في مقاله المعنون ب"دفاعاً عن محمود درويش"، المنشور في "الحياة" - ملحق "تيارات"، العدد 13993، الصادر في 8 تموز يوليو 2001م الموافق 17 ربيع الآخر 1422ه، قدم أشرف عبدالفتاح خطاباً نقدانوياً حماسياً، يرثي فيه حال "العمى" الثقافي والسياسي الذي تعيشه الأمة العربية، والذي يطبقُ على فكر ونظر نُخبِها ومجتمعاتها العربية التي أرسلت عقولها في إجازة طويلة واستسلمت لعواطفها وانفعالاتها وغرائزها لتمارس لعبة مازوخية نحن أول ضحاياها والخاسرين فيها كما يرى ذلك الأستاذ أشرف عبدالفتاح. ربما نوافقه على ما ذهب إليه من رفضٍ للتحالف مع النازية ضد الصهيونية، ونحن هنا في رفضنا للتحالف مع النازية، إنما ننطلق من موقف مبدئي قيمي يجعلنا نرفض أن نعالج الخطأ بمثله، لأننا لسنا برغماتيين في ممارستنا السياسية والفكرية، فنحن ضد النازية والصهيونية بوصفهما منهجاً إقصائياً لا إنسانياً، يقوم على الإستلاب وغصب الحقوق والعنصرية. إن اللافت، هو أن يضع الكاتب جميع من راجع تاريخ الجرائم النازية أو تاريخ الهولوكوست في سلة واحدة وتصنيفهم في خانة المشبوهين. قد يكون هناك أناسٌ نازيون عنصريون في نظرتهم، وقد يكون هناك أناس أصحاب أهداف مشبوهة، ولكن، هناك علماء موضوعيون تقوم دراساتهم على أسس علمية بحتة أمثال روجيه غارودي، فما هي المشكلة في التعاون معه، ومراجعة تاريخ الهلوكوست بمنظار علمي دقيق، إلا إذا كنا ننظر اليه على أساس أنه تاريخ مقدس لا يجوز العبث به! مسألة أخرى لافتة في المقال وهي: ما يذهب إليه من أنه إذا راجعنا هذا التاريخ وهذه المواضيع وتوصلنا الى نتائج علمية منطقية تخالف النظرة الغربية، وتبنينا أفكاراً مناقضة للسائد أو متفقة مع آراء المراجعين لتاريخ النازية ومذابح اليهود، فإن ذلك سيجعلنا نخسر النشر في دور النشر العالمية كما حصل لروجيه غارودي الذي طبع كتابه على نفقته، بعد أن كانت تطبع له كبرى الدور الباريسية. والسؤال: منذ متى صار للحق وللعلم مقاييس طباعية ومواصفات توزيع معينة؟ ومنذ متى كانت الدراسة العلمية غير ذات جدوى إذا لم توزعها دور نشر فرنسية وأميركية؟ ألهذه الدرجة لم تعد لنا شخصيتنا المستقلة القائمة بذاتها وصرنا ننظر الى ذواتنا من خلال الآخرين. هذا منطق انهزامي بائس ودونية وتبعية للغرب نحن لسنا ضد الغرب، ولسنا ضد الترجمة الى لغات العالم الحية، لكننا مع العلاقة القائمة على الاحترام المتبادل والندّية والحرية، لا علاقة السيد والعبد. كما أنه إلى متى سنظل نستجدي الغرب ونطلب منه العون؟، لماذا لا تكون لنا دور نشر عالمية وشركات توزيع ومراكز ترجمة نستطيع من خلالها أن نكتب ونطبع ونوزع ما نشاء بحرية كبرى وفكر مجرد من دون أي ضغوط أو ابتزازات رخيصة. أستغرب من الكاتب أن يضع دار النشر كمقياس علمي وقيمي موضوعي. أليس هذا هو العمى بذاته الذي يتحدثُ عنه ويحذر منه؟ نقطة أخيرة تتعلق بالترجمة الى العبرية، والتي تعرضتُ لها في مقال سابق نشر في "الحياة"، ولكي لا أكرر، يمكن القول إن الإنسان مع ترجمة الفكر والأدب إلى كل اللغات من دون استثناء. ونحن ضد التقوقع والإنغلاق على الذات. لكن في ما يخص الترجمة إلى العبرية، فالقضية ستكون لها أبعاد سياسية شئنا ذلك أم لن نشأ. وسيطل علينا السؤال الآتي: متى يمكننا أن نصفها - أي الترجمة للعبرية - تطبيعاً ثقافياً وغزواً صهيونياً؟ ومتى يمكننا أن نعتبرها غزواً عربياً للمجتمع العبري، كما يدعو لذلك الكاتب. إن مسألة حساسة كهذه لا ينبغي أن تثار هكذا من دون تدقيق، بل يجب أن توضع النقاط على الحروف. لذا فإن الترجمة للعبرية من خلال دار نشر إسرائيلية سواء كانت دار "أندلس" أو سواها تعتبر تطبيعاً وخرقاً صهيونياً لجدار المقاطعة العربية، والتي تمثل آخر جُدر المقاومة الشعبية، وزوالها يعني سقوط الحصانة الثقافية والنفسية وانتصاراً صهيونياً كبيراً. أما الترجمة للعبرية من خلال دار نشر عربية وناشرين عرب، يعملون على انتقاء نصوص ذات قيمة أدبية وفكرية راقية، وطباعة هذه الأعمال بعد ترجمتها، ومن ثم توزيعاً عبر وسطاء عرب من فلسطينيي الأراضي المحتلة العام 1948 وضمن مخطط واعٍ ومنظم، فإن ذلك لا يعتبر تطبيعاً، بل غزواً مضاداً من العرب تجاه الثقافة العبرية، وهنا الفرق بين الترجمتين. علينا أن نكون أكثر وعياً ودقة وتمييزاً للأمور ووعياً بالذات وعلاقتها بالآخر، وأقل انفعالاً، فجميع التصرفات الانفعالية لن تجني فائدة للأمة العربية والإسلامية، بل ستقودنا لدوامة الصراع والصراع المضاد مع الذات الواحدة، والنتيجة أن نخرج صِفرَ اليدين. * كاتب سعودي.