جاء في وثيقةٍ نُشرت في مشروع "قضايا وشهادات" التي كان سعد الله ونّوس من منشئيه وهم قِلّة ما يلي: "أَتعرف هؤلاء الشعراء الذين يستمتعون بالحرية فيتغنون، ويزجون في السجون فيتغنون، ويضطرون الى البؤس والجوع والحرمان فيتغنّون!! هؤلاء شعراء حقاً، وأدباء حقاً! لأن أخصّ ما يمتاز به الشاعر أو الأديب هو أن جذوته مضطرمة دائماً، وضميره حي دائماً، وقلبه مرآة لكل شيء". طه حسين. هي الجذوة والضمير والقلب - المرآة، عناصر التكوين في الفرد - المُبدع. هكذا كانت شهادة طه حسين، وهكذا كان سعد الله ونّوس، الذي غاب قبل عام. حين يكون الفرد، مهما تفرّد في أحاسيسه وابداعه، رهن حاجات الأُمة، ويحاول أن يُسهم في صوغ المشروع، المشروع الثقافي - الإنساني - الوطني، ولا يفتأ يُقنع الآخرين بالأفضل، ويعمل بدأب وفعالية على تطوير هذا الأفضل، حين يكون كذلك، يترك فراغاً إذ يغيب شخصه عن كرسي الحوار وخشبة المنبر، ولكن من دون أنَ تغيب طاقة الحلم والفكر المستقبلية التي بثّها، والتي غيّبه الموت عن إمكان معاينة التجربة، تجربة المستقبل! هذا هو طراز الغياب عند سعد الله ونّوس، كما هو طرازه بالاستمرار في الحضور في الثقافة العربية، ونهج العقلانية والحداثة، والحرية والديموقراطية، والمجتمع المدني وحقوق الإنسان، وقضيّة المحرومين والمهمّشين... وفي الإبداع أَولاً. موت المُبدع خسارة هائلة، والمُبدع... لا يموت!! لا يكون المبدع الا فرداً، ولا يكون ايضاً الا "جمعاً" فرديته تكون على أشكالٍ كثيرةٍ، "أَبدعها" ما اقترب من شرايين الناس وعقلهم وحلمهم الجماعيين. إشراق المبدع في حال انطباقه على عقلانيته، شرط للجمال في زماننا الكوني هذا... وزماننا العربي هذا. ولا شرط - طبعاً - على الجمال، ولكنها الحال التي تدفع - قهراً - الى السؤال. فوّجهنا السؤال، بمثابةِ حوارٍ تأمّلي... الى عددٍ من المثقفين في دمشق. ماذا يعني غياب الفرد المُبدع؟ ماذا يعني غياب سعد الله ونّوس؟ شمولية معرفة أجابت ماري الياس "يجب تحديد ماهيّة المُبدع، فهو ليس كل ما ينتج أدباً أو فنّاً. قيمة سعد الله ونّوس كانت في شمولية معرفتِهِ وثقافته... أكثر من كونِهِ كاتباً مسرحياً. وعلى هذا المستوى، هو خسارة كبيرة. غيابه يترك فراغاً على مستوى الكتابة المسرحية. وغيابه الأهم كفرد هو على المستوى الآخر... مستوى شمولية اهتماماته... حضوره... وفيما يخصّ حضوره، هناك نقطة لم يُحكَ عنها بعد... وهي تحوّل بيته في فترة مرضه الى ملتقىً هامّ على مستوى التنشيط الثقافي، دون قصد مباشر في خلقِ ذلك. قد لا نلمس مباشرةً معنى غيابه... معنى هذا الغياب... لكن أي ملتقى هو عملية جمع لآراء... وإذا لم يعوّض، سيبقى كلٌّ في عزلته". ماذا يعني غياب الفرد المبدع في نظر الكاتب والصحافي حسن. م. يوسف: "يبدو لي أنه من غير المجدي البحث عن معنى الغياب، خاصة غياب الفرد المبدع! غياب سعد الله ونّوس! في داخلي، ثمّة تنافر بين المعنى وبين جلّ الأشياء التي تشكّل وجه العالم وتعيد صوغه! يُخيّل اليّ ان الحديث في هذا الموضوع أشبه بمحاولة ضبط معنى النبع داخل كأس من الزجاج، أو إمساك معنى الشروق بنظرة واحدة! المعنى هو انعكاس الأشياء في العقل! إنه مجرّد صورة تقريبية ساذجة اخترعها العقل البشري لمقاربة الجوانب المبهمة من معجزة الحياة، ولهذا غالباً ما يكون المعنى هو صورة الشيء كما نفهمه نحن. لا كما هو حقاً! وقد يُصبح المعنى آلة ساذجة قاصرة عندما نحاول أن نقيس بها ما لا يُقاس، بحثاً عن الصورة المريحة المحدودة التي تُناسب عقولنا! أُحسُّ أن كل الأَشياء الجوهرية في هذا العالم تُخاتل المعنى" تضع نفسها الى جانبه حيناً، خلفه حيناً وفوقه في كثيرٍ من الأَحيان! ربما لأنها أكبر منه، ربما لأنها منتهاه وأصله في آنٍ معاً!! ماذا تعني الزلازل والأَعاصير؟ ماذا يعني الزمن؟ ماذا يعني الحبّ؟ ماذا تعني الكراهية! ماذا يعني الموت؟! جوابي على كل هذه الأسئلة واحد لا يتغيّر هو: لا أَعرف! لهذا لا أستطيع أن أتحدث عن معنى موت سعد الله ونّوس بالنسبة لي! أستطيع أن أتحدث عن إحساسي بموته، دائماً كنتُ أقول ان نصف كلماتي في أَفواه الآخرين ونصف ذكائي في الحوار معهم. وقد جعلني موت سعد الله أُحسُّ أن نصفي قد راح! وأنني أُحسُّ بطعم التراب في فمي!". تأمّل فيصل درّاج السؤال... وقال "يقول مثل أفريقي: حين يرحل العجوز تغيب معه مكتبة، ولأن المكتبات موجودة في كلّ مكان، فإن في رحيل سعد الله يرحل شيء آخر، مع رحيل سعد الله غابت حزمة من الضياء وأعطت مكانها لمساحةٍ من الظلام، لأن سعد الله كان خصماً منيراً لكل أشكال الظلام. مع رحيل سعد الله خسر المسرح العربي شيئاً، وفقد الفكر التنويري شيئاً آخر وأَضاعت الثقافة الوطنية الديموقراطية وجهاً كبيراً من وجوهها. خسارة متعددة الوجوه وفادحة، لأن الزمن لا يجود بمبدع شاملٍ إلا في لحظات سعيدة. في سفر سعد الله الطويل غياب لذلك المُبدع الذي جعل من ذاتِهِ مرجعاً، وزهد بكل المراجع الأخرى، إلا ما كان منها قريباً لروحه ولذاتِهِ. لقد اكتفى سعد الله بمرجعه الداخلي، على مبعدةٍ من بريق أشياء كثيرة تغصّ بها السوق الثقافية العربية. ولذلك كان يقول: من لا يرضى عن ذاته لا يرضيه أحد، والكاتب الذي لا ينفع شعبه، لا قيمة له حتى ولو تُرجم الى لغات الكون كلها. مع غياب سعد الله ونّوس ينحسر الضوء قليلاً، ويتمدد الظلام كثيراَ". عادل محمود، شاعر وصحافي قال: "غياب مبدع يعني في الحالة الموصوفة للثقافة العربية، خسارة غير قابلة للتعويض، لأن الفراغ الذي يتركه لا يمتلىء نظراً لفقدان حيوية التراكم. التراكم بمعناه الفعال الذي يُنتج قاماتٍ جديدةً، يصعد فيها اللاحقون على أكتاف السابقين. والأشخاص الكبار الذين نفقدهم صاروا كباراً في عصر قضايا كبيرة وآمالٍ كبيرة، وهزائم كبيرة... لا لأنهم كتبوا ما تميّزوا به وحسب، وإنما لأنهم ساهموا في خلق حالة تفاعل بين الثقافة والحياة، بين الفكر والواقع، وبين الجمالي والسّجالي... في حالة سعد الله ونّوس، الغياب يتضح أكثر، لأن رجال المسرح قليلون، ولأن الحركة المسرحية يلتهمها التلفزيون، ولأن المسرح هو مسرحة المجتمع. فعندما لا يكون هناك حركة مجتمع، وسجال مجتمع، وتعبير مجتمع... يكون غياب المسرح والمسرحي قابلاً للنسيان. للأسف، لم يحدث خلال عام، أي نشاط يوازي الرغبات المعلنة بتكريم الغائب، وربما يتكرس النسيان عمداً". مثل حديث صباحي أسامة محمد المخرج السينمائي قال "الغياب. الفرد. المبدع. سعد الله. يا لها من عناوين تُغوي بالإبحار معها بقلوعها، تكتشف بها وفيها قارّة الأسئلة. البوابة المزخرفة للإنسان في مجيئه وغيابه الدائمين. وحتى لا يتحوّل التأمل الى ما يشبه التنظير الذي تحقن به الآخر مدعياً رغبته فيه، وحتى... ويا عزيزي سعد الله لا تشبه إجابتي هذه الإجابة على أسئلة عدو الشعوب امتحان البكالوريا سأستند اليك وأُخاطبك، وأقول لك ما يُشبه ما كان. ما يُشبه حديثاً صباحياً تكون فيه عائداً من المستقبل وأكون عائداً من المخيّلة والجري في حلّتي الرياضية. وأنا أجلس الآن في منتصف المسافة بين اللاذقية ودمشق، بين مسقط الرأس وظلّه. أمام