على رغم محاولات وزير خارجية اسرائيل شمعون بيريز تجميل وجه حكومة ارييل شارون الليكودية المتطرفة والزعم بأن الحرب ليست خيارها، فإن كل الدلائل تثبت بشكل قاطع ودافع ان الفكر الصهيوني الليكودي اليميني المتطرف لا يفهم الا لغة الحرب والقوة والحقد والكراهية. والافضل لبيريز ومعه وزير الدفاع بن اليعيزر الذي يزعم بأن الحكومة لا تعمل للحرب ثم يهدد بالتدمير والانتقام واستخدام القبضة الحديد ان "يستقيلا" من هذه المهمة الزائفة للترويج والعلاقات العامة لانها صارت مفضوحة او ان يستقيلا مع وزراء حزب العمل من الحكومة بعد ان تحولوا الى شهود زور يتحملون المسؤولية كاملة عن كل الجرائم والمذابح والمظالم التي ارتكبت او التي سترتكب حسب المخططات الجاهزة التي اصبحت غالبية تفاصيلها واضحة ومعلنة. هذه الاستقالة الحتمية تنقذ ما يمكن انقاذه من سمعة بيريز وتصبّ في مصلحة حزب العمل نفسه على المدى البعيد قبل ان تفيد الفلسطينيين لان بقاء الحال على ما هي عليه سيطلق "رصاصة الرحمة" على رأسه ويترك الساحة خالية لليكود برئاسة شارون او بعودة نتانياهو قريباً، ولكل الاحزاب اليمينية المتطرفة والعنصرية ويدفع اسرائيل دفعاً نحو مواجهات عسكرية ودوامة عنف وحمامات دم، وهذا ما يفسر استماتته في رفض المراقبين الدوليين وتمييع قرارات قمة جنوى. فاذا كانت الحرب ليست خياراً كما يزعم بيريز، فبماذا يصف ما جرى وما يجري من اعمال عسكرية عدوانية واستفزازية من حصار وقتل وتدمير وقصف واغتيالات وتصفيات وقطع اوصال الضفة الغربية وقطاع غزة وتقسيمها الى جزر محاصرة يمنع عنها الماء والمال والغذاء، وتقطع الطرق لمنع انتقال المواطنين والبحث عن مورد رزق او لمّ شمل؟ وماذا يسمي التهديدات المتكررة بالاجتياح وضم الاراضي وبناء المستوطنات الاستعمارية وتوسيع المستعمرات القائمة وتصفية القيادة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس ياسر عرفات ورفض البدء بمفاوضات سياسية بزعم عدم وقف الانتفاضة واستبعاد اي بحث في اي شأن من شؤون السلام او الحقوق او الاراضي المحتلة فيما يتشدق المسؤولون الاسرائيليون بأنهم تمكنوا من دفن اتفاقات اوسلو وتعطيل كل مفاعيلها من دون ان ينسوا توجيه التهديدات تلو التهديدات للبنان وسورية والاعلان بوقاحة عن بناء مستعمرات جديدة في مرتفعات الجولان السورية المحتلة تمشياً مع زعم شارون بأن الجولان ستبقى بيد اسرائيل ولن تعاد الى سورية. هذه الاقوال والافعال الصهيونية التي تنم عن حقد دفين ونية مبيتة لنسف مسيرة السلام بكاملها والتنصل من مرجعية مدريد وكل ما ترتب عليها من التزامات وتعهدات واتفاقات وقضايا تم التفاهم عليها في المفاوضات تهدف الى جرّ المنطقة الى حرب مدمّرة ودوامة عنف لا نهاية لها اذا لم يتم تدارك الامر وكبح جماح الغرائز الوحشية الاسرائيلية وايقاف "الثور الهائج" عند حده قبل ان يفلت زمام الامور. وهذا الكلام ليس من عندنا بل يردده الاسرائيليون انفسهم، وهو ينم عن تنامي لغة الحرب والاستكبار والحقد في الفكر الصهيوني السائد بعد ان ظن الكثيرون بأن تباشير السلام قد لاحت في الافق بعد مؤتمر مدريد، وان عشر سنوات من المحاولات والمبادرات قد تكون اثمرت فكراً يجنح نحو السلام وثقافته ومتطلباته ولغته الودية. ومن لا يصدق تعاظم لغة الحرب في العقل الصهيوني والمحكوم ليراجع معي هذه الحصيلة التي رصدتها وجمعتها خلال الاشهر القليلة الماضية من فم اسرائيل واقلام الاسرائيليين بكتابهم وصحافييهم وسياسييهم ومفكريهم. ففي هاآرتس 20/6/2001 كتب نداف شرغاي وصفاً حياً للاجواء السائدة من خلال الحديث عن احتفال لمستوطني يشع الضفة الغربية وقطاع غزة هبت فيه احدى النساء