جاءت اتفاقية أوسلو في 1993 أثناء اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، وبسبب فشل سياسة العنف الإسرائيلية وكسر عظام ثورة الشعب الفلسطيني. وبينما كان هدف الحكومة الاسرائيلية من عملية أوسلو تفريغ الانتفاضة الفلسطينية من مكاسبها واغراق القيادة الفلسطينية في عملية سياسية غير مجدية، كان هدف منظمة التحرير الفلسطينية استثمار الانتفاضة وترجمة تضحيات أطفال الحجارة الى مكاسب سياسية على أرض الواقع. وعلى الرغم من إمكاننا القول بأن عملية أوسلو أدت الى تحقيق الأهداف الرئيسية لاسرائيل وخديعة الفلسطينيين، الا ان الواقع السياسي يشير الى حدوث تغيرات في المواقف الشعبية على جانبي الصراع كان من شأنها حصول قناعة متبادلة بحتمية التعايش العربي - اليهودي في المدى الطويل. إلى جانب ذلك، ساهمت عملية أوسلو في توعية الرأي العام العالمي بالقضية الفلسطينية، حيث ساعدته على ادراك حقيقة الوجود الفلسطيني ومعاناة الشعب الفلسطيني وغيره من الشعوب العربية الأخرى من العنف والاحتلال الاسرائيلي. أما في ما يتعلق بالأهداف الفلسطينية التي توخت استثمار الانتفاضة وتحقيق مكاسب سياسية على أرض الواقع تعيد للشعب الفلسطيني كرامته وحقوقه وتساهم في ازدهاره فلم يتحقق منها شيء يذكر. فاضافة الى فشل عملية أوسلو في تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية، شهدت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والوحدة الوطنية، وحتى الحريات السياسية، تراجعاً ملموساً ومؤسفاً منذ بدء عملية أوسلو وحتى الآن. وبينما كانت الأوضاع الفلسطينية عموماً تميل نحو التدهور، كانت سياسة التهويد والاستيطان الاسرائيلية تتسارع باستمرار، وهذا بدوره جعل الموقف الاسرائيلي - اليهودي يزداد قوة، بينما كان الموقف الفلسطيني يزداد ضعفاً. كان من المفترض، بناء على أوسلو، ان تستكمل المفاوضات النهائية بشأن القضايا المعلقة في 1998، وان تكون الدولة الفلسطينية المستقلة بالتالي قد أقيمت واستقرت. إلا أن سياسة اغراق القيادة الفلسطينية في عملية سياسية بطيئة غير مجدية، وتوريطها في اتفاقات جزئية ومراحل انتقالية بلا هدف محدد أديا الى ضياع المزيد من الوقت والجهد والفرص. على سبيل المثال، كان من المفترض، بناء على الاتفاقات المرحلية، أن تواصل القوات الاسرائيلية عمليات إعادة الانتشار، وان تكون السلطة الوطنية الفلسطينية قد فرضت سلطتها على 60 في المئة من أراضي الضفة الغربية عام 1999، كما كان من المفترض أيضاً ان تكون غزة وأريحا قد خضعتا بالكامل للسيادة الفلسطينية كجزء من اتفاقية أوسلو التي وقعت عام 1993. إلا أن الواقع السياسي يشير الى أن عملية إعادة الانتشار توقفت منذ العام 1998، وان ما تم نقله الى السيادة الفلسطينية لا يتجاوز 20 في المئة من أراضي الضفة الغربية وحوالى 60 في المئة من قطاع غزة، وان الانسحاب الاسرائيلي لم يتم أصلاً لا من غزة ولا من أريحا التي قامت اسرائيل بإعادة ترسيم حدودها لتحتفظ بالسيطرة على الجزء الأكبر منها، بما في ذلك مصادر المياه والأراضي. ان قبول القيادة الفلسطينية بالاتفاقات المرحلية وبمبدأ التفاوض حول قضايا النزاع الرئيسية: الحدود والمستوطنات والقدس وحق العودة والتعويض للاجئين، شجع الدولة اليهودية، قيادة سياسية وقوى شعبية، على الاعتقاد بأن بإمكانها إملاء شروطها على الفلسطينيين والتحكم بالتالي بالنتائج النهائية لعملية المفاوضات. ولهذا يلاحظ المراقبون التوسع المحموم في بناء مزيد من المستوطنات، مما أدىا الى مضاعفة عدد المستوطنين تقريباً منذ أوسلو، والتسويف بالنسبة الى تطبيق الاتفاقات المرحلية. اما بالنسبة الى يهود اسرائيل، فإن القبول الفلسطيني بالمرحلية السياسية من دون ربط تلك المراحل بمرحلة نهائية متفق عليها من كلا الجانبين، والسير على وتيرة اسرائيل البطيئة للغاية، ادى الى زيادة التطرف اليهودي داخل فلسطين وخارجها. وبينما