طالب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات خلال اجتماعات لجنة المتابعة العربية في القاهرة بعقد قمة عربية طارئة لمعالجة الموقف في الأراضي المحتلة بعد الحشود العسكرية الإسرائيلية وتهديدات حكومة آرييل شارون باجتياح مناطق السلطة الفلسطينية. وتأتي الدعوة لقمة استثنائية بعد شهور من قمة عمان وهي القمة ال25 في سلم اللقاءات العربية لمواجهة التهديدات الإسرائيلية. فما هو الجديد الذي طرأ على الساحة العربية لإطلاق الدعوة وتجديد تجارب مريرة سابقة؟ احتلت قمة عمان الرقم 25 في سلّم التجارب مع إسرائيل، لكن الصورة لا تزال هي هي، مماثلة لما حصل عام 1948 اثر النكبة، ومماثلة لما حصل بعد نكسة 1967. فالدم العربي لا يزال يُسفك، وماذا يميّز شارون اليوم في رام الله، عن شارون الأمس 1953 في قبّية؟ فالتشابه بين السلوكين العربي والإسرائيلي لا يزال كما هو، بمعنى آخر، سيظل الإسرائيلي يقتل من دون حسيب أو رقيب، وسيستمر العرب من جهتهم بعقد القمم والاستنكار. فماذا تغير من قمة انشاص مصر عام 1946، التي كان موضوعها تزايد الخطر الصهيوني في فلسطين، الى قمة القاهرة عام 2001، وموضوعها انتفاضة الأقصى؟ التغيير الوحيد هو في تبدّل هدف الصراع، ولكن من ضمن الثبات. فمن رفض إسرائيل ككيان زُرع في القلب العربي، الى قبوله في المطلق والانتقال الى ترسيم حدود هذا الكيان. وكان أبا إيبان قال في مجلة "فورين افيرز" عام 1965 "ليس من السخف ان نتصور قادة العرب يطالبون في المستقبل بإلحاح بالعودة الى حدود عام 1966 او 1967، تماماً كما يطالبون اليوم بالعودة الى حدود 1947، تلك التي رفضوها في الماضي". إذاً مع كل واقع جديد تفرضه إسرائيل على الأرض والشعب، هناك تنازلات عربية في المقابل. لكن الخطر الكبير يكمن في ان الدول العربية تقاتل اليوم لتحقيق اهداف جديدة، ولكن بوسائل قديمة. فمن التخلي عن الأهداف القديمة، رمي إسرائيل في البحر الى الأهداف الجديدة كالاعتراف والتفاوض، تبقى الوسائل هي هي والشعارات نفسها. حتى انه يمكننا القول ان "الشعار اصبح الوسيلة" ما يعيدنا الى ما قاله الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو حول الايديولوجيات والشعارات: "... لا يجب علينا نحن المثقفين، ان نقترح الايديولوجيات. المطلوب الآن، هو تقديم الوسائل الناجعة التي تجعل الشعب شريكاً في الصراع. فتنفتح بذلك آفاق الإمكانات والحلول". يقول المحللون ان دورية انعقاد القمة العربية، هو انجاز مهم بحد ذاته، فهو يُبقي الأمور الأساسية مطروحة بإلحاح عند كل قمة. وفي المقابل يمكن القول ان النجاح مرهون بالنتائج التي تأتي بها هذه القمة لأي موضوع يطرح، خصوصاً المعضلة الفلسطينية. اي عندما تتزاوج الشعارات مع الوسائل الكفيلة بتحقيق الأهداف في حدّها الأدنى. لذلك يبدو من الجهة المقابلة ان انعقاد القمة دورياً، قد يؤدي الى فقد الإيمان والأمل من جدواها، خصوصاً إذا كانت نتائجها غير معبرة عن طموحات الشعب العربي، الأمر الذي يحوّل الصراع الى داخل الشارع العربي. اتت القمة الرقم 24 في القاهرة نتيجة انتفاضة الأقصى، ولم تأت نتائجها على مستوى التطلعات العربية. ولم ينتج عنها اية استراتيجية كفيلة بوقف الاعتداءات على الشعب الفلسطيني. فأية استراتيجية يجب ان تقوم على الثالوث المقدس في ابعاده السياسية، الاقتصادية والعسكرية، لذلك افتقدت نتائج قمة القاهرة بعديها الاقتصادي والعسكري. واقتصر البعد السياسي على الشعارات كالعادة. وفي هذا الإطار يتساءل البعض عن جدوى تصريح الرئيس حسني مبارك عشية انعقاد القمة حول استبعاد الحرب كوسيلة لتحقيق الأهداف. فمع اعتقادنا التام بعدم جدوى الحرب في الوقت الحاضر، كان لا بد من ابقائها احتمالاً وركيزة مكمّلة لأية استراتيجية. إذ كيف يمكن فصل عنصر القوة عن السياسة؟ الوضع الذي يذكّرنا بما قاله رالف بيتزر في كتابه "القتال من اجل المستقبل": "إن النظرية التي تقوم على ان القلم افعل من السيف، هي نظرية واهية". الى ذلك استبعد النفط كوسيلة ضغط ايضاً. حتى ان قرار المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية، لم ينفذ ولو في حده الأدنى. بعد قمة القاهرة اتت قمة عمان. ظهرت في هذه القمة التناقضات بشكل واضح. وبدت خطورة الانعقاد الدوري لهذه القمة عندما تكون الأمور غير مهيأة. فقد تحول الاهتمام العربي من الانتفاضة التي تدور على بعد بضعة كيلومترات من عمان، الى الوضع العراقي - الكويتي. لم ينتج من هذه القمة ما يطمئن، على رغم التحليلات التي كتبت في هذا المجال. وكان المنتظر من هذه القمة قرارات مصيرية لوضع مصيري، وهذا لم يحصل. اين مكامن الخطأ؟ يعود السبب الأساس لفشل القمم في التوصل الى القرارات المصيرية، الى التناقض والاختلاف في البرامج العربية. فلكل دولة عربية برنامجها الخاص، حتى ولو كان شعار الاجتماع دعم انتفاضة الأقصى. فعلى الصعيد الفلسطيني، يريد ابو عمار ايقاف مذبحة شعبه، ويريد استكمال المساعدات المالية كي يصمد، ويريد تجميع الأوراق السياسية التي تساعده على الخروج من ورطة اوسلو. في النهاية يريد "توريط" العرب لإنقاذه من قراراته المنفردة. ويتساءل البعض، هل نسق ابو عمار عندما قرر الانتفاض؟ على الصعيد الأردني، يريد العاهل كسب الشرعيتين، العربية والدولية اكثر فأكثر، لأنه يريد نزع فكرة ان الأردن هو فلسطين البديلة، ويريد إخراج العراق من الحصار لدوافع اقتصادية ويريد استيعاب شارعه الذي هو بغالبيته من الفلسطينيين. كما ان القمة كانت عشية زيارته واشنطن إذ كان من المقرر ان يوقّع اتفاقاً تجارياً. وعلى الصعيد العراقي، تبدو الصورة اكثر تعقيداً، لأن العراق يريد رفع الحصار عنه من دون الاعتراف بحق الكويت بالوجود، أو النظر بعقلانية الى أخطائه التي اوصلته الى هذه الحال، وأنه لا يزال يعتقد انه زعيم العالم العربي، الذي يريد حلاً للقضية الفلسطينية، فيعمد الى إرسال المساعدات في الوقت الذي يموت فيه اطفاله. كما انه لم يتخل في العمق عن صراعه مع ايران. وتبدو ليبيا في هذه الصورة وكأنها الطائر الذي يغرّد خارج سربه. فالعقيد قذافي خيّر العرب في خطابه الذي ألقاه في جلسة مغلقة، بين مصالحة إسرائيل أو إعلان الحرب عليها. اما البقاء بين الأمرين فهو أمر خطير. ويبدو القلق كبيراً في الجهة الكويتية من امكان رفع الحصار عن العراق. اما لجهة سورية ولبنان، فتبدو الصورة الأكثر وضوحاً على الساحة العربية. فالمساران متلازمان، بعد ان اثبتت التجارب ان خيارات البلدين هي الأصح على صعيد الصراع مع اسرائيل، والدليل على ذلك هو ما وصل إليه الفلسطينيون. فالرئيس بشار الأسد يعرف تماماً الأهداف الصهيونية، فهو يعرف تماماً ماذا يريد، وكيف يمكن له المحافظة على إرث والده، وهو مقتنع بضرورة تلازم القوة مع المسار السياسي، لذلك يدعم المقاومة في لبنان، ليبقيها ورقة مهمة من اوراق الضغط من