أجيء الى بيروت لأغترف دفئاً، أدّخره كزوّادة لشتاء بريطانيا الطويل، فهناك تعينني هذه الرغادة على تلوين وقتي المكرّس للعزلة، انها العزلة الزرقاء المقبلة من شتاء دائم ذي نبرة لا تتحدث إلا بلسان الريح وايقاع لا يأتي إلا عبر نوتة مطرية، وسحنة هي في الغالب سديمية تتبرج بسحاب ثقيل... لهذا أجيء الى بيروت لأصنع رغداً ما، أخلطه بحنين منفلت من أزمنة بيروتية قديمة، لي فيها موطئ ذكرى، وحبّ فتاة وعشق أمكنة وهواء صادفته في ترحالي نائماً بين جبل وبحر وأرباض أرض لبنانية... أجيء الى بيروت لأمضي هنا وهناك، سارحاً في لجة بحرية، أو شارداً في زقاق ومرتفعات وأرصفة، أو ذاهباً لأسواق وشوارع أحبها، أداري فيها قدامة أحجارها، أتشممها من بعيد وهي ترقد بين شرفات منازل وأفاريز... دائماً أفعَلُ هذا حين أجيء، أمشي على البحر، على هذا الكورنيش المدموغ برائحة القهوة وأريج عرانيس الذرة المشوية... أحياناً أرى عدائين ومشائين... في السابق لم تكن هناك عادات مشي أو عدو، هنا الناس يترهلون بسرعة ويشيبون، ربما البحر برصيفه الأزرق رشّق قدودهم ومنحهم شيئاً من وسامته، انها بيروت الناعمة، الرهيفة، حاضرة لبنان، أو حاضرة البحر والحرية. انه أمر جميل ان تكون هناك حرية، وهي حرية من حرية لبنان القديم، وأن تكون هناك ديموقراطية وهي دمقرطة مشهودة للبنان المجبول على هذا الضياء... في المآل جميل ان تكون هناك ضجة أوراق يدلي بها من يشاء، ليختار بها من يشاء، انه أمر مفرح لعراقي مثلي لم ير منذ نعومة أبصاره في بلده كائناً يدلي بورقة انتخابية، فالطغاة والانقلابيون والبغاة والقتلة ما أكثرهم هناك. حين أجيء الى بيروت، أذهب الى مقاهيها، أتفقدها، أتفقد النُدْل القدامى، ندل السبعينات. يسعدني أن أرى الكراسي والمناضد إياها، ويبهجني أن أرى ماضيها، فهي بالتأكيد تحمل طبائع وذكرى وأسماء جلاّسها القدامى، تحمل شيئاً من أحاديثهم وأنفاسهم وايقاعات أصواتهم. ففي مقاهي شارع الحمراء على سبيل المثال ثمة مقهيان متقابلان، فيها الندل أصدقاء زبائنهما. فهناك نادل له أكثر من ثلاثين عاماً يعمل في مقهى رائدها صديق نادلها، وهذا الرائد يتردد عليها أيضاً منذ أكثر من ثلاثين عاماً... فهما إذاً نشآ في مكان واحد وهرما فيه، لكأنهما عاشا في بيت واحد أو في الحقيقة في غرفة واحدة ذات إطلالة زجاجية على شارع موّار بحركة العابرين والجوالين. أجلس في مقهى جديد في الشارع لاختبر فتنته. انه مقهى حديث على الطريقة الاميركية، فيه الخدمة ذاتية، ولا شيء فيه يذكرني ببيروت، ربما ذكرني بمقاهي لندن وليس باريس ذات التقاليد العريقة في طُرُز المقاهي. للأسف اخطبوط عولمة العالم وتصغيره يشمل بيروت، بالأخص بيروت الجديدة، أعني الوسط التجاري وبعضاً من "عين المريسة" حيث تكثر مطاعم الوجبات السريعة والأسواق الغارقة بالبضائع، لكأننا بلدان همها إيواء البضاعة الاجنبية، لكأننا أسواق للغير، لا هم لها سوى تعزيز الدور الاقتصادي للآخرين وحماية منتجاتهم وتسويقها واغراق شاشاتنا المرئية والمسموعة بإعلاناتها... كم من "دُبي" ستكون هناك في حداثة العالم العربي الجديد؟ في هذا المقهى أتذكر المقاهي القديمة. ثمة مقهى قرأت عنه في ستينات بيروت، هو مقهى "الدولتشفيتا" يحضرني الآن أحد سقاتها الأوائل، تعرفت عليه في إحدى زياراتي الى بيروت، انه ادوارد ابن "إهدن" له الآن مطعم قبالة الجامعة الاميركية. لقد كان فتى حين كان ساقياً في "الدولتشفيتا" والآن تغيرت الأحوال وآلت به السنون بعد أن أوغلت فيه الى هذا المكان الأليف. أطلب من طاعمي شيئاً، فيلبّي طلبي المصحوب بشراب أبيض، أضيف له دائماً كميات من الماء البارد، أنتشي حتى يدخل إدوارد في نشوة شعرية فيقرأ لي مما يحفظه للبياتي والفيتوري، فهما صديقاه