يوجد لحرمون عدد من الأسماء عند المؤرخين فهو: جبل الثلج، وجبل الشيخ وسريون وسنير ولبنان. وهذا الاسم الأخير هو ما ذهبت اليه رواية "الجبال الخمسة" المقدسة. وهو ما عرَّف لبنان، بدءاً منه، سفر القضاة العبري في قوله: "سكان جبل لبنان، من جبل بعد حرمون حتى مفرق حماة". وهو ذاته ما يعرِّفه المؤرخ الصليبي "غليوم الصوري" عند وصف غابة كثيفة لجأ اليها المحاربون قرب "بانياس" قيصرية فيليبس أنها "غابة لبنان" 18:11. والوصف الأقدم الوارد لحرمون في نصوص ارض الرافدين هو تعريفه انه "أرض الأحياء" أي "الخالدين". فوفق رحلة "جلجامش" البطل السومري كانت أرض جبل الأرز "حرمون" أرضاً للخالدين. وهو جاء اليها ليقيم له اسماً حيث ارتفعت الأسماء، وحيث لم ترتفع ليرفع أسماء الآلهة. وقد كانت الأرض تخص إله الشمس "أوتو" نصوص بريتشارد 48. ومثل هذا التعريف هو ما رأيناه في المزمور العبري "البركة والحياة الى الأبد" 133. وما يدهش في قصة "جلجامش وأرض الأحياء" هو أن البطل رأى رؤيا عندما نام في سفح حرمون. والرؤيا كانت تصور "مصيراً كونياً" وليست خاصة به وحده ص 83. وقد درج تعريف حرمون على ألسنة الكثيرين من كتاب التاريخ الديني بأنه "جبل الرؤى". وما يثبت هوية "حرمون" في ملحمة جلجامش هو نص على لسان حارس الغابة "هواوا" ورد في إحدى نسخ الملحمة، وسجله "بريتشارد" في حاشية "ص 47" يقول: "... أمي التي ولدتني هي أرض "حورم" ووالدي الذي أولدني هو "جبل حورم" و"أوتو" جعلني أقيم وحدي معه في الأرض"، أي الشمس راعي رحلة جلجامش من الشرق الى الغرب. *** لقد كان حرمون غنياً بغابات شجر الأرز في الألف الثاني وما قبله، وهو زمن وقائع رحلة جلجامش. فنحن نقرأ في ملحمة البعل الأوغاريتية تكراراً ذكر خشب الأرز الممتاز في جبل "سريون"، أي الامتداد الشمالي لجبل حرمون ص 174. وفي نسخة بابلية قديمة للملحمة نقرأ القول: "... انكيدو رفيق جلجامش قتل حارس الغابة، الذي كان "ساريا" ولبنان يرتجفان لكلمته" ص 504. ولكن في دراسة النصوص القديمة لملاحم "أرض الرافدين" نكتشف ان العلاقة مع جبل حرمون كانت أقدم من زمن جلجامش، أي الألف الثالث، قبل الميلاد. وقد حدثت التباسات على دارسي هذه النصوص نشأت عنها اشكالات في تعيين المواقع الحضارية ذات العلاقة. ففي بعض قصص الأبطال الأقدم ورد ذكر لمدينة بعيدة متحضِّرة تدعى "أراتّا". ولغرض ما أرادها بعض الباحثين أن تكون الى الشمال، قرب بحر "قزوين"، حيث يقع على طريقها جبل باسم "حورم" افترضوا ان اسمه مأخوذ من تسمية "الحوريين" الموجودين منذ القدم في تلك المنطقة. وقد نشأ جدال علمي حول تعيين المكان، ولم يصل الى نتيجة. ونحن نستبعد أن تكون منطقة قزوين أقدم حضارة من أرض الرافدين وأرض كنعان الى الغرب، حيث ان النص يصف مدينة متحضرة وثرية، ولدى أبنائها خبرات ومعارف وحكمة. ونفترض وجود هذه المدينة في أرض كنعان، الى الغرب وهي احدى اثنتين نعرفهما حالياً هما "أراد" في فلسطين و"أرداتا" في جبل لبنان. وهذه الأخيرة كانت مضرب المثل بثرائها ومنتجاتها من الزيت والخمور في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد. وقد ذكرتها غزوات عدة لفراعنة تلك الحقبة. أما الاحتجاج بأن الحوريين كانوا في الشمال وهم معاصرون للسومريين، ولهم اسم جبل هناك فهو مردود لكون نصوص "ايبلا" الأحدث اكتشافاً دللت على وجود كثيف لهم في أرض سورية. كما أن التعريف الفرعوني لسورية في الألف الثاني قبل الميلاد، وربما قبله، كان "أرض خارو" أي أرض الحوريين. وما نريد الوصول اليه هو أن جبل "حورم" الوارد في "رحلة لوغال بندا" لم يكن سوى جبل حرمون الذي رحل اليه جلجامش، وخصوصاً أن الرحلات كانت تتم وفق عقيدة دينية برعاية الإله الشمس "أوتو"، أي