تحدثت البارحة عن بعض جوانب عبقرية النضال الفلسطيني، وقلت إن الفلسطينيين استطاعوا أن يفاجئوا المحتل الصهيوني بما لم يكن يخطر له على بال في العديد من محطات نضالهم الوطني. ما لم أقله البارحة هو أن نضال الشعب الفلسطيني انفرد بميزة عجيبة جدًا لم يسجلها التاريخ من قبل.. وأعني بها المقاومة عن طريق الشعر والأدب. أنا بالتأكيد لا أقصد أن أدب المقاومة لم يظهر إلا في فلسطين.. ما أقصده بالتحديد هو أن أدب المقاومة لم يسجل نفسه كظاهرة عامة إلا في الأدب الفلسطيني. حتى فرنسا بكل ما تمتلكه من رصيد ثقافي وذاكرة إبداعية وتراكم معرفي وعمق حضاري، عجزت عن أن تنتج ظاهرة الأدب المقاوم عندما تعرضت للاحتلال النازي إبان الحرب العالمية الثانية. إنني أصر على إطلاق صفة الظاهرة على الأدب الفلسطيني المقاوم، نظرا للمستوى الفني الراقي الذي كان ولا يزال يتميز به. لقد قدمت فلسطين المقاومة، قامات شعرية عملاقة ابتداء من جيل الرواد الذي يمثله إبراهيم طوقان وشقيقته فدوى، مرورا بالعملاق محمود درويش وسميح القاسم. وفي مجال الرواية قدمت فلسطين المقاومة غسان كنفاني وإيميل حبيبي وغيرهم. أما في الفكر فقد قدمت فلسطين المقاومة إدوارد سعيد الذي استطاع من خلال كتاب واحد هو (الاستشراق) أن يكشف جذور الثقافة الغربية القائمة على العنصرية والاستعلاء والإقصاء. وقد تمكن إدوارد سعيد من فضح الخطاب الثقافي الغربي والكشف عن جذوره من خلال تحليل آلاف النصوص التي تشتمل على الأدبي والسياسي والفكري والعلمي. لقد كان (الاستشراق) سلاحًا نوعيًا في معركة الشعوب المستضعفة ضد الاستعمار، أكثر من كونه مؤلفًا يتمتع بمقومات العبقرية.. ولذلك فإنه لم يكن من الغريب أن يتحول هذا الكتاب إلى دستور للنضال الوطني ومقاومة الاستعمار ليس على المستوى العربي فقط، وإنما على مستوى شعوب العالم الثالث قاطبة.. وليس أدل على ذلك من ترجمة هذا الكتاب إلى عشرات اللغات الحية. إن شعبا يعتقد بمقولة محمود درويش (شعب بلا شعر، شعب مهزوم) لا يمكن لأكبر قوى الاستعمار أن تلغيه من الخارطة مهما فعلت.