منذ الأيام البهية لبيروت الستينات. يقول ادوارد: الشعر صعب ويدّخر ويخزّن في الذاكرة كي ينضج ومن ثم يتشكل على شكل قصيدة. ويضيف وهو رجل قد تعدى الستين من عمره: ان الشعر ليس صوغاً، بل يأتي هكذا عفو الخاطر، فتصوّر وليس له وقت محدد للكتابة، انما هو ضرب من الايحاء وعمل الخيال. والشعر كما يراه ادوارد ابن البيئة الشعبية، لا يحتاج الى رافعات للكتابة سوى القراءة، فلو اعطيت قصراً وقالوا لك هيا اكتب، فإنك سوف لن تكتب شيئاً، وان كتبت فسيكون شعرك مصنوعاً، لا طعم فيه ولا رائحة، لأنه مفبرك. أودع ادوارد، اذ على مرمى خطوات تقع "مكتبة رأس بيروت" التي لي فيها دمغات أصابع على كتبها القديمة التي لم تزل موجودة منذ أيام ترددي عليها في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات... لكأن هذه الأغلفة والعناوين المستريحة على خشب الرفوف تعرفني، من هنا تزوّدت واغتذيت بأجمل الاصدارات التي سدّت نقصاً في معرفتي الأولى، وروت ظمأ خيالي ببهجة جمالية وفنية. أمد يدي هكذا على اللاتعيين، فتعثر مصادفة على عنوان يثير دهشتي بطبعته الأنيقة وورقه الكريميّ الرقيق. "قصائد ساذجة" العنوان ليس غريباً عليّ، وهذا ما دعاني الى اقتنائه، انه "قصائد ساذجة" وهو شعر لبناني مترجم من الفرنسية للشاعر اللبناني المغترب نقولا يواكيم، نقله الى العربية مع مقدمة نقدية ضافية وفيها كمية معرفة دقيقة بعمل الشاعر والشعر للأديب صبحي حبشي. هذا الكتاب صادر في عام 1971، ثم سيصدر في عام 1996 ديوان شعر يحمل العنوان ذاته للشاعر العراقي المعروف سعدي يوسف. من خلال صفحات منبر "الحياة" الثقافي سبق وأن قدمت قراءة لديوان سعدي حال صدوره، وهاأنذا أعود القهقرى لأقرأ هذه الأشعار ذات الصور الشفيفة المصحوبة بنفحة سوريالية تتقن ابتكار الرؤى الدلالية على نحو بارع، مملوء بشعور جمالي يفيض باستعارات تعبيرية، غايتها الادهاش وإثارة المشاعر لدى القارئ، خصوصاً حين يمزج الطبيعة بالانسان والكون بالأشياء، ويعطي للعناصر رموزاً حسية، فيها حسّ خلاّق وطبع نادر كقوله: ما لي أراه الكونَ من ياسمينْ ما لي أرى الغاباتِ أفواهاً هل هي الريحُ لهاثٌ / والسماواتِ جفونْ ما لي أراه السرابَ الكذوبَ كالخمر صارْ؟ / والظلّ أضحى جسداً والرمز صار حقيقة ما لي أراها الغياهب بالمصابيح تضجّ أترى الرملُ كلام؟". هكذا يمضي بنا هذا الشعر في حقوله البريئة، مستكشفاً أسراره الداخلية التي يقسمها صبحي حبشي الى ثلاثة ابعاد: الغنائي والصوفي الميتافيزيقي والفني الجمالي. وحسب صبحي حبشي فالشاعر "ممتلئ بحرارة السؤال، يتشارف على التاريخ والزمن ولا يكتفي بالأشياء اليومية، بل تتضاعف تساؤلاته التأملية، التي تحاول تمزيق القناع الذي يغلّف هذا الوجود المليء بالألغاز". اما في قصيدة "اشياؤها الصغرى" حيث ثمة قصيدة أيضاً لنزار قباني بالعنوان ذاته والتي يقول فيها: "ربّاه أشياؤه الصغرى تعذبني، فكيف انجو من الأشياء رباه"... ان نزاراً يقلب ضمير الغائب المؤنث الى المذكر ليجنب قصيدته من التأثير الواضح لنقولا يواكيم في قصيدته التي يقول فيها: "رحلت تواكبها الطيوب تمتزج بالظل وبضجيج ريح أصم... ما لي أرى في طلعة الأبراج قد امرأة ما لي أرى ثوب امرأة في حرير الستائر ورقصة المخمل". قصيدة يواكيم تبدو منسية وبعيدة، لكن الزمن الصحيح يبقى هو الفيصل والكافل الوحيد لشاعر منسي... انه الكشاف الضامن الذي سيعيد لنا تاريخ شاعر مرة أخرى الى القراءة، حتى لو بقيت نجاة الصغيرة تغني قصيدة نزار "اشياؤه الصغرى"، وكذلك ستبقى قصيدة "كلمات" لجاك بريفير التي استعارها نزار كلها من بريفير وغنتها ايضاً ماجدة الرومي بالعنوان نفسه "كلمات" لن تُنسى وستعود في المآل الى صاحبها الأصلي جاك بريفير. * شاعر عراقي.