يُستبعد ان تعتمر قمة مجموعة الدول الصناعية الثماني في جنوى قبعة الحسم في أي من المسائل المطروحة دولياً، تلك المتعلقة بالدرع الصاروخي وانعكاساته على المثلث الاميركي - الروسي - الصيني، أو القضايا الاقليمية مثل تدهور العلاقة الفلسطينية - الاسرائيلية أو مصير العقوبات على العراق. هذه قمة تقع بين التعارف الذي تم بين الرئيس الاميركي الجديد جورج دبليو بوش وقادة الدول السبع الأخرى وبين التعرف إلى ما في حوزة الرئيس الاميركي من مواقف ومشاريع. ولأن الإدارة الاميركية الجديدة تتقبل اسلوب العمل الجماعي ولا تتمسك بالتفرد ببعض الملفات، أمام القمة مناسبة فريدة للتأثير في صنع السياسة الاميركية برضا واشنطن التي تحتاج درعاً ورادعاً سياسياً وديبلوماسياً جماعياً في بعض القضايا، وبينها المواقف من اسرائيل. هيبة العظمة وتميز النفوذ يشكلان أولوية دائمة للولايات المتحدة. لكن اميركا لا تريد دوماً ان تطالب بالقيادة. فهي في بعض الأمور تفضل الابتعاد عن ادارة يومية لقضايا اقليمية، وهي في بعض هذه القضايا تحبذ لو ظهر غيرها علناً في موقع القيادة. وهذا يطبق اليوم على ملفي العراق واسرائيل. العراق سيكون غائباً حاضراً في جنوى، المدينة الساحلية الايطالية، حيث تبدأ اليوم قمة مجموعة الدول الصناعية الثماني التي تضم الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وايطاليا والمانيا وكندا واليابان وروسيا. سيكون حاضراً عبر العلاقة الاميركية - الروسية أولاً لا سيما ان روسيا عطلت العمل الاميركي - البريطاني الذي دعمته فرنسا لصوغ عقوبات مختلفة على العراق. عشية القمة، حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على توجيه رسالة الى الرئيس صدام حسين فحواها ان على بغداد السماح بعودة المفتشين الدوليين للتحقق من إزالة الأسلحة المحظورة كي يكون في المستطاع رفع العقوبات. وزير الخارجية ايغور ايفانوف، في اعقاب اجتماعه مع نظيره الاميركي كولن باول، شدد على أهمية استمرار التعاون الروسي - الاميركي، الثنائي منه وداخل مجلس الأمن، بهدف التمكن من الاتفاق على حل. هاتان السكتان المتوازيتان في الديبلوماسية الروسية نحو الملف العراقي تؤكدان ان موسكو ليست في وارد التفرد بمبادرة نحو العراق وانما العمل مع واشنطن لاستعادة قاعدة العمل الجماعي نحو بغداد انما يغير الاسلوب الذي خططت له الديبلوماسية الاميركية - البريطانية. قاعدة الانطلاق في الاسلوب الروسي تتعارض مع المواقف والاهداف الاميركية من حيث الجوهر، لكنها من حيث المبدأ تنطلق من فكرة مقبولة رسمياً لدى واشنطن - عودة المفتشين الى العراق. قد تفشل روسيا في اقناع الولاياتالمتحدة بالموافقة على رفع العقوبات عن العراق مقابل انهاء تجريده من السلاح المحظور، اذ ان واشنطن في جوهر مواقفها تريد بقاء العقوبات طالما صدام حسين في السلطة. الا ان في يدي موسكو ذخيرة وعزيمة للبناء على قاعدة العمل الجماعي الاساسية في أية طروحات اميركية أو روسية. والأسباب استراتيجية في البعد الاقليمي كما في بعد العلاقة الثنائية