دون التخلي عنها. وهو مقتنع ان اي تنازل لإسرائيل، يجعلها تطالب بالمزيد، ولا بد من التوقف عن تقديم هذه التنازلات. لكن قدرة الصمود يلزمها تغيير الواقع القائم، وهذا ما عبّر عنه في خطاب القاهرة. وهو يحلم بتحقيق حلم الرئيس الراحل بإعادة احياء الجبهة الشرقية، ومن هنا انفتاحه على عرفات على رغم قناعاته ان الأخير قد يتحوّل في اية لحظة. اما على الصعيد المصري، فهي الشقيقة الكبرى، ومن دونها لا حرب ولا سياسة، لذلك نلاحظ ان مصر لم تكن فاعلة تجاه محاولة رفع الحصار عن العراق. فالرئيس مبارك أراد الابتعاد من هذا الموضوع الساخن عشية زيارته الأولى الى واشنطن بعد وصول الادارة الجديدة. وتبدو مصر وكأنها تعتمد في شكل اساس على المساعدات الأميركية في شقّيها الاقتصادي والعسكري بليونان سنوياً، وهذا ما يفسّر المناورات المشتركة. لذلك بدت مصر محتارة في كيفية وقف المجازر واستيعاب شارعها، فما كان منها إلا ان سحبت سفيرها. وشعر الرئىس مبارك بعد زيارته واشنطن بأن الادارة الجديدة ليست كالقديمة، فهي تريد مواقف سياسية لقاء مساعداتها. كما انها اي الادارة راحت تضغط في الموضوع القبطي، لمعادلة الضغط الفلسطيني. وبدا الأمر واضحاً في موقف الكونغرس الأميركي الذي طالب بإعادة تقويم العلاقة مع السلطة. في ظل هذه التناقضات، كان من الطبيعي ان تكون الاستراتيجية العربية عرجاء. او قد يصح القول انه لا توجد استراتيجية معيّنة سوى استراتيجية الشعارات. وفي ظل التناقضات العربية، كيف يمكن لعرفات ادارة "مفكرة" السلام والحرب في المنطقة. وهل نسّق قبل قيام الانتفاضة وما هو الأفق السياسي لها وما هي البدائل؟ وهل يمكن الاستمرار في الانتفاض الى ما لا نهاية؟ وما هو مصير القدس ومصير حق العودة؟ هل يمكن تحقيق كل هذه الأمور بالوسائل المستعملة، والانتفاضة منها؟ هل ان هذه الاهداف كلها قابلة للتحقيق بكاملها؟ اسئلة من المستحيل الاجابة عنها لأنها ليست قراراً يُتخذ، لا بل هي مسار طويل وشاق. لكن لا بد من محاولة رسم صورة المستقبل بعد الاستفادة من تجارب الماضي. بعد ان اتخذت الدول العربية خيار السلام كاستراتيجية مستقبلية، لا بد من العمل على ايجاد الوسائل. فالسلام ليس قراراً يُتخذ، لا بل هو لبنة توضع فوق أخرى. وهو قُبل على اساس استرداد الأرض. فكيف السبيل الى ذلك؟ لا بد من ان تقوم استراتيجية سلام هجومية، مدعومة باستراتيجية حرب عسكرية ومن ثم اقتصادية. وفي معنى آخر لا بد من استراتيجية كبرى ترتكز على السياسة الهجوم السلمي، والاقتصاد، وأخيراً وليس آخراً البعد العسكري. ولا بد لهذه الاستراتيجية من ان تأخذ في الاعتبار المتغيرات الدولية والاقليمية. فعلى الصعيد الدولي، يبدو ان الصراع انتقل الى الشرق الأقصى، وذلك بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأثر هذا التغيير على الدور الاسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط. فالأميركي لم يعد يخشى الخطر الشيوعي، وتبدّل دور اسرائيل بحسب ما يقول الخبراء من "حليف استراتيجي"، الى "عبء استراتيجي". وإلا، فماذا يفسّر استبعاد اسرائيل عن التحالف ضد العراق، وعدم السماح لها بالرد على الصواريخ؟ وكيف يمكن لها ان تكون حليفاً استراتيجياً، ومن دون ان تستطيع تأدية الدور المطلوب منها، خصوصاً المتعلق بحماية المصالح الأميركية؟ ما هي أسس الاستراتيجية العربية الكبرى؟ لا بد لنا قبل الحديث عنها من ان ننطلق من سيناريو محتمل تنبثق عنه هذه الاستراتيجية، الذي قد يكون على الشكل الآتي: تنعقد قمة عربية طارئة بسبب الاحداث الاخيرة في الاراضي المحتلة، ومحاولة شارون توسيع رقعة الحرب. تضع هذه القمة اهدافها السياسية الممنكة والسلوك المعتمد للتنفيذ، كإعلان الدولة الفلسطينية في شكل يمكّنها من العيش والاستمرار. وجب على هذه الاهداف ان تأخذ في الاعتبار وضع القدس، وقضية اللاجئين، والمستوطنات، واستعادة كل الأراضي العربية المحتلة، كالجولان ومزارع شبعا مثلاً. اذاً يشكل هذا البند الاطار العام للمقاربة السياسية لموضوع الصراع العربي - الاسرائيلي. ينبثق من هذه القمة لجنة عليا للمتابعة السياسية، وذلك برئاسة مصر المطالَبة بالكثير. حتى ان البعض، يعتبرها مسؤولة عن الكثير من الأمور التي أدّت الى هذه المآزق. فعليها ان تلعب الدور الريادي وليس الاطفائي. تتبنى هذه اللجنة ادارة الانتفاضة عربياً، فتكون بذلك عاملاً ميدانياً تصب مفاعيله في الجعبة السياسية للأهداف الموضوعة. ومن هنا تجب مساعدتها، مالياً وعسكرياً وإعلامياً. ولا بد من التشديد على حصر الصراع في الداخل الفلسطيني، وعدم السماح باندلاع اي حرب اقليمية، إلا اذا كانت من ضمن الاستراتيجية الكبرى وعندما يقرر العرب كل العرب ذلك. فالحرب الاقليمية قد تخلط كل الاوراق، وتؤدي الى عملية ترحيل شاملة للفلسطينيين. تتوجه هذه اللجنة بهجمتها السلمية الى القوى الفاعلة، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، وذلك من خلال حملة سياسية مكثفة تشرح فيها رغبتها في السلام العادل والشامل. كذلك لا بد من شرح البدائل لهذا السلم المقترح، ويتمثل بحروب اقليمية تؤثر مباشرة على مصالح الولاياتالمتحدة، وخصوصاً النفط. وقد تستعمل في هذه الحروب اسلحة الدمار الشامل. ولا بد ايضاً لهذه اللجنة من ان تحشد الدعم السياسي لأهدافها عبر التوجه الى كل العالم بواسطة الأممالمتحدة حتى ولو كانت مشلولة. في هذا الاطار، لا بد لهذه اللجنة ومن خلال هذه الهجمة الساسية السلمية من ان تركز جهدها على الداخل الاميركي والمتمثل بالكونغرس. لماذا الكونغرس؟ من المؤكد ان الصراع العربي - الاسرائيلي يحتل طليعة المواضيع التي تثار في الداخل الاميركي. فهو يشكل نقطة ارتكاز في الانتخابات الرئاسية، وفي بعض الاحيان عاملاً حاسماً. فالرئىس الاميركي مطلق الصلاحية تقريباً في السياسة الخارجية، باستثناء موضوع اسرائيل، اذ للكونغرس اليد الطولى العريضة التي رُفعت الى الرئىس بوش تطلب منه اعادة تقويم العلاقة مع السلطة الفلسطينية. ويذكر في هذا الاطار ان الاهتمام الاميركي في منطقة الشرق الأوسط، قام على ثلاث ركائز هي: الاقتصاد، الأمن والدين، مع تجاهل تام للإيديولوجية. هدف الاقتصاد الى تحقيق الارباح للشركات الاميركية، خصوصاً في مجال التسلح. اما الأمن فيعتبر ضرورياً لتأمين تدفق النفط الى الغرب الصناعي. اما الدين فهو العامل الذي قرّب واشنطن من اليهود اكثر من العرب. ويعود هذا الأمر وبحسب الكاتب ميخائيل سليمان، الى الإرث الدموي الذي نتج عن التصادم بين الاسلام والمسيحية، ونقله الأوروبيون الى العالم الجديد. فالإسلام هو الذي تحدى اوروبا عسكرياً وحضارياً ودينياً. - أخيراً وليس آخراً، لا بد من العمل على بناء وإعداد البُعد الثالث المتمثل بالقوة العسكرية، التقليدية منها وغير التقليدية. * كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد.