لم تكن تلك طريقي المعتادة إلى مبنى دار الحياة في بيروت، لكنّ مصادفات البحث عن موقف للسيّارة، في إحدى ساعات الزحام، شاءت أن أرى أوّل عملٍ بهذا الحجم، في لبنان، لأحد عمالقة القرن العشرين، الفنّان الفرنسيّ جان دوبوفيه 1901 - 1985، يحتلّ منذ قليل مدخل مبنًى لا تزال أعمال البناء فيه قائمة. النموذج الذي كُبِّرَ عنه حديثًا هذا المجسَّم، بطلبٍ من بنك عوده، يعود إلى 1974، السنة الأخيرة من مرحلة L'Hourloupe التي دامت اثنتي عشرة سنة. قيل الكثير عن معنى هذا العلم النوعيّ الذي أطلقه دوبوفيه على المرحلة المذكورة، كما اشتُقَّت منه صفةٌ لطريقة التلوين hourloupژ. وبقدر ما يمكن الكلمات - الحقائب أن تناسب كلّ سَفَر، أحبّ أن أسمع في هذه الكلمة معنى المنصّة hourd، وتصاريف فعل التفويت والإخفاق louper. ومن يستطع أن يتصوّر اعتلاء المنصّة أو بناءها كزلّة قدم فقد وصله شيء من السخرية الهدّامة التي تكمن وراء هذه الأعمال. والسخرية هي هذه المسافة المأخوذة من الموضوع كما من الذات: لا انتفاء الجدّ بل انتفاء الفرق بين الجدّ واللعب. على مستوًى أوّليّ أو، بحسب تعبير مارسيل دوشان، على المستوى "الشبكيّ الصرف" نسبةً إلى شبكيّة العين، ثمّة هوّةٌ بين "مادّويّة" المراحل السابقة والحياد الصناعيّ لهذه المرحلة. ولكن ربّما، لكي نجد العلاقة، يجب أن نعود إلى مستوًى أكثر أوّليّةً. المنطلق الظاهراتيّ كان جان دوبوفيه قد تجاوز الأربعين حين قرّر، في ظلمة الاحتلال الألمانيّ لبلده، أن ينصرف كلّيًّا إلى التشكيل. لم يكن ذلك نبوغًا بمعنى "الدعوة المتأخّرة" الذي يعطى عندنا لهذه الكلمة. فقد بدأ بدرس فنّ التصوير منذ 1916 لكن سرعان ما استرعى الأدب اهتمامه، ودراسة اللغات القديمة والحديثة، والموسيقى، إلخ. ومع انصرافه إلى التجارة لكسب العيش كانت مرحلة ربع القرن تلك، تشكيليًّا، بحسب تعبيره، مرحلة "استشرافات". التجربة التي ولدت هكذا، بكامل سلاحها، في النصف الأوّل من الأربعينات، ما لبثت أن لاقت الاستقبال اللائق بها في الأوساط الثقافيّة، حتّى إنّ كليمنت غرينبرغ رأى فيها أوّل اتِّجاهٍ جماليٍّ فرنسيٍّ بعد السرياليّة، وفي صاحبها ألمع أمل للفنّ الفرنسيّ بعد ميرو ، وأوَّل فنّان فرنسيّ لديه شيء مهمٌّ يقال منذ 1920، في ذلك الوقت نسب دوبوفيه إلى الوجوديّة، والحقيقة أنّه اتّبع المنهج الظاهراتيّ الذي كان عمادها النظريّ. هكذا عبّر الموقف الظاهراتيّ عن نفسه في المراحل المادّويّة: وضع الجاهز البصريّ بين قوسين وترك الأشياء تظهر كما هي بحيث ينشأ فنٌّ خامٌ غير ممسوسٍ بالثقافة. ويمكن أن نرى مع كثيرين أنّ مرحلة L'Hourloupe كانت ردًّة فعلٍ على المراحل السابقة واعترافًا بوصولها إلى طريق مسدود. هذا الانطباع، وإن وجد مبرِّره في موقف الفنّان نفسه، لا يصف المرحلة إلاّ سلبيًّا بجعلها نقيضًا لما سبقها. صحيح أنّها شكّلت عودةً إلى فرديّة الرسّام، رسّام لا يلتفت إلى مقاوَمات المادّة، ولا يحصره المدى التصويريّ الرباعيّ الزوايا بل تنطلق خطوطه مكوِّنةً تحتها المدى الذي يتغيّر تناغمًا أو تناقضًا معها. لا تصوير ولا نحت بل رسم مجسَّم. يقترب من الغرافيتي، ولكن مع وضع تعبيريّتها بين قوسين. غرافيتي لا إيقونيّة ولا كتابيّة بل بنائيّة. فرديّة، نعم، ولكن لاذاتيّة، كما هو الحياد الصناعيّ لمهادها وألوانها. إذا كان يمكن أن نرى في فنّ دوبوفيه نموذجًا مميَّزًا لتلبية دعوة ثيودور أدورنو الصعبة إلى فنٍّ نقديّ، فذلك عائدٌ إلى جذريّة المنحى الاختباريّ الذي اتّخذه هذا الفنّ. والحال أنّ الاختبار، لكي لا يكون مجرَّدَ ذريعةٍ برهانيَّةٍ للوعي النظريّ أو الإيديولوجيِّ، يجب أن يجرّد من ذاتيّة الباحث، وتاليًا من غرضيّته. وكيف يتمّ له ذلك ما لم يفترض ضمنًا تسليط النقد، لا على موضوع الاختبار وحسب، بل على أدواته ومقوَّماته؟ الفرديّة اللاذاتيّة في مرحلة L'Hourloupe تحقِّق هذه النقلة. أعمال دوبوفيه التي احتفلت بالمادّة كأنَّها تستبعد فعل الرسم سمِّيت بدائيَّةً بل، بحسب تدقيق غرينبرغ، بداءويّة primitipvist، ستظلّ كذلك حين تحتفل بفعل الرسم كأنَّها تستبعد كلّ ما عداه. وليس غريبًا أن يكون إلهام السيرك وراء التجربة السابقة لهذه المرحلة باريس سيركس. بين خَرَقِ المهرِّجِ وبراعة البهلوان، بين المسخ البشريِّ والحيوان المروَّض، الألوان التي تجسِّد جرأة الماكياج وبهرجة الإضاءَة الصارخة هي صورة انكفاء الإنسان نحو حيوانيّته أو خروجه من إنسانيّته نحو بدائلها الصناعيّة. بين هذا القاع وذاك السطح لا تترك التقنيّة مسافةً" فالحيوان أيضًا مصنوع. بديل كغيره، جزئيٌّ وخارجيٌّ، للإنسان. ها قد أشرق نهار التقنيّة الذي قال هايدغر إنَّه ليل العالم. ليل التجزئة اللانهائيّة للاختصاصات، حيث تحلُّ محلّ الإنسان "الكامل" امتداداته التقنيّة. فنّ التجهيز هو من نتائج هذا التطوُّر الحضاريِّ في تاريخ الفنّ. وكثيرٌ ممّا ينسب إليه في أيّامنا أقلُّ انتماءً إلى روحيّة التجهيز من بعض أعمال مرحلة L'Hourloupe. برجٌ دانتيليٌّ أي مخرَّمٌ أم ينسج الدانتيلا؟ يحتلّ الآن المدخل الرئيسيّ لمبنى بنك عوده بلازا، في مركز بيروت التجاريّ. رسوم الكهف، ظلاًّ على ظلٍّ، نقاط التقاء المرئيّ باللامرئيّ. وعمل دوبوفيه المنتصب، كهفًا مقلوبًا، يناقض إطاره المعماريّ الشفّاف بدل أن يتناغم معه. هكذا فقط، بعيدًا عن التبعيّة التزيينيّة، يعطى الفنّ التشكيليّ دورًا أساسيًّا في حوارٍ خصبٍ مع الرؤيا المعماريّة. الإطار المعماريّ واجهةٌ زجاجيّة بعرض 16 مترًا وارتفاع 18 مترًا تحتلّ مركز الثقل البصريّ في مبنًى يشغل 4716 مترًا مربَّعًا، فاتحةً، في القسم الأسفل من واجهةٍ حجريّة تنحدر 5.6م. على طول 120م.، مطلاّتٍ داخليّةً على عمل دوبوفيه. كيفن داش معماريّ أستراليّ الأصل، عمل مع بيتر مولر وإيان ماك كاي في سيدني قبل أن ينتقل في السبعينات إلى لندن، واشتهر منذ 1983 بتجديده بعض العمارات التراثيّة التي أكسبته جوائز عالميّة. الطرح المعماريّ الذي قدّمه في هذا المبنى، مستشارًا لرفيق الخوري وشركاه، لا يختلف كثيرًا عن أسلوب الخمسينات الذي صنع حداثة بيروت ما قبل الحرب ويبدو أنَّ القيِّمين على إعادة الإعمار قد وجدوا فيه مرجعيَّةً تاريخيّة... مثل كلمة "النهاية" في آخر فيلم، واجهة الزجاج في الطرف الأسفل قُبَيْلَ التقاء الجناحين الطويلينِ المتوازيينِ للمبنى، تضع الخفّة والشفوف في موضع الثقل واللانفاذ. أقلّ انغلاقًا بها، هذا المبنى المهيب بضخامته كما بدقّة التفاصيل الحرفيّة التي تنوِّع إيقاعه الحجميّ، تتّخذ دفعًا آخر، نحو الأعلى، كغائصٍ لمس القاع. كهفٌ مقلوب بخطوطه، وبالحجم بئرٌ مقلوبةٌ، عمل دوبوفيه يتجاوب مع هذا الدفع، جاعلاً من هشاشة التداعي الخطّيّ، إزاء صرامة الإيقاع الأفقيّ للمبنى، نوعًا من الإضاءة بالضدّ. مئويّة دوبوفيه ظهور هذا العمل في بيروت يصادف الذكرى المئويّة الأولى لميلاد جان دوبوفيه. أهمّ النشاطات المعدّة للاحتفال بهذه الذكرى: 19 أيّار مايو/ 3 أيلول سبتمبر : متحف مالرو، لو هافر : "مسرح جان دوبوفيه". 12 أيلول سبتمبر/ 31 كانون الأوّل ديسمبر : مركز جورج بومبيدو، باريس : معرض استعاديّ لجان دوبوفيه. خريف 2001: مؤسّسة دوبوفيه، باريس: "سيرة ذاتيّة عَجولٌ". * كاتب لبناني.