بدا مهرجان لندن المسرحي الاخير 14 حزيران / يونيو - 4 تموز / يوليو، أخف وهجاً من المهرجانات السابقة، وجمهوره اقل حماساً، ربما لأنه لم يحظ بفرص الاعلان عنه كما ينبغي، ولكنه بقي محافظاً على ميزة مهمة وهي تنوع مادته وجودة المسرحيات التي تميز عدد منها بمستويات رفيعة. هذا المهرجان مثل الذي سبقه، فيه محاولات جادة لنقض الصيغ المسرحية المتداولة لا تستهدف المضامين المسرحية وحدها، بل عمد بعض الفرق الى تجريب التخلي عن مقومات الطقس المسرحي بأكمله، كأن يجري العرض في غابة وعلى مدى 24 ساعة تبدأ عند منتصف الليل لم نحضر هذه التجربة على رغم ان العنوان الجميل للمسرحية البريطانية "من يستطيع ان يغني لكي يمنع الخوف عني" والمعلومات عنها يغريان بالمشاهدة. فهي حسب الكتيب، ضد مقومات المسرح "العلبة" التي تخضع للسيطرة، ويجري اشراك المتفرج في مغامرة قصد مكان بعيد في الليل، وتحريض روح الخوف لديه والشعور بمخاطرة المكوث في عراء غابة كل شيء فيها يبعث على الرهبة غير ان اصحاب العرض يؤكدون جانب الطرافة والمتعة في هذه التجربة. وهناك مسرحية من نوع مختلف وهي من دون عرض ولكن البناية التي تستضيف المشاهدين تتولى عرض نفسها وتحاور زوارها! ومخترعة هذه الفكرة او مخرجتها ديبرا وارنر، التي عثرت هذه السنة على فندق مهجور من الطراز الفيكتوري في قلب لندن، تقول في معرض حديثها عنه ان بنايته ذاتها تحتوي على ما يكفي من الدراما لكي يكتشف المشاهد من خلال اللاعرض قيمتها. تقنيات جديدة لأفكار قديمة ولكن الأهم في كل المحاولات، تلك التي أرادت قلب المسرح من داخله، وأكثرها وضوحاً ما قدمته الفرقة الايطالية جمعية روفائيل سانزوي في عرضها "يوليوس قيصر" من اخراج روميو كاستلوتجي وتعتمد على النص الشكسبيري وتاريخ اللاتين المدون. في مسرحية شكسبير حدثان مهمان: قتل يوليوس قيصر الذي يتقاسم دمه اعضاء مجلس شيوخه وأمين سره بروتوس، والحدث الثاني الانتحار وهو موقف تكفيري تصعد فيه التراجيديا الشكسبيرية الى الذروة. روماالمدينة والمعنى بين الحدثين مكان وذريعة لتبرير القتل ولنقضه ايضاً، وهي تمثل مفصلاً درامياً ضمن مكونات النسيج المسرحي. يدخل المخرج عنصراً مضافاً هو فن الالقاء او الخطابة التي تمثل في الاصل، الاطار الشكلي للفعل المسرحي، انها تتقدم هنا لتصبح مركز فعل المسرحية. الخطابة كفن للاقناع والتحريض تصبح موضع محاججة ومن اجل نقضها، يعمد المخرج الى تشويه الصوت وفحصه وتعريضه لعملية تعرية بواسطة التقنية الحديثة، ومنها استخدام آلة طبية وشاشة تتوغل في حنجرة الممثل وتعكس حركة الحبال الصوتية، كما يستخدم الممثلون ميكروفونات تمتص رنين اصواتهم وتشوه ذبذباتها. يقترب العمل في مفاصل من مسرح النو بحركته المتباطئة والاقنعة، ويوظف في الفصل الثاني الكتروينة الصوت والاضاءة الاكثر حداثة لتصعيد الحس المأسوي، ويمعن المخرج في انهاك المتفرج بضجيج يصل الى اقصاه في تصوير فعل الانتحار، وتتبادل فيه الادوار ممثلتان بدلاً من الرجال. ينتهي العمل بنحيب وأصوات طيور حزينة وفضاء سديمي يشير الى الموت. التغريب في العمل المسرحي تتولاه تقنية الاضاءة والالكترونيات واستخدام الحصان الحقيقي والطوطم، ولكن المسرح يبقى عارياً من دون فخفخة ورياش. فما يهم المخرج هو العراء والوحشة. وبؤرة المسرحية تركز على المقولات التاريخية الكبرى التي تخضع للفحص على نحو يجعل المخرج منها خطاباً فضفاضاً يفتقد الى الصدق