على مدى سبعة أعوام، بدأت منذ العام 1994، وعبر أربعة عروض مسرحية، استطاعت المخرجة السورية رولا فتّال أن تنجز تجربتها الخاصة. فهي درست في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، قسم النقد والأدب المسرحي، وتخرجت العام 1994، ثم دخلت على الفور ضمن الحركة المسرحية السورية، وقدمت أربعة أعمال، ثلاثة منها ضمن فرقة "الرصيف" التي أسستها مع الكاتب التونسي المقيم في دمشق حكيم مرزوقي والعمل الرابع خارجها. وعبر هذه الفرقة، التي كانت أول فرقة مسرحية مستقلة في سورية، تقدم عروضاً فنية جادة، عرضت رولا فتّال عملها المسرحي الأول "عيشة" عن نص لحكيم مرزوقي واخراج رولا فتال نفسها، وكان ذلك في العام 1996. والمسرحية هذه شاركت في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وحققت نجاحاً كبيراً وسط العروض المسرحية العربية المشاركة في مهرجان هذا العام. ثم قدمت عرضين آخرين ضمن فرقة "الرصيف" للكاتب نفسه، هما "اسماعيل هاملت" و"ذاكرة الرماد". ثم أعادت العام الماضي 2000 تقديم رؤية اخراجية جديدة لعرضها المسرحي الأول "عيشة". أخيراً عادت رولا فتال الى القاهرة لعرض مسرحيتها الجديدة "الكونترباص"، مقتبسة من الكاتب الألماني باتريك زوسكيند الذي راجت روايته الأولى "العطر" في العالم أجمع، وتمثيل علي كريم. بطاقة العرض أيضاً تفيد بأن الإعداد كان لرولا فتال وعلي كريم، وترجمها عن الألمانية مباشرة كامل اسماعيل، وصمم الاضاءة ماهر هربش، وتضمن العرض مقاطع من فيلم "بروفة الأوركسترا" للمخرج الايطالي الشهير فيديريكو فيلليني، وعرضت المسرحية يومين متتاليين في معهد "غوته" في القاهرة ثم على مسرح الهناجر بدعوة من الناقدة هدى وصفي رئيسة المركز ومديرته. "الحياة" التقت رولا فتال وكان هذا الحوار: أبدأ من اللحظة التي تخرجت خلالها في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق العام 1994، كيف كنت ترين الساحة المسرحية السورية، وكيف كانت ملابسات اخراجك الأول لمسرحية "عيشة"؟ - بعد التخرج في المعهد، شعرت بأن عليّ أن أقدّم شيئاً مختلفاً في المسرح. كنت أشعر أن هناك فجوة بين ما يقدم على المسرح آنذاك، وبين الواقع المعيش. فعموماً كانت معظم المسرحيات التي تعرض في فترة دراستي على المسارح السورية، مأخوذة عن نصوص أجنبية، مترجمة وبعيدة من الواقع الحياتي الذي نعيشه، وهذا لا يعني انعدام التجارب الجيدة، بل كانت هناك مثل هذه التجارب. لكن معظم الأعمال كانت كما قلت منفصلة عن هموم الناس ومشكلاتهم. ومن ثم بدأت أول تجربة اخراجية لي وهي مسرحية "عيشة" وكانت من انتاجي واخراجي. كان ذلك في العام 1996، وشاركت بها في مهرجان القاهرة الدولي الثاني عشر للمسرح التجريبي، لأنني أحببت أن آخذ فكرة عن عروض المهرجان العربية والأجنبية. وأعتبر ان أي مهرجان عربي هو خطوة مهمة جداً لإثراء الساحة المسرحية. إلا أنني أعدت اخراج مسرحية "عيشة" سنة 2000 مع ممثلة جديدة تماماً وعرضتها في أكثر من بلد عربي وأجنبي، ولاقت نجاحاً كبيراً، وكانت عن نص للكاتب المسرحي التونسي المقيم في دمشق حكيم مرزوقي، وهو الكاتب نفسه الذي أخرجت له نصين آخرين هما "اسماعيل هاملت" و"ذاكرة الرماد". وحصل عرض "اسماعيل هاملت" على جائزة مهرجان "قرطاج" للمسرح العام 1997 كأفضل اخراج، وهو