من الشرق الى الغرب. كان "لوغال بندا" هذا أحد قادة "إغركار" ملك "أوروك" وهو من أسلاف "جلجامش". وقد وقع مريضاً فوق أرض جبل "حورم" فتركه أتباعه هناك وأكملوا الرحلة الى "أراتّا" المتحضرة بعد أن يئسوا من شفائه. ولكنهم عند عودتهم اكتشفوا انه تعافى. وفي نصوص اخرى تصف محاولة اخضاع "اراتا" لإرادة ملك أوروك نعرف أن هذه تقع في منطقة جبلية وأنها في "أرض شوبا"، كما نشر نصاً يتعلق بذلك الباحث صمويل كريمر في كتابه "التاريخ يبدأ في سومر" 22. وهنا نشير الى أن من تسميات جبل حرمون "أرض شوبا"، حيث لا تزال قرية "كفرشوبا" على سفح هذا الجبل تحمل شهادة على ذلك بالإضافة الى تسمية المعبد فوق قمة الجبل باسم معبد "شوب" الذي تم تحريفه عربياً الى "قصر شبيب". وهذا ما يؤكد ان رحلة أبطال أرض الرافدين الأقدم كانت تتم الى جبل حرمون، وليس الى غيره. والتسميات المحفوظة بالتوارث فوق هذا الجبل وسفوحه هي القرائن الأثبت لهذه العلاقة. ولا نستبعد اليوم ان يكون حرمون قديماً محط رحال الرحالة والمغامرين القدماء. فهو يتمتع بصفات طبيعية نادرة، حيث تبقى قمته مكسوّة بالثلوج ما يقارب عشرة أشهر في السنة، بينما عند كعبه تقع بحيرة "الحوله" وهي بمستوى سطح البحر. وقد أثار اهتمام الرحالة والباحثين الحديثين، منذ القرن التاسع عشر، فكتب عنه العالم الفرنسي "لويس لورتيه" سنة 1881 م. قائلاً: "... ان المشهد الذي يراه المرء من حرمون لا مثيل له، فحينما يكون الجو صافياً، وهو غالباً يكون كذلك في هذا الصقع، يترامى النظر منه على شطر كبير من سورية: ففي الجنوب، على بعد، بلاد مؤاب وبحيرتا طبرية والحوله ووادي الأردن الاخضر يشقه النهر ويمتد فيه كحية فضية طويلة. وفي الغرب جبال السامرة والجليل وساحل البحر المتوسط من جبل الكرمل حتى شمال صور، ثم سلسلة لبنان يتزعمها المكمل وصنين بحقولهما الثلجية. وفي مدى أقرب يرى المرء المضيق المعتم تتدفق فيه مياه الليطاني، ثم سهل البقاع ولبنان الشرقي. وفي الشمال والشمال الغربي بادية الشام تتموّج تموج البحر، وهي مغلّفة بغبار مذهب بنفسجي في أفقها. ويشرف عليها من بعيد الجبل الأسود وجبال "بانيا" تمتد الى الجنوب مع جبال الجولان وجبال حوران التي تبرز قممها البركانية المخروطية بروزاً واضحاً" ص 559. هذا الوصف للجبل من سائح عالم، في ما يصفه مؤمن شارك في دراسة مخطوطات البحر الميت بأنه جبل الرؤى. فقد نقل الأب "مليك" الاختصاصي في هذه المخطوطات ان حرمون كان في نظر أصحاب الرؤى يبلغ السماء في قمته بينما أصوله تصل الى الجحيم في عمق وادي الأردن. وينقل رؤيا عن اللغة الآرامية لشخص يدعى "ليفي" يقول فيها: "... ورأيت السماوات مفتوحة ورأيت في الأسفل مني جبلاً عالياً يصل الى السماوات فأقمت عليه. وأبواب السماوات كانت مفتوحة أمامي وخاطبني ملاك" أليغرو 142. وحرمون ذاته هو الجبل العالي جداً الذي كان يتردد اليه يسوع الذي تذكر الأناجيل زياراته لبانياس قيصرية فيليبس قرب حرمون. وهو جبل التجلي حيث يقول النص الإنجيلي: أخذ يسوع بطرس ويعقوب وأخاه يوحنا وانفرد بهم على جبل عال، وتجلّى بمشهد منهم، فأشرق وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور... وبينما هو يتكلم ظللتهم سحابة مضيئة" متى 17: 1 - 5 ومرقس 9: 2 - 7 ولوقا 9: 34. وحجتنا في تعيين حرمون هنا لهذه الظاهرة هي انه ليس من جبل يحتجز السحب سواه في المنطقة التي كان يسوع يتجول فيها. وما دام الحج الى حرمون بقي ناشطاً الى القرن الخامس، كما يذكر القديس المسيحي "جيروم"، فإننا نفترض أن يسوع عرف ما لهذا الجبل من حرمة وزاره مراراً إما بصحبة تلامذته أو للاختلاء بنفسه والتأمل بسبب من العزلة التي يؤمنها لمحبي العزلة". وتأكيداً لرأي الذين