توتنهام يتغلب على أينتراخت فرانكفورت    الأسهم الأوروبية تغلق على انخفاض    مجلس الأعمال السعودي الأمريكي يحتفي بمرور 30 عامًا على تأسيسه    قتيلان في إطلاق نار في جامعة في فلوريدا    النفط يسجل زيادة بأكثر من 3 بالمئة    تشيلسي الإنجليزي يتأهل للمربع الذهبي بدوري المؤتمر الأوروبي    ممتاز الطائرة : الأهلي يواجه الاتحاد .. والابتسام يستضيف الهلال    ميلوني: نريد التعاون مع أميركا في مجال الطاقة النووية    «سلمان للإغاثة» ينفّذ البرنامج التطوعي الثلاثين في مخيم الزعتري اللاجئين السوريين بالأردن    الغزواني يقود منتخب جازان للفوز بالمركز الأول في ماراثون كأس المدير العام للمناطق    نائب وزير الخارجية يستقبل وكيل وزارة الخارجية الإيرانية    في توثيقٍ بصري لفن النورة الجازانية: المهند النعمان يستعيد ذاكرة البيوت القديمة    «تنمية رأس المال البشري».. تمكين المواطن وتعزيز مهاراته    تقاطعات السرديات المحلية والتأثيرات العالمية    هل أنا إعلامي؟!    فرح أنطون والقراءة العلمانية للدين    الاستمرار في السكوت    في إشكالية الظالم والمظلوم    انطلاق مهرجان أفلام السعودية في نسخته ال11 بمركز إثراء    حتى لا تودي بك تربية الأطفال إلى التهلكة    موعد مباراة الهلال القادمة بعد الفوز على الخليج    ضبط إثيوبيين في عسير لتهريبهما (44,800) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    وزير الدفاع يلتقي أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني    غدًا.. انطلاق التجارب الحرة لجائزة السعودية الكبرى stc للفورمولا 1 لموسم 2025    القبض على إندونيسي ارتكب عمليات نصب واحتيال بنشره إعلانات حملات حج وهمية ومضللة    أمير القصيم يستقبل مدير فرع الشؤون الإسلامية    نائب أمير منطقة جازان يطّلع على تقرير "الميز التنافسية" للمنطقة لعام 2024    نائب أمير منطقة جازان يضع حجر أساسٍ ل 42 مشروعًا تنمويًا    عبدالعزيز المغترف رئيساً للجنة الوطنية لمصانع الابواب والألمنيوم في اتحاد الغرف السعودية    نائب أمير جازان يرأس الاجتماع الرابع للجنة الإشرافية للأمن السيبراني    أمير القصيم يستقبل منسوبي تجمع القصيم الصحي ويطّلع على التقرير السنوي    معرض اليوم الخليجي للمدن الصحية بالشماسية يشهد حضورا كبيراً    24 ألف مستفيد من خدمات مستشفى الأسياح خلال الربع الأول من 2025    تجمع القصيم الصحي يدشّن خدمة الغسيل الكلوي المستمر (CRRT)    تخريج الدفعة ال22 من طلاب "كاساو" برعاية نائب وزير الحرس الوطني    إلزام كافة شركات نقل الطرود بعدم استلام أي شحنة بريدية لا تتضمن العنوان الوطني اعتبارًا من يناير 2026    بتوجيه من القيادة.. وزير الدفاع يصل العاصمة الإيرانية طهران في زيارة رسمية    جامعة الإمام عبدالرحمن وتحفيظ الشرقية يوقعان مذكرة تفاهم    مشاركة