطف بسبب هشاشة الوضع على الساحة وضرورة توطيد الاجراءات الانتقالية الى المفاوضات. ولأن هناك قلقاً من خطورة الوضع، فإن التكتل الدولي جاد في مساعيه. الا ان هذه الجدية ليست بمعزل عن الاهتمام بقضايا اخرى تعني المنطقة وابرزها تداخل الملفين الفلسطينيوالعراقي في ذهن الرأي العام العربي. فالمفاوضات في مجلس الأمن في شأن مشروع قرار جديد يعيد صياغة العقوبات المفروضة على العراق تقوم على اساس استعادة الاجماع بين الدول الخمس الكبرى دائمة العضوية في المجلس. وهذا الاجماع قائم استراتيجياً على رغم الخلافات التقنية، اذ ان لا خلاف على صياغة جديدة للعقوبات ولا خلاف على هدف سيطرة الاممالمتحدة على العائدات النفطية العراقية. فالولاياتالمتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والاممالمتحدة على اتفاق بأن التكتل في الملف الفلسطيني - الاسرائيلي والاجماع في الملف العراقي يسيران معاً في سياسة الاحتواء.