العرض الذي شاركت به في مهرجان "لفت - LIFT" في لندن، وعرض في القاهرة على مسرح "الهناجر" وعرض على مسرح "مونو" في بيروت، وكانت عروض أيضاً في العاصمة الأردنية عمان. بعد ذلك انتقلت الى مشروع جديد، هو "ذاكرة الرماد" وكان انتاجاً مشتركاً بيني وبين بلجيكا، من خلال مهرجان الفنون في بروكسيل وهو العرض الذي شاركت به في مهرجانين كبيرين للمسرح، الأول هو مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة، خارج المسابقة الرسمية العام 1999، والثاني مهرجان قرطاج، أيضاً العام 1999، وأيضاً خارج المسابقة الرسمية للمهرجان. في عرضك الجديد "الكونترباص" تتناولين نصاً لكاتب غربي هو الألماني باتريك زوسكيند، كيف عالجتِ هذا النص من دون أن تشعري المتلقي بأن الواقع المسرحي ليس منفصلاً عن واقعه المعيش وهمومه؟ - لا شك في أن الحالات الانسانية واحدة، بغض النظر عن جنسية النص، سواء كان ألمانياً أو عربياً أو فرنسياً. لكن معالجة النص هي التي تختلف من عمل الى آخر. وعادة أحب أن أتعامل مع نصوص عربية، لأن هذه النصوص أقرب الى بيئاتنا وتقاليدنا ومناخاتنا، ذلك لأنني أعتقد أننا نحن العرب، لدينا تركيبة عقلية تختلف عن التركيبة العقلية لدى الغرب، ولكن نحن متشابهون من الناحية الانسانية. ولأن لغتي الأساسية بعد العربية هي الألمانية، تأثرت حين قرأت نص باتريك زوسكيند المسرحي "الكونترباص" وشعرت أن شخصية عازف الكونترباص موجودة في كل مكان. وتجد هذه الآلة حاضرة حتى في الموسيقى العربية. والفكرة الغربية التي وجدت أنها مسيطرة عليّ في هذا النص هي انني لا أحكي عن عازف "كونترباص" عادي، بل عن عازف الكونترباص بصفته جسراً يقارب بين فرقة الأوركسترا من حيث الترتيب الهرمي والتسلسل الاجتماعي والاقتصادي، وبين الواقع. هذه الفكرة شدتني تماماً، على رغم أن شخصية عازف الكونترباص هي المحور الأساس. لهذا السبب اخترت نص باتريك زوسكيند لأنني شعرت انني من خلال هذا النص وهذا العازف يمكنني أن أحكي الواقع العربي الراهن وأعالجه. في العرض أبدأ بتلمس الضغوط التي تحيط بالعازف، فهو دائماً يجلس في آخر صفوف التراتب الأوركسترالي. فالأوركسترا مثل الحياة تماماً، يحكمها تراتب هرمي وتسلسل اجتماعي واقتصادي، ومن ثم فالعازف يعاني شعوراً مفجعاً بالتهميش والاضطهاد. وهي مشكلة انسانية أكثر منها مشكلة موسيقية، فهو يؤمن بأنه لن يستطيع قيادة الأوركسترا من الصفوف الخلفية، على رغم انه يمكنه ان يقود من الصفوف الأخيرة. فقط لو سيطر على عمله سيمتلك الحس القيادي من آخر الصفوف. تقولين ان شخصية عازف "الكونترباص" هي المحور الأساس في نص باتريك زوسكيند، كيف صورتِ هذه الشخصية في ميلودراما تتحدث عن القهر وعدم التحقق؟ - اضافة الى شعور هذا العازف البائس بالاضطهاد والتهميش، وان لا أحد يهتم به وبدوره في الأوركسترا، فانه فوق هذا عازف فاشل. فلا أحد يصفق له مثل قائد الأوركسترا، أو مثل عازف الكمان الأول. هو عازف فاشل لأنه لا يملك القوة العضلية الكافية للعزف في الصفوف الأولى ولا الموهبة الكافية. وفي الوقت نفسه أحلامه وطموحاته أكبر من واقعه وقدراته ومن ثم فأحلامه منكسرة تماماً. فهو أحب مغنية الأوبرا، تلك التي لن تتطلع اليه أبداً. أولاً لأنه عازف فاشل، وثانياً لأنه لا يملك السيطرة على موقعه ومكانته، فهي بموقعها كمغنية أوبرا أولى سوف تكون على علاقة حب مع شخص آخر، وليكن قائد الأوركسترا، أو أحد العازفين الأوائل المهمين في الفرقة مثلاً. إذاً نص زوسكيند يحكي عن أحلام وهمية وأخرى منكسرة، عن حال تهميش واضطهاد، عن ألم يعيشه شخص ما... من هذه الوجهة حاولت تناول شخصية هذا العازف، كيف أحكي عن حالات اضطهاد وقهر وقمع وتهميش يشعر بها هذا العازف في الأوركسترا؟ كان هذا السؤال هو غايتي من تناول نص زوسكيند في مسرحيتي الجديدة. تضمن العرض مقاطع من فيلم "بروفة الأوركسترا" للمخرج الايطالي فيديريكو فيلليني. كيف مزجتِ نص باتريك زوسكيند المسرحي مع نص فيلليني السينمائي، من دون أن نشعر بخروج ما عن النسيج المسرحي داخل عرضك الجديد؟ - الحقيقة انني شاهدت فيلم فيلليني قبل قراءتي نص باتريك زوسكيند. فيلم "فيلليني" يحكي عن فريق برنامج تلفزيوني يذهب الى فرقة موسيقية تعزف احتفالاً بليلة الميلاد في احدى الكنائس القديمة في العاصمة الايطالية روما ويحاول مخرج البرنامج اجراء لقاءات مع العازفين في الفرقة اثناء اجراء البروفة، ومن ثم يأخذ كل عازف وحده ليسأله عن مدى تأثير آلته الموسيقية في الفرقة والآلات الأخرى. ومن ثم نرى أن كل فنان منهم يعتقد انه هو الأساس في الفرقة. وكل منهم يمتلك شعوراً طاغياً بالأنا، وبأنه محور الكون، ومحور الفرقة. شعرت انني لا يمكنني تجاهل فيلم "فيلليني" لأنه على علاقة مباشرة بنص زوسكيند. أعتقد أن زوسكيند تأثر في شكل ما بفيلم "فيلليني" أو هو توارد خواطر، أو تلاقي أفكار. المهم أن فيلم "فيلليني" يتضمن لحظة مهمة في أحداثه. ففجأة تبدأ الكنيسة بالانهدام على رؤوس العازفين، وعلى رغم ذلك يستمرون في العزف، منفذين أوامر عصا قائد الأوركسترا، التي وحدت الجميع خلفها. في عروضك الثلاثة السابقة كنت تتناولين حالات القهر الانساني. ظهر ذلك جلياً في "عيشة" و"اسماعيل هاملت" و"ذاكرة الرماد". أين مسرحية "الكونترباص" من مسيرتك؟ - من المؤكد ان أي عمل فني له خلفيته السياسية. لكن أهم أمر هو تناول الناحية الانسانية، وألا يكون هذا التناول مباشراً، لذلك أشعرني تناولي نص "الكونترباص" انني أضيف الى مشاريعي المسرحية السابقة. ففي هذه العروض كنت أبحث عن لحظات ضعف وإنكسار لدى أبطالي، لأنني مؤمنة بأن الأقنعة التي نلبسها في الحياة تكفينا. ولا بد من أن أكشف عن العفوي والتلقائي والبدائي لدى الشخصيات حين أتناولهم في لعبة المسرح، أن أعري الجانب المظلم فيهم، الجانب الذي يخفونه عن أعين الآخرين، واللعب على التناقضات البشرية هو ركيزتي في المسرح، تناقضات الضعف والقوة فيهم. وهكذا ترى عازف الكونترباص في مسرحيتي يمتلك - على رغم فشله واحساسه بالاضطهاد - رغبة كبيرة في أن يكون قائداً للأوركسترا. عندما اخترت نص "الكونترباص" لم يتقاطع ويشتبك مع "عيشة" و"اسماعيل هاملت" و"ذاكرة الرماد" بل أرى انني أضفت مشروعاً جديداً يحكي عن حال الانسان المسكين والمثير للشفقة. كيف أسست فرقة "الرصيف" التي كانت أول فرقة سورية مستقلة، ولماذا تقدمين عرضك الجديد "الكونترباص" خارج الفرقة؟ - بالمصادفة التقى مشروعي المسرحي مع مشروع الكاتب التونسي حكيم مرزوقي المقيم في دمشق. كان لكل منا مشروعه الفني الخاص به. وحدث أن تعاونا في تأسيس فرقة الرصيف في العام 1997، وكانت أول فرقة مسرحية مستقلة في سورية على الاطلاق. لكنني خرجت عن الفرقة بعد تقديم عروضي الثلاثة الأولى ضمنها، لأقدم "الكونترباص" من انتاج المركز الثقافي الألماني. وأعتقد انني سأستمر في خروجي عن فرقة "الرصيف" لأسباب خاصة بي. لكن فرقة "الرصيف" كانت أول فرقة سورية تعمل بتمويل خاص وذاتي. فلدينا في سورية نوعان من المسرح، الأول تجاري والثاني هو المسرح القومي الجاد، وليس عندنا فرق خاصة أبداً. لذلك كانت فرقة "الرصيف" أول فرقة خاصة لديها مشروع جاد. هذه الأسباب جعلت وزارة الثقافة تدعمنا بداية معنوياً، ثم مادياً. وهو التعاون الأول بين وزارة الثقافة السورية وفرقة خاصة ومستقلة. كيف ترين الحركة المسرحية الراهنة سورياً وعربياً. - قبل عامين كانت هناك حال ركود في الانتاج المسرحي السوري، وذلك لاعتماد الانتاج على المسرح القومي فقط، أو المسرح التجاري. ولكن في العامين الماضيين بدأ الجمهور السوري يعود تدريجاً الى المسرح لأسباب معروفة، وأولها الملل من الدراما التلفزيونية، ما شجع الكثير من التجار على الإنفاق على الانتاج المسرحي المستقل. ولذلك يمكن أن أقول إن هناك الآن فورة مسرحية سورية. وعلى رغم تفاؤلي بالحركة السورية والعربية مسرحياً، إلا أنني أشعر بأن هناك انهياراً ثقافياً عاماً، يؤثر في شكل أو آخر في الفن بكل أنواعه. وتجربة فرقة "الرصيف" كانت أول تجربة فتحت للشباب أبواب العمل المستقل في المسرح السوري. قبل ذلك لم يكن أحد يفكر أن يستمر من دون دعم حكومي، لذلك تجد أن هناك الكثير من التجارب التي بدأت مسرحياً، ثم اتجهت الى الدراما. فالمسرح يحتاج الى تقاليد انتاجية، والى أشخاص لديهم الارادة للاستمرار. هل هناك معايير معينة تحدد ما هو مسرح تجريبي وما هو ليس كذلك؟ - الاجابة عن هذا السؤال طويلة جداً ولكن باختصار أعتقد أن كل عمل يدخل فيه المخرج هو عمل تجريبي، فإذا لم يكن لديك حال تجريب للمسرح فليس لديك الأدوات الأولية للتعامل مع الصناعة المسرحية من أساسها، وحال التواصل ستموت مع الوقت. إذاً الشيء الطبيعي أن أي تجربة مسرحية قائمة على حال من التجريب. لكن حال التجريب هي في النهاية أكبر بكثير من الحال التي نتحدث عنها. وللأسف في الوطن العربي كله ليس لدينا تيار مسرحي. لدينا تجارب فردية لبعض المخرجين الذين استطاعوا الاستمرار، والذين استطاعوا أن يتفاعلوا ويعبروا عن حالاتهم. اننا نفتقر الى التقاليد المسرحية المستمدة من تقاليدنا ومجتمعاتنا، هذه التقاليد تصبح عريقة ولها تاريخ، وهي لذلك موجودة في أوروبا. لكي يكون لديك تجريب، يجب أولاً أن يكون لديك حركة وتيارات مسرحية مختلفة، وتطورات وتغييرات، وكمّ هائل من العروض. بمعنى آخر، يجب أن نمتلك حركة مسرحية كاملة، تظللها حريات فكرية متعددة. يجب أن نمتلك طريقة تفكير كاملة وتحليل كامل حتى يصبح لدينا كمّ هائل وتراكم وتطوير مستمر للمسرح. ولكن نحن "ما فينا نحكي" عن التجريب أصلاً، في ظل ما نحياه من واقع مسرحي، عربي تقليدي، لكن نستطيع أن نتكلم على تجارب فردية ناجحة، وأعمال حققت نجاحاً لدى الجمهور. هذا هو ما نمتلكه. وعلينا التعامل على هذه الأسس، كي نستطيع تطوير تجاربنا المسرحية، سعياً الى انشاء تيار مسرحي عربي يُتفق عليه، ولكي نصل بعد ذلك الى "التجريب" في معناه الأشمل والأعمق.