كبيرة من عمداء وأمناء المدن الرياض تستضيف أول منتدى لحوار المدن العربية والأوروبية    قطاع ومستشفى تنومة يُنفّذ فعالية "التوعية بشلل الرعاش"    وفاة محمد الفايز.. أول وزير للخدمة المدنية    سهرة فنية في «أوتار الطرب»    مجلس «شموخ وطن» يحتفي بسلامة الغبيشي    زخة شهب القيثارات تضيء سماء أبريل    يوم الأسير الفلسطيني.. قهرٌ خلف القضبان وتعذيب بلا سقف.. 16400 اعتقال و63 شهيدا بسجون الاحتلال منذ بدء العدوان    معركة الفاشر تقترب وسط تحذيرات من تفاقم الكارثة الإنسانية.. الجيش يتقدم ميدانيا وحكومة حميدتي الموازية تواجه العزلة    5 جهات حكومية تناقش تعزيز الارتقاء بخدمات ضيوف الرحمن    الاتحاد الأوروبي يشدد قيود التأشيرات على نهج ترامب    الأمير سعود بن جلوي يرأس اجتماع المجلس المحلي لتنمية وتطوير جدة    القيادة تعزي ملك ماليزيا في وفاة رئيس الوزراء الأسبق    أنور يعقد قرانه    "التعليم" تستعرض 48 تجربة مميزة في مدارس الأحساء    قيود أمريكية تفرض 5.5 مليارات دولار على NVIDIA    حرب الرسوم الجمركية تهدد بتباطؤ الاقتصاد العالمي    مؤسسة تطوير دارين وتاروت تعقد اجتماعها الثاني    قوات الدعم السريع تعلن حكومة موازية وسط مخاوف دولية من التقسيم    رُهاب الكُتب    سمو أمير منطقة الباحة يتسلّم تقرير أعمال الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوفقير كان المسؤول الفرنسي الذي ظن بن بركة انه في طريقه لمقابلته ... والدليمي يبلغ "الحياة" ان الخاطفين طلبوا "مبلغاً مالياً" . طلب ديغول معاقبة أوفقير والدليمي فرد الحسن الثاني بأن "زمام الأمور يفلت أحياناً من يد العظماء" الحلقة 4
نشر في الحياة يوم 10 - 08 - 2001

تُعالج الحلقة الرابعة من ملف "قضية بن بركة" قصة خطف المعارض اليساري في سيارة تابعة للأمن الفرنسي وتسليمه الى مسؤولين مغاربة على رأسهم الجنرال محمد أوفقير في فيلا في ضواحي باريس. كذلك تعرض كلام مدير الأمن المغربي العقيد أحمد الدليمي، الذي يُزعم انه متورط بدوره في خطف بن بركة وقتله، في مقابلة مع "الحياة" سنة 1966 ان هناك "عصابة" في فرنسا عرضت على المغاربة مقايضتهم المعارض البارز لقاء مبلغ مالي.
جريمة اغتيال من دون جثة، ومجرمون من دون ملامح. هكذا بدت قضية المعارض المغربي المهدي بن بركة التي لم تستقر التحريات والاستقراءات عند حصرها في الفترة التي نفذت فيها الجريمة او من خلال الشركاء المتورطين والمحتملين فقط، لكنها تجاوزت ذلك نحو تداعيات سياسية وامنية القت ظلالاً كثيفة من التساؤلات حول الهدف من وراء الجريمة والخلفيات التي تحكمت في تنفيذها بصورة تركت بصمات عدة، ليس فقط لأن القناع لم يكشف عن مكان الدفن او التذويب كما في افادات ضابط الاستخبارات المغربية السابق احمد البخاري، ولكن لأن الجانب القانوني فيها لم يغيّب الجانب السياسي.
