كان محمد زفزاف، كما درج على تسميته محمد شكري وبعض رفاقه الآخرين، "كاتباً كبيراً" بحقّ. واذ كانوا يصرّون على هذه التسمية مشدّدين على "أل" التعريف فإنما اعتراف بريادته القصصية والروائية وبالمكانة التي تبوّأها في المغرب والعالم العربيّ. ولم يُخفِ هذا الاعتراف أيضاً اعجاباً بنزاهته ونبله، هو الذي نذر حياته كلّها للأدب قراءةً وكتابةً. ولعلّ عينيه المتوقدتين والمعتكرتين قليلاً، ولحيته المسترسلة ونظراته الحادّة كانت توحي بوجه رجل هو أقرب الى الأشخاص المتمردين والهامشيين الذين لا يأبهون ببريق الحياة والمجد والترف. رحل محمد زفزاف من غير ان يكمل السادسة والخمسين من عمره، وقد أمضى معظمه بين الكتب والأوراق. فهو كان كاتباً نهماً وقارئاً نهماً، غالباً ما دافع عن غزارته في الكتابة عبر المقارنة بينها وبين الحياة، فالتوقف عن الكتابة كان يعني له التوقف عن الحياة نفسها. والذين عرفوا زفزاف عن قرب يدركون جيداً ان هذا الكاتب الشرس والمتمرد لم يمت الا عندما عجز عن ممارسة شغفه الكبير: الكتابة. فهو ظلّ يقاوم المرض الخبيث بشدّة، ورجاؤه ان يتمكن منه ويقهره عبر اللغة والكلمات. لكنّ المرض غدر به فغادر كما لم يكن يتمنى أن يغادر يوماً. ولئن كان العاهل المغربي أرسله قبل أشهر الى باريس على نفقته ليخضع للعلاج الطويل، فإنّ هذا الكاتب لم يكن مرة مقرباً من السلطة مثلما لم يكن مرة من أعدائها أو من المتمردين عليها. لكنه في الوقت نفسه لم يلتزم أي حزب أو تيار سياسيّ، بل كان ملتزماً على طريقته "اليسارية" المثالية والانسانية، حالماً بمستقبل يسوده العدل والحرية. حتى واقعيته لم تكن تلك الواقعية المباشرة أو الملتزمة في المعنى السياسي، بمقدار ما كانت واقعية حيّة ومتخيلة، طالعة من عالم المقهورين والمشردين ومن الخيبات الصغيرة والهزائم التي يعيشها المواطنون يومياً. وكان زفزاف على غرار معظم الكتّاب الذين جايلوه، يدمج بين الذاتي والموضوعي، بين الشخصيّ والعام مقترباً من السيرة الذاتية التي تستوحي حياته الخاصة كفرد وحياة الناس كمجموعة. وكان يصرّ على انتمائه المغربي وعلى تجذّره في تربة المغرب، ولكن من خلال الانفتاح على العالم والحوار مع الآخر سواء كان المشرق العربي أم الغرب الأوروبي. ومنذ بداياته آثر محمد زفزاف ان ينشر خارج المغرب، في اطلالة على المشرق العربي ومصر وسواها. فراح بدءاً من أواخر الستينات، ينشر قصصه في "الآداب" اللبنانية و"المعرفة" السورية و"المجلة" المصرية. وباكورته القصصية وعنوانها "حوار في ليل متأخر" صدرت في دمشق، أما روايته الأولى "المرأة والوردة" ففجرّت عليه بعض المتاعب حين نشرها في المغرب عام 1972، وما لبث ان اعاد طبعها في بيروت في دار "غاليري 1" التي كان يشرف عليها الشاعر يوسف الخال. ينتمي محمد زفزاف الى الجيل المؤسس في الحركة الروائية والقصصية المغربية، جيل ما بعد الاستقلال. وكان يحلو له ان يردّد أنّه ينتمي الى جيل بلا آباء. فالمحاولات القليلة التي برزت سابقاً لم تكن تؤلف "تراثاً" روائياً أو قصصياً، وكان على الجيل الجديد، جيل ما بعد الاستقلال أن يشرع في مهمة التأسيس. واختار هذا الجيل العربية لا لغة تعبير فحسب وانما لغة انتماء وتجذر على خلاف الكتّاب المغربيين الفرنكوفونيين الذين ثابروا على الكتابة بالفرنسية، لغة المستعمر سابقاً. كتب محمد زفزاف كثيراً من القصص، والروايات القصيرة وأعماله الكاملة بلغت أربعة أجزاء وكان يقول دوماً انها ناقصة. فهو لم يتوقف عن الكتابة حتى في أعوام المرض، عندما لزم دارته معتكفاً الى أوراقه وآلامه. ودارته كانت مفتوحة أمام الجميع، كتّاباً وصعاليك ومشرّدين ومتمردين كانوا يزورونه ويقيمون عنده من غير ان يشعر يوماً أنهم غرباء عنه أو فضوليون. فهو سليل هذه الفئة من المجتمع أو هذه الطبقة من الناس، يستوحي همومها ومآسيها غير آبه بالمحظورات والمحرّمات التي كان يواجهها بجرأة نادرة. لكنه كان يميز بين الكتابة الجريئة والكتابة "الفضائحية" مؤثراً الأولى، ومعتبراً الثانية كتابة عابرة سرعان ما تنتهي. ولعل فرادة زفزاف تكمن أيضاً في لغته، علاوة على موضوعاته وتقنياته. وكان يسمي لغته باللغة العربية الثالثة التي تجمع بين الفصحى والعامية، فلا تُغرق في فصاحتها الخالصة ولا تقع في الركاكة العامية. ولعلها لغة وسطى تخاطب أهل النخبة والقراء العاديين في آن.