رأوا أن الكثير من الروايات الدينية الأولى كان مسرحها حول حرمون نشير الى أن الربط بين قمة حرمون والسماء هو كالربط بين "أورانوس" والسماء خلال اللغة اليونانية، بينما الاسم في قصة التكوين الكنعانية هو لجدٍ له وقائع تاريخية وله أبناء يتمردون عليه. وهو، على الأرجح، تسمية منطقة "حوران" المجاورة لحرمون، وهي بدورها اسم إله جبار في ملاحم أوغاريت، هو ذاته "حر" في القصص الفرعوني، كما يرى الباحث الأميركي الكبير "أولبرايت" في مقالة له نُشرت سنة 1941 في مجلة "باسور". كما ان قصة ولادة نسل من الجبابرة نتاج تزاوج ابناء الله ببنات الناس تتكرر هي ذاتها في النصوص العبرية، كما في النصوص الكنعانية المنسوبة لسانخونياتن. وفي القصص اليوناني لدى هزيود. ولا أرى في ذلك سوى عملية تفسير لتسمية قبيلة "عماليق" التي كانت تجاور حرمون وتوصف بالشدة والبأس. وقد كانت تتعبد لشيث وتتخذه رمزاً لها في احتلالها مصر بحسب الرواية العربية لدى الطبري 1: 335، وبحسب الآثار المصرية لحكم الهكسوس وعباداتهم فيها. وهي أسلاف بني عاملة المجاورين لحرمون، وفق الأنساب العربية. وقد وصف نص فرعوني أحد بدو منطقة جبل عاملة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد فافترض انه قاسي القلب لا يلين وطوله بين أربعة وخمسة "كيوبت" أي بين 7 و9 أقدام نصوص بريتشارد - ص 477. *** تشير النصوص القديمة الى وجود قبيلة أو سلالة متميزة في المنطقة تدعى الرفائيين، فنقرأ في نصوص أوغاريت أن لقب بطل ملحمة "أقهت ابن دانيال" الرفائي. كما نقرأ صفة تختص بالبعل هي "رفائي". وقد وصلت الى الاغريق باسم بطل مهم هو "بللريفون"، كما باسم "شدرقأ". وقد وجد هذا الاسم محفوراً على صخرة قرب "عمريت" على الساحل السوري، كما يذكر "دونان" الفرنسي. ونحن نقرأ في النصوص العبرية أن أرض العرقوب مع أرض باشان الجولان "هي تدعى أرض الرفائيين" تثنية 3:13. كما نقرأ: "ان عوج ملك باشان وحده بقي من بقية الرفائيين... سريره سرير من حديد... طوله تسع أذرع وعرضه أربع أذرع بذراع رجل" 3:11. وما يبدو هو ان هذه السلالة كان لها شأن في الدين والحكمة والعلوم، وهي الصفات ذاتها التي تنسبها النصوص والروايات العربية والآرامية لشيث وسلالته، ومنها "أخنوع" الحكيم ادريس - هرمس، حفيد شيث. وهنا نفترض أن هذه السلالة كانت تتعهد "حرمة" جبل حرمون وتحافظ عليه كموقع ديني قديم. ولم يكن وصف السرير وحجمه سوى مبالغة لمضاهاة المدلول المعنوي الذي كان لتسمية "رفائي". وقد رأى كاتب "سفر التثنية" أن الصفة الملازمة للرفائيين هي طول القامة، حيث يذكر عند تعريف "الإيميين" أنهم "شعب كبير وكثير وطويل كالعناقيين. وهم أيضاً يحسبون رفائيين كالعناقيين، لكن المؤابيين يدعونهم إيميين" 2:11. وهكذا يتكشف لنا أن الرفائيين الذين شكلوا لغزاً للباحثين، حيث اعتبرهم البعض صفة خيالية، انما اكتسبوا هذه الصفة من انتسابهم الى حرمون وتكامل شخصيتهم المتميزة في زمنهم مع هيبة الجبل وعظمة القصص المنسوبة لأرضه. وحين لم يكن بقي منهم سوى ملك باشان في القرن الثالث عشر قبل الميلاد يكون دور حرمون التاريخي قد تبلور واستقر منذ ذلك التاريخ، ولم يبق من مجد أبنائه الأقدم سوى روايات تتناقلها الأجيال. وتلفتنا ملاحظة عن الايميين وهي قول النص "لكن المؤابيين يدعونهم ايميين". فهذا يعني ان التسمية صفة لجماعة من الرفائيين. وحين العودة الى مدلول الكلمة نجدها في العربية تعني من انقطع عن الزواج. وهذه الحال هي ما وصف به أتباع شيث في جبل حرمون قبل أن يخالفوا الوصية، وفق الروايات المختلفة. فهل تكون التسمية من قبل المؤابيين تأكيداً لهذه الرواية؟ إنه خيط من خيوط نسيج تاريخ حرمون والرفائيين، سكانه الأقدمين. * مؤرخ لبناني.