اذ على رغم ان محكمة فرنسية درست الملف عامي 1966 و1967 وأصدرت احكاماً ضد بعض المتورطين، فان تداعيات الملف لم تغلق نهائياً، خصوصاً ان الجريمة الغامضة التي ارتكبت وسط العاصمة الفرنسية في 29 تشرين الأول اكتوبر 1965 كانت التحريات حولها تقود في كل مرة نحو اتجاهات جديدة، تعاطى معها حوالي خمسة قضاة تحقيق فرنسيين. وحتى حين أمر الاشتراكي بيار موروا، رئيس الوزراء الفرنسي في بداية الثمانينات، بالافراج عن وثائق القضية وتسليمها الى القضاء احتاج الامر الى حوالي عشرين سنة لمعاودة فتح التحقيق، في حين تمسكت وكالة المخابرات المركزية الاميركية بعدم الكشف عما في حوزتها من وهي مستندات تزيد على ثلاثة آلاف وثيقة.
وكانت لجنة فرنسية لتقصي الحقيقة رأسها المؤرخ والباحث شارل اندريه جوليان اجرت تحريات عدة دعمتها شهادات سياسيين ومسؤولين عاينوا فترة الحادث، بيد ان مهماتها لم تقد نحو معرفة المصير المجهول للرجل والجثة، في حين ان فك الغاز القضية سيحتاج الى التوغل في احداث ووقائع جرت في عواصم عدة في الفترة ذاتها او قبلها وبعدها.
فالمعارض المغربي الذي كان يقيم وقتذاك في القاهرة منفىاً بعد صدور حكمين عليه بالاعدام في الرباط، كان يعمل من هناك للتحضير لمؤتمر القارات الثلاث في هافانا، عاصمة كوبا، لكنه كان كثير التنقل بين القاهرة وجنيف وباريس وعواصم اخرى. الا ان خيوط اختطافه ستتلاحق عبر تحركات اجهزة استخبارية في المنطقة الجغرافية نفسها.
لا تُشابه قضية اختطاف واغتيال المعارض المغربي المهدي بن بركة أي حال اخرى. فأصل الغموض فيها ليس الجريمة في حد ذاتها، وانما غياب ادلة قاطعة وقرائن ثابتة حول مآل الجثة التي حرّكت تحريات اكثر من طرف فرنسي واميركي واسرائيلي ومغربي من دون التوصل الى تشخيص دقيق لظروف الاختفاء الذي حصل يوم 29 تشرين الأول 1965 في حانة "ليب" في الحي اللاتيني في باريس. كان على موعد ثقافي لانجاز شريط سينمائي بعنوان "كفى" لكن الشريط تحول الى وقائع غريبة تداخت فيها الاحداث والمصالح والاعتبارات التي التقت عند كون الرجل كان مطلوباً من اكثر من جهة، وقادته الطريق من القاهرة الى جنيف ثم باريس ليصبح اختفاؤه القسري لغزاً محيراً. وفيما كان الشريط السينمائي يركز على المهدي بن بركة مناضلاً يسارياً لاسماع صوت العالم الثالث في فترة اتسمت بميول قوية ضد الغرب، بدا ان حدس الرجل الذي كان يشك في أي حركة او موعد، لم يسعفه هذه المرة في تجنب المصيدة. والسبب في ذلك انه كان فعلاً على موعد في باريس مع شخصية سياسية لترتيب العودة الى المغرب. لكن الموعد مع الموت كان اسبق من بروتوكول قصر الاليزي، حيث كان ينتظره الرئيس السابق الجنرال شارل ديغول الذي أبدى امتعاضاً حيال الجريمة التي ارتبطت ب"أرض الحرية" باريس، وشكلت من وجهة نظره اهانة للكرامة الفرنسية، انعكست في صورة ازمة مغربية - فرنسية دامت سنوات، واحتاج الأمر الى اكثر من جهود ديبلوماسية لمعاودة ترتيب علاقات البلدين التي كان تأثير سنوات الاستعمار الفرنسي للمغرب فيها بالغاً.
ويكشف السياسي الفرنسي فانسان مونتاي الذي عمل مراقباً في المغرب إبان فترة الاستعمار، انه كان وراء تنظيم أول لقاء بين المعارض بن بركة والجنرال شارل ديغول. وهو يروى انه اجتمع مع بن بركة إثر ذلك وسمع منه: "وجدته ديغول قائداً للعالم الثالث، وقد تفاهمنا في شكل مثير. ويمكنني القول اني سأكون دائماً تحت رقابته الخاصة في باريس، ولن اكون معرضاً لأي خطر خلال وجودي هناك".