الاميركية - الروسية، وكذلك في بعد العلاقة الثلاثية الاميركية - الروسية - الصينية. احدى ركائز معاهدة "الصداقة والتعاون"، التي وقعها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني جيانغ زيمين هذا الاسبوع هي بعث رسالة الى واشنطن مفادها ان كلاً منهما ينوي استخدام تعاهدهما كي يقوي أوراقه في علاقاته الثنائية مع الولاياتالمتحدة. هذه المعاهدة تأتي في اعقاب معاهدة شنغهاي الشهر الماضي التي دعت الى الدفاع المتبادل بين الصينوروسيا، وهي أول معاهدة بين موسكووبكين منذ نصف قرن. وتبع المعاهدة التي وقعت الاثنين الماضي اتفاق على خطة لانشاء انبوب نفط كلفته 1.7 بليون دولار، ينقل حوالى 150 مليون برميل نفط سنوياً من سيبيريا الى الصين. هذه نقلة في العلاقة الروسية - الاميركية، وليس فقط في العلاقة الروسية - الصينية علماً بأن موسكو في مطلع التسعينات اعتمدت اساساً في علاقتها مع واشنطن "الشراكة الاستراتيجية" التي استبعدت بكين. هذا لا يعني ان الدولتين ستتحالفان ضد الولاياتالمتحدة في شبه احياء للحرب الباردة. فالصين تعمل بموازاة ذلك على تعزيز العلاقة مع الولاياتالمتحدة، وهي ستستضيف الألعاب الأولمبية عام 2008 ما يعني عزمها على تصحيح سجلها في حقوق الانسان والديموقراطية. وعلى رغم ما تتضمنه المعاهدة من لغة تحد للمشاريع الاميركية العسكرية، لا سيما مشروع الدرع المضاد للصواريخ، فإن موسكو مستمرة في التفاوض مع واشنطن على مسائل السلاح، بما فيها الدرع، فيما بكين مستمرة في بذل الجهود للالتحاق بمنظمة التجارة الدولية ولتعزيز العلاقة الاقتصادية مع واشنطن. كولن باول سيتوجه الى الصين الاسبوع المقبل، وجورج بوش سيجتمع بعد غد مع فلاديمير بوتين في جنوى. ضمن ما تعنيه المعاهدة الروسية - الصينية التي تحل محل معاهدة 1949 بين تحالف القوى الشيوعية، ان موسكووبكين تتحدثان بلغة مصالح اليوم. وعندما يعارض بوتين توسيع حلف شمال الاطلسي فإنه يدافع عن المصالح الروسية. ولأن التداخل بين قضايا "الناتو" والدرع والمعاهدة والعراق يدخل في الاعتبارات الاستراتيجية، تتصرف موسكو بغير نمط الانصياع الذي ميز حقبات من تاريخها الحديث لدى اضطرارها لمراعاة واشنطن. وواشنطن تدرك ان لغة موسكو جديدة، لذلك فإنها غير مقتنعة بعد بأنها حازمة أو لأي مدى سيستمر بوتين في مقاومة الانصياع. ومحطة جنوى جزء من عملية التقويم. كثير من التقويم متوقع في قمة جنوى، اذ ان الدول الأوروبية ايضاً في مرحلة تقويم لدورها أو أدوارها ولمواقف كل من روسياوالولاياتالمتحدة. فبينما تتملص واشنطن من الاستفراد في ملفات اقليمية، مثل عملية السلام في الشرق الأوسط، فإنها تزداد تمسكاً بنمط التفرد عندما يتعلق الأمر بالقضايا العالمية وتلك التي تدخل في خانة قيادتها العولمة. احدى المسائل التي يمكن لأوروبا ان تجد نفسها فيها في موقع القيادة - الشراكة هي الأوضاع على الساحة الفلسطينية - الاسرائيلية. فالكل في قمة جنوى على اتفاق بأن توصيات لجنة جورج ميتشل تمثل عربة الانتقال الضرورية من الوضع الراهن الى استئناف نوع