الاسرائيليات في وجه المسؤولين قائلة: "توقفوا عن المجيء الى جنازاتنا، كم هو عدد اليهود الذين ستضحون بهم، لقد تحولتم الى حكومة دماء لا مبالية". في المقابل يقول الكاتب ان دعوة الحاخام مناحيم فيلكس للانتقام لاقت صداها في اوساط الحضور لانها تعبر عن المزاج السائد في اوساط الحاخامات الذين القوا كلمات تحدثت عن "المغزى الروحي للانتقام" وبعثوا ادبيات الحقد للحياة. وتحدث كاتب آخر هو ليف غوينبرغ عن اجواء تعيشها المنطقة شبيهة باجواء حرب رمضان 6 تشرين الاول/ اكتوبر 1973 "فشارون يتمتع الآن لفترة ما بالشعبية غير المتوقعة، وعندما يتحطم كل شيء لا تنحو باللائمة عليه وحده بل على اولئك الذين يبنون اليوم اوهام الاجماع والوحدة الوطنية". وحذّر كاتب آخر جدعون سامت من ان التأخير في العودة الى طاولة المفاوضات سيؤدي الى مثل هذا التوقع "وان الملاطفة الاميركية الاسرائيلية لن يخرج منها شيء جديد للمصلحة المشتركة اذا كانت مجرد لعبة تمهيد للحرب". اما بن دروريمني معاريف فيحذر من "ان الغباء يساراً ويميناً يجرنا الى هذه الحرب الساذجة"، لكنه يدعو الى الفصل بين الفلسطينيين والاسرائيليين وفق نغمة سائدة في الاوساط الاسرائيلية مقابل حديث متزايد عن تهجير الفلسطينيين او ترحيلهم "الترانسفير". من جهته يقول جدعون سامت "ان الوسائل العسكرية الحازمة كانت ستلقى تفهماً اكبر لو انها شكلت طريقاً للحوار، وهكذا مثلاً تصرف هنري كيسنجر في ظروف الخصومة العنيفة. اما على طريقة شارون فان اسرائيل كفيلة بأن تبقى على مدى زمن طويل حاملة السلام المتحفز في يد وبلا نافذة معقولة للمفاوضات على التسوية". في المقابل تتصاعد الاصوات الداعية للحسم العسكري مستخدمة عبارات الحقد والعنف الدموي، وعن هؤلاء يتحدث ميرون بنفنشي هاآرتس 28/6/2001 فيحذر من ان ازمة وتلعثم اليمين اكبر من ازمة اليسار فالجميع "يدعون الى الحرب، اما الفروق فليست سوى في التوقيت والحجم. و"المعتدلون" يؤيدون استمرار "التجلد" لاتاحة المجال امام "صحوة اليسار" وعندما تنضج هذه تضمن "اجماعاً وطنياً" خلف شن الحرب. اما المتطرفون فيطرحون الشعار الغابوتنسكي المنفر "الصمت المريب" ويطالبون بالحرب الآن. ان اقوال زعيم اليمين، ارييل شارون "بانه لا يوجد حد عسكري" و"ضبط النفس هو قوة" تستقبل كخيانة. "التفويض الذي حصل عليه هو الحرب"، هكذا يصرخ الناطقون بلسان اليمين ويخططون لاسقاط حكومته. ويتساءل الكاتب: "ما هي الاهداف العقلانية للحرب؟ لا تسألوا المحرضين لشنها فقد سبق لهم ان وصفوا حتى الثأر البدائي برد الفعل العقلاني، وذلك لانه "يردع" وعندما يوجد مفكر عقلاني من اليمين فانه يقترح مرة اخرى اقامة دولة فلسطينية في عمان ويلمح بأن الحرب "ستحل المشكلة بين النهر والبحر". في المقابل يقرع المتطرفون طبول الحرب فنسمع كلاماً همجياً من كتاب مثل شيم طوف حانا هاتسوفيه يقول: "ان القول انه لا يوجد حل عسكري للمشكلة بيننا وبين الفلسطينيين هو قول كاذب ومضلل … وبكلمات بسيطة واكثر وضوحاً: يجب اعادة الوضع الى ما كان عليه. اي الوضع الذي سبق اتفاقات اوسلو... اي العودة والسيطرة على كل مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، سيطرة كاملة وهذا يعني ان ذرع الجيش ينتصر". اما وزير الدفاع السابق موشي ارينز فقد ادلى بدلوه فكتب مقالاً في "هاآرتس" دعا فيه الى الحل العسكري و"القيام بعملية عسكرية واسعة لضرب الانتفاضة واخمادها لانه كلما مضى الوقت كلما ازداد الضغط الدولي على اسرائيل". اما نتانياهو الذي يتأهب للانقضاض على الفريسة والعودة الى زعامة الليكود بعد ازاحة شارون في الانتخابات الحزبية المقررة قريباً فقد طرح "رؤية لانهاء