وهذا ما يحمل على الاعتقاد ان "الموعد السياسي" الذي حتّم عليه الانتقال من جنيف الى باريس كان مع الجنرال ديغول. بيد ان شهادة فانسان مونتاي نفت تأويلات بإمكان تورط ديغول في قضية بن بركة. اذ قال في هذا السياق "اذا كان مؤكداً وجود تورط في اقسام الشرطة وداخل جهاز الاستخبارات، فالأكيد ان الجنرال ديغول لم يكن يعلم بذلك". واضاف انه فاتح ديغول في القضية فأجابه "يجب معاقبة المتهمين الحقيقيين: اوفقير والدليمي".
وكان ديغول غاضباً بالفعل وصدرت عنه تصريحات قوية تتهم مسؤولين مغاربة وقتذاك بالتورط في الاختطاف. وقال: "ما يجب اعتباره في القضية ان وزير الداخلية محمد اوفقير في الحكومة المغربية التي مرت بأزمات سياسية متعددة وخطيرة، قام كما تدل على ذلك كافة القرائن بتغييب أحد قادة المعارضة الرئيسية فوق اراضينا". وعاب على الحكومة المغربية انها "لم تفعل شيئاً لتبرير أو اصلاح الأضرار" التي اصابت العلاقات المغربية الفرنسية نتيجة الحادث.
الا ان الملك الراحل الحسن الثاني رد على ذلك بالقول: "يمكن لزمام الامور ان يفلت احيانا من يد العظماء". واضاف: "ما كان عليه ديغول ان يفرض عليّ عزل احد وزرائي. كان حرياً به ان يبلغني رسالة مفادها: هذه هي العناصر التي اتوافر عليها، ولا يليق ان تلطخ سمعة الحكومة الفرنسية ولا سمعة شخصكم". واوضح الملك الراحل: "كنت سأقوم بعزل الشخص او الاشخاص المشتبه فيهم حتى لو كانت القرائن المتوافرة ضدهم غير كافية".
وفي سياق شهادات لمسؤولين واصدقاء المعارض المهدي بن بركة قدمت امام المحكمة الفرنسية قال وزير الداخلية الفرنسي السابق امانويل داستينيه دولافيرجي عندما سئل هل كان سيأمر باعتقال وزير الداخلية المغربي اوفقير بعد حادث اختطاف بن بركة: "ما كنت ألقيت عليه القبض، غير انه يمكنني ان اطلب الى الوزير المغربي ان يبقى لفترة 24 ساعة أخرى لاحصل على ايضاح منه على مستوى اعلى"، في اشارة الى التناقض الذي طبع موقف السلطات الفرنسية. وقال امانويل داستينيه ان الحال نفسه كنت سأطبقه على مدير الامن المغربي احمد الدليمي. لكنه نبه المحكمة الى ان التحقيقات الاولية كانت مختصرة جداً وتدعو الى السخرية.
وينقل الوزير الفرنسي السابق في الخارجية الان سافاري انه كان على موعد مع بن بركة في القاهرة قبل ايام قليلة من اختطافه من باريس، في 16 تشرين الأول اكتوبر 1965، وان الحديث دار وقتذاك حول امكان عودته الى المغرب. وقال ان الرجل كان مشغولاً بالاوضاع في بلاده، وان افتراض تولي حزبه المسؤولية في المغرب كان ورادا في ذهنه. وقال: "كنا نبحث معه الظروف التي يمكن ان تسود من اجل بناء المغرب". واضاف: "اتفقت معه على موعد ثان في باريس، ولم يكن يدور في باله ان سلامته ستكون مهددة هناك لانه كان يضع مطلق الثقة في جهازي الامن والقضاء الفرنسيين".