نافذةٍ في حمص. من على يميني مقبرة. ومقبرة من على اليسار. وثمّة نصبٌ حجري تدور حوله وتزعق السيارات، في جوفه أصابع أَثيرٍ شهير اسمه أبو فراس الحمداني: "يا أُمتا هذي منازلنا / نتركها تارةً وننزلها". ويبدو لي هذا الصباح، أن الماهيّة العجيبة للإبداع تُشبه النفق الصعب والفريد من داخل الزنزانة الى خارجها. ويبدو لي، وإن لم أكن بيولوجياً، أن المشترك في بنية الخليّة، يَشي بها. وكما لو أن كل الحياة بما فيها الجريدة تنويعات على الزنزانة وأن الإِبداع حفرٌ مستمر، نفقاً إثر نفق. زنزانة إثر أُخرى. أسئلة إثر أسئلة. حقيقة فحقيقة. حياةً فحياة. وربما كان التاريخ بالنسبة لجاهلٍ مثلي سعياً للخروج من قضبان الزنزانة الى جنّة المهجع أو جنونه، ويا للمصادفة فالمفردة الخليّة في لغةٍ ما، تُشبه الزنزانة صوتاً وصورةً. الغياب، غياب المبدع في الحضور والغياب، غياب للساموك الذي يُمسك البُنية. غياب للحجر السّحري الذي يُقفل ويوازن القوس والقبّة في الصرح الشرقي. وفيما سبق ضوء على ما يلي. ضوء في النفق يزيد غيابه من المتاهة متاهةٍ. ومن النفق نَفَقاً. غياب سعد الله غياب رمزي، بالمعنيين الإيجابي والسلبي، فهو غياب فارس نزقٍ لا يفتح عينيه إلا ليقول الأسئلة ولينحت أعمق وأصعب في حصّته من الفراغ في سرّ الموزاييك الكوني للسعادة والحرية والإنسان. إنه فارس مسربل بالثقافة والحلم والرغبة، لا يكفُّ ولا يكلّ عن المبارزة النبيلة، بدءاً منك وبدءاً منه ووصولاً الى النظام العالمي الجديد. "إن ما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية العالم" و"أَننا محكومون بالأمل". وسعد الله لا يغمض عينيه الا على نفس النوته، وحتى قبل ساعاتٍ من الإغماضة المجازية له في مشفى الشامي، كان يرى في النافذة "أن التلفزيون سيدمّر العالم". وحين نمازحه مراوغين "أبهذا تُتعب نفسك وتفكر الآن؟"، يكون هو في مكان بعيد بعيد... في نفق الأجداد الآتين، يقول مدهوشاً ومبرراً كطفل طازج بالحكمة "ولكن ماذا نفعل؟ يجب أن نفكر أليس كذلك؟" ثم يصيبني بالتفاتة ويكرر "ما لازم نفكر؟ لازم شو؟ ما لازم!؟". الغياب الحقيقي لسعد الله لم يبدأ في 15 أيار مايو الماضي بل في 15 شرطاً لا تجعل أمام الرجل منصّةً دائمة حرّة الأسئلة، تشبه ما يدر في أسراره من نار، تُشبه ما يهدر في مائِهِ من ماء. مسرح دائم بخشبه وستائره، بممثليه وممثلاته، بإضاءته بعتمته، بالصمت، بالموسيقى بالسخرية، بالحداد، بالبشر، بالأسئلة. مسرح متصل بروح الجبل قبل أن يرحل، يجعل النور يتسرب الى النفق برائحة الفراشات هنالك. يجعل دائرة الماء الصغيرة، دائرة الحوار تتسع من الخشبة الى الشارع الى المدينة، الى المدينة - الوطن - كما قال في يوم المسرح. وبعيداً عن أي مديح وربما عن أي جحود، فسعد الله رجل قلق بالحياة حتى الغياب. رجل ينفخ زفيره فيعلق شيء من غبار الطلع بتويجات الأدب والسياسة والأمة والوجدان والوجود. لا أعرف في أَي الأنفاق نحن الآن، لكن صوته وضميره وجماله وقوّته وفروسيته وعناده، اتفاقه واختلافه عالقة على الجدران هنا وهنالك، مثل رسومٍ بدائية. وصديق قبل كل شيء وصادق. إنه كما قال يسكن الطبيعة، والفراغ والأرض فهو يفاجئك اليوم من نافذة السيارة وربما من خلف الكاميرا. في الليل وفي النهار بأسئلةٍ آتيةٍ من هنا... من هنالك. من نفقٍ سرّي، على شكل علامة استفهام، على شكل سؤال، وعلامة استفهام!". وبعد هذا الحوار التأملي... عدتُ وفكرت في معنى غياب سعد الله ونّوس الفرد المبدع... وكم كان الجواب ساطعاً في روحي: "الشوق".