على سيرة ميلوشيفيتش... لم يتبرع أي مسؤول اسرائيلي برأي أو برد فعل عفوي على تسليم مجرم الحرب هذا الى المحكمة في لاهاي. لعل الحدث محرج، لأن فيه اسقاطاً مباشراً على آرييل شارون. الفارق بين الرئيس اليوغوسلافي السابق ورئيس وزراء اسرائيل الحالي، ان الأول أنجز المهمة، قتل وذبح وشرّد كل من أراد أو استطاع قتله وذبحه وتشريده. أما الثاني فلم يكفِ بعد ما فعله، ولا تزال أمامه جرائم أخرى ليرتكبها طالما ان أميركا تحميه. في المقابل لم تكن ردود الفعل العربية الرسمية وفيرة هي الأخرى، وليس لذلك أي تفسير أو تبرير مقنع. ربما وجد البعض ان لمحاكمة ميلوشيفيتش اسقاطات محلية وداخلية. وربما أراد بعض آخر أن يعبر عن عدم وثوقه ب"العدالة الأميركية". وربما أراد بعض ثالث ان يحتج بصمته على هذا الاستخدام الانتقائي للأمم المتحدة التي منعت من التدخل في النزاع لكنها دعيت الآن لرعاية المحاكمة ب"وثائق اميركية". وكان لافتاً ان الصوت العربي الوحيد الذي سمع هو صوت نظام بغداد الذي دان تسليم ميلوشيفيتش، وهو شكل صدى لادانة روسية صامتة. كانت القمة العربية أوصت أو قررت باتخاذ كل الاجراءات الممكنة للعمل على محاكمة مجرمي الحرب الاسرائيليين، ما يعني ان الدول العربية مدعوة للجهر بمواقف واضحة وحازمة ضد أي جريمة حرب أينما ارتكبت وضد أي مجرم حرب أياً كان، وبالتالي هي مدعوة للمساهمة في إعداد ملفات مجرمي الحرب الاسرائيليين اذا كانت جدية في هذا المسعى. ولا بد من عمل دائب في هذا المجال، خصوصاً ان الاسرائيليين بل اليهود عموماً ظنوا دائماً ان المحاكمات الدولية اقفلت منذ انتهت محاكمة مجرمي الحرب النازيين، وظنوا دائماً ان لا جريمة حرب بعد الهولوكوست، بل ان أي جريمة بعدها لا تستحق ان توضع موضع مساءلة ومحاسبة. ولعل أكثر ما يحرج دولة شارون أن معظم الاتهامات الموجهة الى ميلوشيفيتش يمكن أن ترد حرفياً، من دون تعديلات، ومن دون مبالغة أو تحامل، في ملف اتهام شارون نفسه. والمفارقة ان الولاياتالمتحدة المفرطة في الحماسة لادانة الرئيس اليوغوسلافي السابق، لم تعترض على اتهامه بانتهاك اتفاقات جنيف، في حين انها لا تعترف بانطباق هذه الاتفاقات على حال الفلسطينيين. كيف يستقيم لدى الأميركيين ان الكوسوفيين والبوسنيين يتمتعون بحماية اتفاقات جنيف، كمواطنين تحت الاحتلال وعوملوا معاملة لاإنسانية في زمن الحرب، اما الفلسطينيون فلا تحق لهم أي حماية؟ بمثل هذه المعايير المنحازة تكون الولاياتالمتحدة شريكة في جريمة الحرب الاسرائيلية وليست متعامية عنها فحسب. يخطئ العرب اذ يعتقدون أن المعركة خاسرة سلفاً، وبالتالي لا داعي لأن يضيعوا وقتهم في السعي الى جلب شارون وأمثاله الى محاكمة دولية. وما دام الضوء سلّط مجدداً على مجزرة صبرا وشاتيلا، التي مهّدت لاحتلال اسرائيلي لأول عاصمة عربية هي بيروت، فمن شأن لبنان الدولة ان يساهم في دفع محاكمة شارون. كيف؟ لا بد أولاً من إعادة التحقيق في المجزرة، وبالتالي إعادة محاكمة من نفذوها محلياً، وهؤلاء هم وحدهم القادرون على تحديد الدور الذي لعبه شارون في المجزرة وعلى تسمية العسكريين الاسرائيليين الآخرين الذين أداروا العملية على الأرض. ومثل هذه الخطوة يمكن أن يعيد شيئاً من الاعتبار الى الدولة والقضاء والقانون في لبنان، لأن ما حدث لم يكن احتقاراً واستهزاء بكل الأعراف والقوانين وانما ساعد الاسرائيليين أنفسهم على تبرير جريمتهم وطي صفحتها الى حد إعادة الاعتبار لشارون بانتخابه لأعلى منصب في الدولة. أما الخطوة اللبنانية التالية فلا بد أن تكون تسليم هؤلاء المجرمين الى أي محكمة تستعد للنظر في ملف شارون لاتهامه وادانته واصدار حكم في جرائمه. هذه المساهمة اللبنانية أساسية وحيوية، وتتماشى مع التوجه "المقاوم" الذي تنهجه الدولة. وإذا كانت التهمة الرئيسية موجهة الى شارون، لأنه كان المسؤول الأعلى عن المجزرة وفقاً لما وثّقه "تقرير كاهان"، فلا شيء يمنع أي ضحية من ضحايا المجزرة من ان يسمي أيضاً أياً من "أبطالها" اللبنانيين، وعندئذ سيقع الحرج على حماة هؤلاء "الأبطال" وقد يضطرون الى بيعهم بيعاً وبأرخص الأسعار، فليس بينهم من يُشترى رأسه ببليون دولار في ظل وضع اقتصادي بائس.