أين الجثة؟
في سيناريوهات انتظار الموعد كانت الرئاسة الفرنسية وكان هاجس الرباط في معاودة ترتيب العلاقة مع المعارضة التي كان يتزعمها المهدي بن بركة، وكانت عيون اسرائيلية واميركية وفرنسية ومغربية غير بعيدة عن فضاء الموعد الذي سيكون نهائياً مع القدر المحتوم. لكن اختفاء الجثة حال دون اكتشاف ظروف الجريمة. وبالقدر الذي تضاربت فيه التقديرات والتحريات حول طابع الحادث والاطراف المتورطة فيه بالقدر الذي تحولت فيه جثة المعارض الراحل الى محور للتكهنات. فتارة يقال ان رأسه فصلت عن جثته ودفنت في غابة في ضواحي باريس. وتارة يتردد ان الجثة بكاملها دفنت في ساحة مهجورة بني عليها مسجد في باريس. وفي مرات أخرى يقال انها وضعت في طائرة عسكرية اتجهت بها الى الرباط. لكن اللافت في هذه الروايات كافة انها كانت في كل مرة تستند الى افادات تقود الى استخلاص موقف ما. وربما كانت آخر شهادة قدمها عميل الاستخبارات المغربي السابق احمد البخاري حول تذويب جثة المعارض في حوض اسيد في معتقل "دار المقري" في الرباط أقرب الى الحقيقة. اذ انها تمثل واحداً من السيناريوهات الذي يركز على تواطؤ جهاز الاستخبارات المغربي "كاب 1" وأجهزة فرنسية واميركية واسرائيلية في الحادث. لكن المعطيات التي كشف عنها تحتاج الى تدقيق، خصوصاً ان بعض الذين سمّاهم نفوا معلوماته وهددوا بمقاضاته. وكان من تداعيات افادة البوخاري ان القضاء المغربي دعي الى فتح تحقيق في القضية إثر شكوى قدمها حزب الاتحاد الاشتراكي الذي يتزعمه رئيس الوزراء المغربي عبدالرحمن اليوسفي. لكن قبل انفجار القضية كان قاضي التحقيق الفرنسي جان باتيست بابلوس باشر تحقيقات في المغرب ركزت على جمع افادات حول ظروف اختفاء رعايا فرنسيين كانت لهم علاقة باختطاف المهدي بن بركة، في حين دعي البخاري الى الادلاء بإفاداته امام قاضي التحقيق الفرنسي.
في التاسعة والنصف من صباح الجمعة 29 تشرين الاول 1965، وصل بن بركة الى مطار اورلي الفرنسي قادماً من جنيف. كانت سبقته اشارة من شرطة الحدود السويسرية تخبر بقدومه. لكن بن بركة قال قبل ذلك لسائقه الخاص انه لن يكون في حاجة الى حماية وان مسؤولين في الامن الفرنسي سيرافقونه الى "موعد سياسي" حتم حضوره الى باريس. وضع امتعته عند صديق له في شارع جون ميرموز والتقى الطالب الازموري الذي كان يتابع دراسته في فرنسا وكان يعتزم اشراكه في انجاز شريط "كفى". انتقل الاثنان على متن سيارة اجرة الى سان جيرمان دوبري.
توقفت سيارة الاجرة امام مكتبة "لابوشاد" آتية من شارع دراغون. فضل بن بركة تمضية بعض الوقت متفحصاً عناوين الكتب من خلال الواجهة الزجاجية. لمحه الضابط "سوشون" عن بعد وتقدم نحوه بأدب: "اننا رجال امن فرنسيين وسنأخذك الى موعد". طلب بن بركة التأكد من ثبوت الاوراق المهنية واخرج جواز سفره للتعريف بشخصه. كان هادئاً قبل ان يطلب منه سوشون الصعود الى سيارة شرطة من نوع "بيجو 403" تابعة لولاية الامن الفرنسي. ركب المهدي من دون تردد. بدا انه كان واثقاً من الموعد ومن الترتيبات الامنية لانجازه. لكنه ربما تساءل مع نفسه ان كان الامر يتعلق بالموعد نفسه الذي كان يعرفه ام بترحيله من باريس.