اتجهت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة الى التنافس في مجال التطرف، أصبحت الدعوة الى طرد الفلسطينيين وقتلهم واحتقارهم واعتبارهم حشرات دعوة شرعية في مجتمع قام منذ اليوم الأول على العنصرية. ومما يدلل على تعمق العنصرية والتطرف في مجتمع اسرائيل اليهودي وصول اكثر المتطرفين مغالاة الى سدة الحكم. وتشير الأحداث والمواقف على أرض الواقع الى أن الصراع على أرض فلسطين عاد الى سابق عهده، صراعاً بين صهاينة يهود يقف من خلفهم يهود العالم ككل من ناحية، وبين عرب فلسطين ومن خلفهم عرب ومسلمون من ناحية ثانية. لقد اعترف ريتشارد ميرفي أخيراً بأن الأحداث التي تتالت منذ انتفاضة الأقصى ووصول ارييل شارون الى منصب رئاسة الوزارة في الدولة اليهودية حول القضية من مجرد نزاع سياسي الى صراع ايديولوجي - ديني، وبالتالي من نزاع حول حقوق سياسية الى صراع وجود. ان قبول القيادة الفلسطينية برعاية الولاياتالمتحدة المفاوضات من ناحية، وقيام الحكومة الأميركية بتسليم ملف المفاوضات برمته لفريق يهودي من ناحية ثانية أديا الى دعم موقف المفاوض الاسرائيلي على حساب المفاوض الفلسطيني. وبينما سمحت أوسلو لأميركا بالتهرب من مسؤوليتها تجاه قرارات هيئة الأممالمتحدة ومبدأ "الأرض مقابل السلام"، فرض الفريق اليهودي - الأميركي على المفاوض الفلسطيني القبول بوتيرة المفاوضات الاسرائيلية. وفي عهد الرئيس بيل كلينتون أصبح كل المسؤولين الأميركيين المعنيين بالقضية الفلسطينية من أبناء الطائفة اليهودية، بما في ذلك رئيس مجلس الأمن القومي ونائبه، ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، والناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية. ولا يزال دنيس روس، رئيس الفريق الأميركي الذي استقال أخيراً من منصبه بعد 12 سنة متتالية، يرفض كلمة "احتلال" كوصف للوجود العسكري الاسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، اذ يقول ان هناك "سيطرة" اسرائيلية على تلك المناطق. تشير التقارير المتعلقة بالأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في الضفة الغربية وقطاع غزة الى تدهور تلك الأوضاع بشكل ملحوظ يثير القلق. اذ بينما أخذت القبلية والعشائرية تطل برأسها من جديد، ظهرت عصابات تتعامل بالجريمة، خصوصاً السرقة، في الأماكن الفقيرة المكتظة بالسكان. الى جانب ذلك، وفي ضوء تراجع معدل الدخل الفردي الى حوالى نصف ما كان عليه قبل سنوات وانتشار البطالة بشكل واسع، اتسعت الفجوة التي تفصل الأغنياء عن الفقراء بشكل كبير. وحيث ان الفجوة الاقتصادية تعكس أبعاداً ثقافية - اجتماعية، فإن الثقافة الوطنية التي تقوم دوماً بدور الرابط الاجتماعي الذي يربط أعضاء المجتمع الواحد بعضهم الى بعض أخذت في التفكك والتحلل. وليس من شك في أن ثقافة العامة من الناس أصبحت تختلف كثيراً عن ثقافة الأثرياء وأرباب السلطة والمثقفين، كما ان اختلافات ثقافية - قيمية مهمة تفصل سكان غزة عن سكان الضفة، وتفصل الليبراليين عن المحافظين. في ضوء تراجع ثقة الشعب بالسلطة الوطنية وبقدرتها على تحقيق الأهداف الوطنية، خصوصاً الاقتصادية والسياسية، فإن نجاح اسرائيل في الحاق المزيد من الضعف بالمؤسسات الأمنية والقاعدة الاقتصادية - الانتاجية، قد يقود الى تفشي الفساد والجريمة بشكل أوسع. وقد يتبع ذلك قيام الحكومة الاسرائيلية بالتخلص من القيادة الفلسطينية عن طريق الطرد من الوطن أو التصفية وكشف ملفات الفساد لتبرير ذلك العمل. وهذا من شأنه، في حال حدوثه، دخول الوطن والشعب مرحلة من الفوضى تسيطر عليه وتديرها عناصر فاسدة غير وطنية، خدمة لمصالح شخصية. وهذا يستوجب، قبل فوات الأوان، رسم وتنفيذ استراتيجية سياسية - اعلامية تتجاوز أوسلو وتعيد للشعب ثقته بنفسه وبقيادته، وتساعد القيادة على استعادة قدرتها على المناورة السياسية والبناء الوطني. * كاتب فلسطيني مقيم في واشنطن.