إذا ما نظرنا الى الثقافة بمعنييها الحضاري والعضوي نجد ان البحث عن تمايز بين ثقافة لبنانية وأخرى سورية لا يعدو ان يكون مغامرة عبثية لا جدوى منها ولا معنى لها. اللهم الا اذا أراد بعضهم ان يجد في تنويعات نافلة كإمالة هذا الحرف أو ذاك خلال نطق العربية المشتركة، أو زيادة المقادير في هذا العنصر أو ذاك في الطبق الغذائي نفسه، إرثاً ثقافياً مميزاً يستدعي التعبئة الايديولوجية للتنظير له والذود عنه. أما في العمق فلا أستطع ان أرى أي عنصر جوهري قادر على تمايز الثقافتين، خصوصاً لدى مجموعة كبيرة من العائلات المنتمية في أرومتها الى المجتمعين، بل أقول هذا بلا تردد، الى المجتمع الواحد في البلدين. كما هي الحال بالنسبة إليّ شخصياً. الحقيقة انه لمن المستحيل تماماً الفصل بين اللبناني والسوري في جوهر انتمائنا الثقافي. هذه الثقافة الواحدة في جوهرها، والراسخة في جذورها لا تجد دائماً امكانات التعبير والتمظهر الملائمة، لأسباب تتعلق في شكل مباشر بدرجة نضج المجتمع المدني وحيويته. فالمجتمع المدني هو الحاضن الحقيقي للثقافة وهو الفضاء الطبيعي لفعلها وتفعيلها. وعندما يُُلجم هذا المجتمع ويُحجم ويراقب يخفت الأداء الثقافي وينكفئ وتبهت ألوانه. وعندما يجد أمامه متسعاً من الحرية يتوثب وتتناسل فاعلياته وابداعاته. هذا ما يجعل المشهد الثقافي في لبنان أكبر حركة وفاعلية منه في سورية. غير ان ذلك لا يعني بالضرورة ان الثقافة هناك غير تلك الموجودة هنا أو أنها أعمق منها أو أغنى. الثقافة كفاعلية يومية وكإبداع مستمر هي واحدة من مكوناتها وفي تعددها وهي ستستمر واحدة ما دام "ثلج حرمون يغذينا معاً" وما دامت أغاني فيروز من التراث الشعبي المغنّى في سورية تطربنا معاً. وما دام مسرح سعد الله ونّوس يجد طريقه الى قلب المشاهد اللبناني. وما دام مارسيل خليفة يجد عشاقاً له في أصغر قرية سورية كما في أكبر مدينة... لكن ثمة خطراً مستقبلياً، ليس على توحّد الثقافة في المجتمعين فحسب بل على وجودها أيضاً، وهو خطر يتأسس في السياسة، خطاباً وأداء،. ويظهر في وجهين اثنين. الأول هو الوجه العنصري الذي يحول ظاهرة يمكن معرفتها وخبرتها في التاريخ وفي المجتمع الى صفة سامية، ميتا معرفية، تعلو على التجربة لتنتج انساناً وهمياً متميزاً في هذا المجتمع أو ذاك. أما الخطر الثاني فيتمثل في تضييق الخناق على المجتمع المدني. مما يؤدي الى كبح جماح الإبداع والخلق ويحول الإنسان الى كائن مُرهَب جُلَّ غايته ألاّ يقوم بأي فعل قد يخرق المسموح ويودي الى التهلكة. ان الثقافة الممتدة في بلدينا بخير وستبقى بخير شرط ألا تجعل بعض الأفكار السياسية منها مطية تركبها لتساعدها على بلوغ أهدافها في الهيمنة أو في الانعزال. * كاتب سوري.