الاستخبارات وحانة "ليب"
اخترقت سيارة الشرطة شوارع باريس. وبعد فترة صمت قيل لبن بركة: "حقيقة الحكاية ان مسؤولاً كبيراً في الامن الفرنسي يريد مقابلته". وبعد ان خطر على باله ان المسؤول قد يكون رئيس جهاز الاستخبارات الفرنسية، قال: "اسمحوا لي: إنني متأكد اني لم اقم بشيء ضد فرنسا". لكن رجال الشرطة الذين تمسكوا بأنهم لا يعرفون شيئاً عن مضمون المقابلة، اكدوا ان اللقاء سيتم في فيلا في ضواحي باريس.
كانت حانة "ليب" لا تبعد كثيراً عن مقر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في باريس الذي كان مركزاً يعج بالحركة. كان الطلاب المغاربة وقتذاك يجتمعون هناك لرصد تطورات الاوضاع في بلادهم. هناك في شارع سيربونت رقم 15 الذي لا يبعد غير اقل من كيلومتر واحد لم يكن يخطر في بال احد ان المهدي بن بركة سيكون في موعد محدد مع النهاية. وبحسب افادات اشخاص عاينوا الفترة، فإن الطالب التهامي الازموري الذي رافق المهدي الى الموعد، كان في امكانه ان يتجه مباشرة بعد الاختطاف الى مقر الحزب، او ان يركب رقم 28 - 94 دانتون لاخبار المسؤولين هناك. لكن حال الدهشة والخوف التي اعترت الطالب الازموري حالت دون ذلك.
الازموري مشنوقاً
وروى بعض من عاينوا عملية الاختطاف انهم شاهدوا بعض الاشخاص بملامح شمال افريقية يصوّرون الحادث، وربما تعمد احدهم ابعاد الازموري الذي لم يخبر بالحادث الا ليلاً، مما اضاع فرصا عدة لملاحقة سيارة الامن. اصيب الازموري بهلع كبير رافقه مدى الحياة وظل يعاني من تداعياته النفسية. وربما لهذا السبب وُجد ذات صباح في غرفة رفيقته دانييل رابوبور مشنوقاً في شارع بييرفر، قبالة منزل الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران.
كان الازموري يرتبط بعلاقة غرامية مع السيدة دانييل، وهي فرنسية من اصل يهودي تحمل الدكتوراه في الطب النفسي للاطفال. وكان متزوجاً من سيدة اخرى تعمل في مقر الحلف الاطلسي في بروكسيل ثم انتقلت الى المغرب حيث عملت سكرتيرة خاصة لديبلوماسي في السفارة الاميركية في الرباط. وعلى رغم انه يصعب تأكيد ضلوع المخابرات الاميركية في الحادث، فالثابت ان مسؤولين في الاستخبارات المغربية تلقوا تدريبات عدة لدى الاستخبارات الاميركية التي كانت تنظر وقتذاك الى تحركات المهدي بن بركة في التحضير لمؤتمر القارات الثلاث بارتياب. وثمة من يذهب الى انها تمنت على السلطات المغربية تسريع عودته كي لا يشارك في مؤتمر هافانا. في حين ان جهاز "الموساد" كان يرصد تحركاته خصوصاً في نطاق مناهضته مظاهر "التغلغل الاسرائيلي" في افريقيا، وكان القى محاضرة في الجزائر قبل اسابيع من اختطافه عرض فيها الى ذلك التغلغل في الاقتصاد والزراعة والتكنولوجيا واستيعاب الكفاءات. الا ان اهمية المحاضرة انها كانت تضع مقاربات بديلة بالتعاون مع حركات التحرير في افريقيا واميركا اللاتينية.