النزاع" تتمثل في تدمير السلطة الوطنية الفلسطينية ووقف الاتصالات واللقاءات مع الرئيس عرفات ورفض قيام دولة فلسطينية مستقلة والموافقة على حكم ذاتي فلسطيني محدود والغاء كل اتفاقات اوسلو والعمل على تقويض السلطة الوطنية الفلسطينية بواسطة عمليات ضد مؤسساتها محطات بث تلفزيوني واذاعي ووسائل الاتصالات والمباني والمقرات والمراكز الخاصة والعامة وصولاً الى السيطرة على كل المناطق الف". وهذا يعني بمفهوم نتانياهو وعتاة اليمين المتطرف وضع نهاية مأسوية لمسيرة السلام مما دفع رئيس بلدية القدس اليميني المراهنة بأنه "لن تكون هناك تسوية سياسية ولن تكون خلال الخمسة عشر عاماً المقبلة، سجّلوا كلماتي هذه وضعوا في العناوين، لن تكون هناك تسوية سياسية، لا مع شارون، ولا مع اي احد غيره". في ظل هذه الاجواء التي يعيشها العقل الصهيوني ويفكر فيها بصوت مسموع يمكن النظر الى مستقبل السلام والتنبه للاخطار المرتقبة ومن بينها تنفيذ خطة جهنمية لتفريغ المناطق المحتلة وتهجير الفلسطينيين او ترحيلهم بالقوة المسلحة عبر شن حرب جديدة، وهذا ما قد يفسر قرار الاردن الاخير بفرض قيود على دخول فلسطينيي الضفة والقطاع بعد ان تجمعت لديه دلائل وبراهين على بدء تنفيذ هذه الخطة بشكل غير مباشر عبر الحصار والتضييق الاقتصادي والمعيشي. وقد تفهم معظم العرب والفلسطينيين بشكل خاص، دوافع الاردن من اتخاذ مثل هذا القرار الاحترازي فهواجسه معروفة ومخاوفه من هذا الكابوس لم تتوقف يوماً على رغم توقيع اتفاق السلام مع اسرائيل، ولا يخفى عليه ان شارون نفسه هو صاحب مشروع "الوطن البديل" اي ان الاردن هو البديل لاقامة دولة للفلسطينيين، كما ان الليكود ما زال يروج لهذا المشروع المشبوه في بياناته وادبياته واستراتيجيته التي تصاعدت نبرتها اخيراً بالدعوة الى تنفيذ سياسة "الترانسفير" ليس على ابناء الضفة والقطاع فحسب بل على فلسطينيي العام 1948 الذين يطلب عليهم اسم "عرب الداخل". ومن يتابع ما ينشر هذه الايام يكتشف ابعاد هذه الخطة ويطلع على تفاصيل ما يجري اعداده واستهداف الاردن وجنوب لبنان بالذات كمراكز للترحيل، وهذا ما سأعود اليه في مقال لاحق بإذن الله. وحتى لا ندّعي بأننا لم نكن نعلم وبأن الاحداث فاجأتنا، علينا ان نستعد منذ الآن لمواجهة مثل هذه الاخطار قبل ان يقع "الفأس في الرأس" ونجد انفسنا امام نكبة 1948 و1967 جديدة. ومهما حاول بعضهم الترويج لنوافذ مزعومة او لآمال زائفة فان من الواجب دق ناقوس الخطر والتنبه الى لغة الحرب السائدة اليوم في العقل الاسرائيلي: الرسمي والسياسي والاستراتيجي والشعبي، فالمرسوم خطير في المعلن منه والمخفي، والمخفي اعظم بعد ان تم ابعاد القضايا الرئيسية عن مدارات البحث مثل القدس وعودة اللاجئين واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والانسحاب الاسرائيلي من الاراضي المحتلة وصار الخوف من الخطر القادم، اي الحرب ونكباتها هو الهاجس الاول. فهل يتنبه العرب لما يخطط لهم؟ انه سؤال ملح مطروح في اجواء ملبدة بالغيوم ولكنها تشهد حالة "تلبد وجمود" غير مسبوقة سواء على الصعيد الرسمي او على صعيد الشارع الذي خفت نبضه. والتحرك المطلوب يجب ان لا يقتصر على الاستعداد الفعلي لمواجهة باتت شبه حتمية، وهو امر مطلوب وضروري وملح، بل يجب ان يشمل التحرك في كل الاتجاهات ولا سيما تجاه الولاياتالمتحدة بتشديد الضغط عليها من اجل ان تتحرك قبل ان تقع الواقعة من دون التخلي عن استراتيجية السلام والتمسك بمرجعية مدريد وتبني مبادرات سلمية جديدة تحرج الراعي الرئيسي والرعاة الآخرين... وتعمل على عزل اسرائيل وفضح نواياها العدوانية وعقلية الحرب السائدة. * كاتب وصحافي عربي.