عندما قدمت الفنانة رائفة أحمد وبإشراف زميلتها رولا فتال المسرحية المونودرامية "عيشة" عام 1996 على مسرح القباني ولاقت المسرحية اقبالاً لدى الجمهور المسرحي. فالمؤلف حكيم مرزوقي ركز على القاع الاجتماعي لمدينة دمشق من خلال قصة حب بين شاب تونسي وفتاة "شامية"، على رغم من أنه تونسي ولا تربطه ذاكرة طفولية بهذه المدينة. وصار الناس يتساءلون: هل لهذا الشاب المتسكع على الأرصفة وفي الحانات هذه القدرة على الغوص في ثقافة الناس الشفاهية ومكامن علاقاتهم الاجتماعية؟ وهل يستمر في التطرق الى هذه العوالم الغريبة، وهي جزء منّا ولا نعرفها؟ فكان الجواب صمتاً وتسكعاً لفترة طويلة الى أن ظهر الكاتب في مسرحيته الثانية "اسماعيل هاملت" بالرؤية نفسها، حيث قاع المجتمع والزوايا المنسية والشخصيات المجهولة تعيش في المدن السفلى، تروح وتجيء في دهاليز النسيان المكتظة بالحركة والحلم والرغبة. وأخذت رولا فتال تبرز كمخرجة تملك رؤيتها لهذه العوالم وتشارك مرزوقي في نقلها وتجسيدها في الفضاء المسرحي. في هذه الأثناء وإذ أخذ "الحلم الرصيفي" يتحول الى مشروع فرقة مسرحية مستقلة تعتمد على امكانات المخرجة المالية بالدرجة الأولى وتسمى "فرقة مسرح الرصيف" وتشكل حضوراً مسرحياً في المهرجانات العربية والأوروبية في كل من لبنانوتونس ومصر والأردن وألمانيا وبلجيكا وسويسرا وإيطاليا وأخيراً في لندن في شهر حزيران يونيو الماضي، بدا هاجس يراود الكثيرين بأن الرصيفيين - ربما - "تَعَوْلَموا"، فيجب مسايرتهم. الى أن أتوا بعملهم الجديد "ذاكرة الرماد" وقد قدم على خشبة "المركز الثقافي الفرنسي" وفي مسرح القباني في دمشق وكتب عنه في الصحافة المحلية والعربية، ولقي نجاحاً متميزاً وخصوصاً وأن موضوعه الأساسي يتعلق بالهزائم العربية الفردية والجماعية انطلاقاً من هزيمة حزيران 1967 من خلال السيرة الهزائمية لراقصة وطبّال في الكباريهات الليلية. ثم ذهبت الفرقة تشارك بعملها الجديد هذا، بالإضافة الى عملها الثاني "إسماعيل هاملت" في مهرجان "بينال روما 99" في إيطاليا ومهرجان لندن العالمي للمسرح "ليفت 99"، وظهر لبّ المشكلة والتَعَوْلم هنا. إذ ذهبت الفلسطينية "الناقدة" نعمة خالد مع الفرقة الى هذين المهرجانين الأوروبيين بصفة دراماتورج، وسبق أن كتبت "الناقدة" في جريدة "تشرين" قائلة: "لعل ما يميز مسرحية - ذاكرة الرماد - ذلك التناغم الذي شكل نوعاً من الهارمونيا الخاصة، بين النص الذي كتبه حكيم مرزوقي، بدلالاته الكثيفة والجريئة، والحلول الإخراجية لرولا فتال، والتي أكدت أن لها عيناً ثاقبة، وقدرة على استنطاق دلالات النص عبر لغة الجسد حيناً، والإضاءة حيناً، والموسيقى حيناً، والحوارية المدروسة حيناً آخر". وتقول في مكان آخر: "المخرجة رولا فتال استطاعت أن تكسر المحلي لتنطلق الى العالمية منذ عرضها الأول "اسماعيل هاملت" هذه المسرحية التي حصدت جائزة مهرجان قرطاج المسرحي. وأتت خطوتها الثانية في مسرحية "عيشة" لتؤكد أن الأرض التي تنطلق منها رولا فتال هي أرض صلبة". والملحوظ في هذا، ان الناقدة نعمة لم تتابع مسيرة الفرقة الفنية. ذلك أن الخطوة الثانية للمخرجة كانت "إسماعيل هاملت" وليست "عيشة" وقد عملت فيها مع زميلتها رائفة أحمد كمشرفة درامية وليس كمخرجة وتؤكد ذلك رولا فتال بنفسها. والغريب أيضاً مقال آخر كتبته الناقدة نفسها في صحيفة "تشرين" تقول فيه أن "الحلول الإخراجية ل"ذاكرة الرماد" انما استندت أولاً على جهد كل من الفنانة مها صالح والفنان سامر المصري". وتقول أيضاً: "وبالمصادفة وقع بين يدينا نص "مكي وزكية" وهو مونودراما للمخرج التونسي المنصف ذويب وأدى الدور الفنان التونسي الأمين النهدي ليكشف لنا أن مسرحية "عيشة"انما تلاّصقت مع "زكي ومكية"... كذلك كشف لنا أحد المشاهدين... أن النص مأخوذ عن مسرحية تونسية... و"إسماعيل هاملت" كتبه الفنان سامر المصري...". تضع نعمة خالد كلاً من المؤلف حكيم مرزوقي والمخرجة رولا فتال في هذا المقال خارج المسرح والاخراج وتشطب تاريخهما القريب بعد أن مَجَدَّتهما في وقت قريب أيضاً. وراجت أسئلة كثيرة ومنها: ما هذه التحولات والمواقف في الكتابة بين ليلة وضحاها؟ مرة مدائح وأخرى شتائم وكأن الكتابة ليست موقفاً وتاريخاً. ومن دون الاستناد الى معطيات موضوعية تطلق الكاتبة احكامها، وهي تعرف تماماً أن الكاتب مرزوقي يعيش خارج بلده تونس منذ ما يقارب عقداً ونيفاً وهي نفسها أيضاً اقترحت عليه أن يعرّفها على الرصيفيين الذين يكتب عنهم ويستوحي أفكاره منهم. ولكن يبدو أن "التَعَوّْلم" السريع أخطر من هاجس الحلم به. ترى هل يتحول مؤسسو "مسرح الرصيف" الى ريفيين حقيقيين بعد أن تَعَوْلموا وعَوْلَموا "الحالمين" خصوصاً وأن رد الكاتب مرزوقي على الناقدة لم يُنشر وفيه يدحض كل ما قالته حسب قوله. ونحن انتظرنا الرَّد كي نقارنه مع آراء الناقدة ولكنه لم ير النور، هذا بعد أن أتت المقارنة بين آرائها القديمة والجديدة بمفارقات يكمن في طياتها التشهير بالرصيفيين.