وكان بن بركة اجتمع في الجزائر ايضاً مع الثائر تشي غيفارا، فضلاً عن ارتباطه بعلاقات قوية مع الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر الذي لم يكن يحبذ دور المغرب في ازمة الشرق الاوسط، وتعرضت علاقات بلاده والرباط الى ازمة عام 1963 بسبب تداعيات "حرب الرمال" المغربية - الجزائرية، بخاصة في ضوء اعتقال السلطات المغربية عسكريين مصريين تاهوا في الصحراء الشرقية اثر تعرض طائرتهم لعطل تقني. وحرص الملك الراحل الحسن الثاني على ان يأخذهم معه في طائرته الخاصة عندما حل بالقاهرة للمشاركة في مؤتمر القمة العربي لعام 1965. وجرت في غضون ذلك اول مصافحة بين الملك الراحل الحسن الثاني والرئيس الجزائري احمد بن بلة قبل ان يطيحه الرئيس هوراي بومدين بعد ذلك بفترة قصيرة.
ذاك المساء ظل مقعد المهدي بن بركة فارغاً في مسرح "لا غيتي مونبرناس" الذي كان يعرف عرض مسرحية الكاتب "بوريس فيان" حول حياة جنرالات فرنسيين. كان بن بركة اتصل الخميس اليوم السابق لاختطافه من جنيف. أخبر شقيقه عبدالقادر بأنه سيزور في السابعة مساء من يوم الجمعة، وتمنى عليه ان يحضر الجميع عرض تلك المسرحية. وفي اليوم نفسه طلب الى عقيلة شقيقه ان تعمل من اجل الحصول على تذكرة رابعة لحضور العرض المسرحي. ولدى العودة مساء وجدوا مكالمة خاطفة تفيد ان طالباً اتصل بهم في قضية مستعجلة. ولم يكن الطالب سوى التهامي الازموري الذي كان أخبر اصدقاء المهدي في الحزب وآخرين انه عاين صباحا عملية اقتياده من امام حانة "ليب" لكن من دون ان يدرك مغزى ذلك.
لم تبدأ اجهزة الامن الفرنسية البحث عن المهدي بن بركة سوى في اليوم التالي... لكن من دون جدوى. لكن تحقيقات لاحقة قادت الى اعتقال بعض المتورطين في الاختطاف، من دون فك الغازه التي ما زالت تلقي بظلالها على القضية بعد اكثر من 36 سنة من حصولها.
بين المسرحية التي فات المهدي بن بركة ان يشاهدها في باريس، والشريط السينمائي الذي لم يتمكن من انجازه حول حركات التحرير في العالم الثالث، بقيت فصول اكثر تشابكاً في مشاهد اقرب الى الخيال السينمائي، لكنها كانت حقيقية، شارك فيها رجال امن واستخبارات ومجرمون عتاة، وانتقلت وقائعها بين عواصم عدة، لكن قاضي التحقيق الفرنسي زولنجز تعاطى معها كمن يمشي فوق حقول من الالغام كانت تنفجر بين الفينة والاخرى.
في تسلسل الاحداث ان اوفقير وصل الى باريس في 30 تشرين الأول، اي في اليوم التالي لاختطاف بن بركة، في حين ان احمد الدليمي الذي كان موجوداً قبل ذلك في الجزائر وصل في اليوم ذاته قبل ثلاث ساعات من قدوم اوفقير. لكن مسؤولاً مغربياً سابقاً صرح بأن زيارة الدليمي للجزائر كانت بهدف الاعداد لقمة افريقية، وانه في ضوء فشل الاعداد للمؤتمر الذي كان سيحضره الملك الراحل الحسن الثاني تلقى الدليمي دعوة عاجلة للعودة الى بلاده. واوضح السيد المهدي بنونة مدير وكالة الانباء المغربية وقتذاك ان الدليمي طلب اليه تأمين تذكرة للعودة مباشرة، وفي حال تعذر ذلك تكون العودة عن طريق اي عاصمة اوروبية، باريس او جنيف او روما. واكد بنونة انه سحب التذكرة على طريق باريس ودفع ثمنها من حساب وكالة الانباء المغربية. لكن المسؤول المغربي استدرك بأن "اوفقير متورط في القضية من دون شك".