ما من المفاوضات، أو مسودة للدخول الى "وقف نار يؤدى الى صنع السلام" حسب تعبير وزير الخارجية الفرنسي هوبير فيدرين. الخطر الذي يحدق بتوصيات لجنة ميتشل لا ينبع فقط من الفشل في تنفيذها حتى الآن، وانما ايضاً من تكرار اعتمادها اساساً وحيداً للخروج من الوضع الراهن دون ربطها بمحطة واضحة للمفاو ضات. هذا يعرضها ل"الإنشاء" الديبلوماسي الذي يتوقف عند اجراءات تجميلية لوضع فائق البشاعة. أمام قمة جنوى فرصة اصلاح نمط "الإنشاء" الديبلوماسي عبر تبني قادة الدول الثماني فكرة ايفاد مراقبين دوليين لعملية تنفيذ التوصيات للعمل كهيئة تحكيم خارجية نزيهة تعلن من نفذ ومن خرق التعهدات. هذه ليست فكرة لتوفير الحماية للفلسطينيين، وانما للتيقن من صدق الطرفين في تنفيذ توصيات ميتشل الانتقالية والتي تشمل اجراءات فلسطينية واخرى اسرائيلية. حكومة ارييل شارون لا تريدها وهو يفعل كل ما في وسعه لقطع الطريق على رقابة التحكيم ليستفرد بالفلسطينيين ويواصل الاستيطان وينفذ سياسة الاغتيالات التي تبناها. فإذا تميزت مواقف قادة قمة جنوى بالاعتذار عن اتخاذ ما يلزم لتفعيل توصيات ميتشل، لن يصدر عنها مطالبة واضحة برقابة تحكيم دولية. وحتى لو تبنت مثل هذه الدعوة، فإن الدول الثماني تقصّر اذا لم ترفق ذلك بمساعدة اقتصادية تعوّض عما أسفر عنه الخناق الاقتصادي والحصار الذي تضربه اسرائيل على الأراضي الفلسطينية. وهذا لا ينحصر بالدور الاقتصادي الأوروبي وانما من الضروري ان يتوسع ليشمل آخرين في قمة الثماني. الأهم ألا يصدر عن القمة إجراء تخديري آخر و"انشاء" جديد عن استعادة الثقة. ان المرحلة تتطلب توجيهاً من القادة الى الفريق المكلف بالملف الفلسطيني - الاسرائيلي في كل من العواصم الثماني بالعمل الجدي على و ضع تصور واضح لعملية سلام، بديلة أو تكميلية لعملية السلام المعهودة، ترافق توصيات ميتشل الانتقالية الى المفاوضات. هناك ما يكفي من قواسم مشتركة في المواقف الدولية وفي مواقف الدول الثماني لتشكل تصوراً لمصير المفاوضات. هناك ما يكفي من اتفاقات ومن شهادة على مفاو ضات ومن قرارات الشرعية الدولية. الولاياتالمتحدة غير قادرة على القيادة في هذا المجال لأنها مرتبطة بعلاقة عضوية مع اسرائيل تمنعها من لعب الدور الحيادي. انها في حاجة لأن يقوم غيرها بدور يعارض الحكومة الاسرائيلية في سياسات الاستيطان والاغتيالات ونسف البيوت وقطع الأشجار، ويتخذ اجراءات تدعم مواقفه كي لا تبقى انشائية. وهذا دور أوروبا، اذا صدقت في رغبتها في توظيف الاستعداد الاميركي السماح لها بلعب دور. فبدلاً من الانبهار بالتغيير الاميركي لدرجة التراجع عن مواقف أوروبية في اتجاه الاقتراب من المواقف الاميركية، في وسع أوروبا ان تلعب دوراً فاعلاً يساعد في النهاية الولاياتالمتحدة على اتخاذ مواقف هي في آخر المطاف في المصلحة الوطنية الاميركية. وهذا يتطلب البدء في توجيه الانذار بدلاً من المضي في الاعتذار. لن تكون قمة جنوى قمة حسم، لكنها ستكون مفيدة لو أطلقت نمط الحزم كي يكون العمل الجماعي اكثر من مجرد انشاء واحتفاء.