والمحبة الانسانية في حين تصبح الميثولوجيا تاريخاً في المسرحية التي قدمتها الفرقة الاسرائيلية، وهي لوحات اشتغلت فيها المخرجة راينا يارشالمي على عنصر المساحة والاضاءة لكي تروي التاريخ كما دون في اصحاحات "العهد القديم" وصولاً الى تكوين دولة اسرائيل على "أرض الميعاد" بالدم والحرب. صحيح ان المخرجة تذكر هذه الحقيقة، حقيقة ان الشعار النازي اكثر صلاحية لدولة اسرائيل، غير انها عكس المخرج الايطالي استخدمت الخطاب وتنويعاته لتبجيل ما لا يستحق في الأصل كل تلك البهرجة. اسم المسرحية "هو الذي تكلم، هو الذي مشى" وهو عنوان يذكرنا بملحمة كلكامش "هو الذي رأى"، التي نسج "العهد القديم" على منوال بعض فصولها قصصه ومنها قصة الطوفان، وقصص اخرى متفرقة، بيد ان البناء المسرحي الذي يستخدم الرقص والغناء، يوحد ذلك النسيج لاعتبار ان تاريخ البشرية يبدأ وينتهي مع الديانة اليهودية. ومع ان المخرجة تسخر من بعض فصول هذا التاريخ بحيث بدت اقل عنصرية من مخرج المسرحية الاسرائيلية التي قدمها المهرجان في الموسم المنصرم، ولكن فخامة البناء المسرحي الذي يقيم الاعتبار لفن الفرجة واللوحات الشديدة الاتقان والتنويع المبهر في الاضاءة، كلها تشكل في المحصلة، موقفاً مضمراً يتوجه بسلطة الخطاب لكي يأسر المشاهد بدعاواه، وهي ادعاءات اكل الدهر عليها وشرب وفق منطق عصرنا. هذا العمل يستدعي الى الذهن مقولة المسرحية الايطالية التي ترى الى الكيفية التي يتحول فيها خطاب التاريخ الى بروباغاندا عندما يمتلئ اعجاباً بنفسه. تجديد البريختية قدمت جنوب افريقيا مسرحيتين عن الابارتيد، الأولى بعنوان "الحكاية التي أريد ان أقول" والثانية "أوبو وتقصي الحقيقة" التي اخرجها وليم كنترج، وهي من الاعمال المهمة في المهرجان. استخدم فيها الفنان عالما مترامياً من التوريات المسرحية التي اتسمت بالقوة والطلاقة وكان العرض معركة منهكة، اتعبت الممثلين وأشاعت جواً ذهنياً متحركاً غنياً برموزه، يجد المشاهد في منطوياته توظيفاً لجوانب من المسرح البريختي، حيث بمقدورنا ان نتابع اللعبة وضدها. كيف يكمل الممثل خطوته في تغريب الموقف ثم إبطال هذا التغريب والعودة اليه بوسائل الايضاح التي تشكل لوحدها ابتكاراً فنياً متميزاً. استخدم المخرج الشاشة السينمائية التي تعرض الصور الكاريكاتورية الذكية، والمشاهد المتحركة وتساهم في استكمال الحوار والفعل والتساوق معهما في الوقت ذاته وتتجدد وظيفة الشاشة خلال عرضها الوثائق التاريخية والصور الفوتوغرافية لضحايا الابارتيد. وكانت هناك لعبة الدمى وهي اقرب الى الاستخدامات البريختية، حيث تغدو الكلاب صاحبة الرؤوس المتعددة شهوداً على الحوادث التي تترى على لسان مسؤول من النظام العنصري وزوجته. كيف يصف المجرم مهمته، وأي اعتبار يضعه لتبرير تلك المهمة؟ القانون، سطوة الاقوياء، احقية التفوق العنصري. كانت تلك وجهة نظر فاضحة وبمقدور منطقها ان يلتف على الحاضر والمستقبل ايضاً. دور الزوجة البيضاء قامت به ممثلة سوداء لكي يتضاعف تعبير الفصام في الأشياء. ايقاع العمل كان عاصفاً، كل شيء فيه يتبدل في حركة سريعة بما فيه قطع الأثاث التي تتبادل الوظائف، مثلما تتبادل اللغة مواقعها. استخدمت اللغة الوطنية للسود وترجمتها الانكليزية في تغيير مواقع سرد حكايات الاضطهاد التي ما زالت سجلاتها مفتوحة حتى يومنا، فالعنصريون مثل الحرباء لا يسلمون بخسارة، وهي الثيمة التي تشكل فنية العمل