لكن شهوداً ومتورطين سيؤكدون ان العميل لوبيز اتصل في اليوم ذاته بالجنرال اوفقير الذي كان خارج العاصمة الرباط وهناك من يقول انه كان في فيلا خاصة في القنيطرة لكن من دون جدوى. في حين ان خيوط الهاتف الذي ضبطت ارقامه مسجلة من مخدع هاتفي في مطار اورلي ومن بيت لوبيز، اكدت ان الارقام كانت لمصالح مغربية، ما يلتقي والرواية التي اكدها العقيد احمد الدليمي لجهة تورط شبكة مغامرين فرنسيين في اختطاف بن بركة لقاء مبالغ مالية ضخمة.
الدليمي و"الحياة"
لكن احمد الدليمي صرح في مقابلة مع "الحياة" نشرت في 19 تشرين الاول اكتوبر 1966 بأنه كان في باريس من اجل الاعداد لربط اتصال مع المهدي بن بركة "للتحقق من عودته الى المغرب". واضاف: "فوجئنا ونحن في باريس بخبر اختطافه. الاكيد ان الذين اختطفوه كانوا على علم بخبر عودته الى المغرب". وشرح ذلك بالقول: "ذهبنا الى باريس بناء على موعد رسمي. انهم اي منفذي الاختطاف اتصلوا بنا واخبرونا ان بن بركة في حوزتهم وانهم مستعدون لنقله الى المغرب في مقابل مبلغ مالي". واضاف الدليمي "لم يكن المبلغ المالي في حوزتنا، لكننا التزمنا بأدائه حال وصول المهدي بن بركة الى المغرب بسلام". وزاد: "كنا ضحية عملية ابتزاز من طرف مجموعة كانت تريد مساومتنا في بن بركة". لكنه اعترف في المقابلة نفسها: "لا اعرف ان كان المهدي قد اغتيل ام لا. ففي المغرب كنا ننتظر وصوله في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر بعد ان فارقناه وهو حي يرزق". وخلص: "لا اعرف ماذا وقع ولا من المسؤول عما وقع. كل ما اعرفه ان هناك مجموعة في فرنسا لا ترغب في عودة بن بركة ولها مصلحة في ان يظل بعيدا عن السياسة المغربية".
التصريح يعتبر تأكيداً رسمياً لجهة قيام حوار بين مسؤولين مغاربة والمعارض المهدي بن بركة. فالادلة تؤكد انه اقتيد صباح 29 تشرين الأول 1965 الى فيلا في حي "اورموي" كان يملكها العميل انطوان لوبيز. بيد ان ما جرى هنا يدفع الى التساؤل: فالمهدي بن بركة المعروف بحذره لم يكن يقبل ركوب سيارة شرطة رفقة مسؤولين في الامن الفرنسي ان لم يكن على موعد فعلاً مع شخصية مغربية او فرنسية. لكن المفارقة انه ربط في الوقت ذات بين موعدين. فهل انه كان يخفي موعده الثاني غير المعلن على الفرنسيين الذين كان سيبحث معهم في تفاصيل انجاز الشريط السينمائي، ام ان التباساً حدث في فترات الموعدين معاً. الثابت انه غاب نهائياً منذ وصوله الى فيلا "اورموي".
غداً حلقة خامسة:
تفاصيل قتل بن بركة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.