على اساس المحاججة في حيثياتها. العرض العربي: عندما يقترع الحظ على الرصيف غابت فرق كثيرة هذه السنة من مهرجان لندن، ومن بلدان اعتادت الحضور، لا سيما اليابان والصين، واقتصر حضور العرب على فرقة "الرصيف" السورية التي قدمت مسرحيتين قصيرتين: "ذاكرة الرماد" و"اسماعيل هاملت" وهما من تأليف التونسي حكيم مرزوجي واخراج السورية رولا الفتال. العمل الأول من شخصيتين والثاني من شخصية واحدة. تميز العملان بالبساطة ورشاقة الحركة التي استطاعت ان تفلت من مطبات كثيرة، ربما لأن المسرحيتين تعيدان انتاج مواضيع سبق ان عالجتها الميلودرامات العربية، سينمائياً ومسرحياً، ولكن المشاهد يشعر بأن القصص التي تروى على المسرح قابلة للاعادة ببساطة لأن الحياة هي هكذا، تكرر نفسها على شيء من الالحاح لتطبع عبرتها في ذاكرتنا بوضوح. الأولى "ذاكرة الرماد" تعرض حكاية راقصة وطبال، تتزاحم على حواف مصيرهما البائس، الاحداث السياسية والمواقف في مجتمع يمتد على امتداد السيرة السياسية العربية. الراقصة ابنة سياسي وصحافي كان منشغلاً بهمومه القومية الى حد العجز عن أداء واجباته الزوجية فتجد زوجته التعويض مع بائع المازوت الذي يمر على بابها. تنسج الحكاية التي تبدو على شيء من السذاجة، صورها الكاريكاتورية عن الواقع العربي ما قبل حرب حزيران وما بعدها: الصفقات القذرة، والتراتب الطبقي وسلطة الخوف والاستقواء، ثم توريات العقم السياسي والخيبة والخسران، كل تلك الاشارات تقف بين زمن البراءة وزمن الانحطاط، الشخصي والعام. الاطار الكوميدي يجعل من الميلودراما محض مفارقة مدركة ببساطة من دون شعور مضخم بمأسويتها، لولا الفاصل الاخير الذي يتكاشف فيه الاثنان بموضوع عجزهما الجنسي وهو ضعيف ومقحم، نقول لولا هذا الفاصل لحافظ العمل على مزاجه الكوميدي المسترسل. تستخدم المسرحية لهجات مصر والخليج اضافة الى اللهجة السورية لتوسع استعاراتها، وظلال اللهجة وخلفياتها اهم ما في المسرحية، على هذا تصبح قضية الايصال عبر الترجمة الى الانكليزية مشكلة عويصة. على بساطة الخطة الاخراجية، هناك ما يمكن ان نسميه اللمسات الذكية، حيث تستثمر المخرجة المساحة في الاعراب عن تواصل الوحدات الزمنية، وعبر تلك اللمسات يتوحد الفعل المسرحي والحوار النفسي. المظلة التي تقي من ثقب، الصندوق الذي تتغير وظائفه، المسند الصغير، كانت تلك كل عدتها لانتقال الوحدات بين الماضي والحاضر. في العرض الثاني الذي يتألف من شخصية واحدة "اسماعيل هاملت" للمؤلف والمخرجة نفسيهما، استطاع الممثل نوار بلبل من دون مها الصالح التي ادت معه دور الراقصة بنجاح في المسرحية الأولى، ان يبرز امكاناته على نحو اكثر وضوحاً. كما ان المخرجة قدمت عملاً فنياً استطاع ان ينجو من اهم مشكلة تجابهها المونودراما، وهي ملل المشاهد فعندما يسترسل شخص واحد في الكلام طوال العرض، يصعب على المشاهد الاحتفاظ الى النهاية. نوار بلبل قدم عالماً متعدد الأوجه يسوس فيه قطعة خشبية هي بمثابة السرير والطاولة والشباك والبيت والقبر وكل الأشياء. رحلة الشخصية او الشخصيات التي مثلها مع عالمها المعطوب في المونودراما، لا تختلف كثيراً عن رحلة شخصية مسرحيته الأولى، ولا ندري لماذا لم يحاول المؤلف دمج العملين في عمل واحد، ربما كان بمقدوره ان يخرج بمزيج اكثر تنوعاً وغنى. فرقة "الرصيف" شابة بحق، بطاقمها القليل وبتواضع طموحها وبساطتها التي اعجبت الكثير من العرب والانكليز.