موجته الاذاعية مضبوطة على إرسال اذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية، فيما هو يجلس بالقرب من الشرفة المطلة على زقاق بن منير، حيث أطفال حي المعاريف في الدار البيضاء يمارسون شغبهم اليومي. سألت أحد هؤلاء الأطفال عن بيت زفزاف فبادرني بسؤال حول ما إذا كنت أحمل عود ثقاب، أجبته أنني لا أدخن، فقال لي وهو يبتعد أن زفزاف يقطن في الطابق الثاني، كما لو كان يتحدث عن صديق طفولة. وفي الآونة الأخيرة لا يكاد زفزاف يغادر بيته: "آكل القوت ولا أنتظر شيئاً. لن أموت". يردد بتهكم. في كلام زفزاف سخرية لاذعة من كل ما يحيط به. في نظره ليس هناك شيء غير قابل للسخرية. حتى النهاية في ما هي قدر طبيعي يفضل زفزاف أن يتحدث عنها كشيء يحدث فقط للآخرين. أما هو فلن يموت. ربما يقول ذلك فقط ليخيب انتظار القارئ كما يصنع في جل نصوصه. يحب زفزاف أن يردد أنه لم يحقق ثروة بفضل كتبه كما حدث مع بعض أصدقائه الكتاب، لكنه يبدو متصالحاً مع العالم لأنه على الأقل يملك منزلاً متواضعاً يستطيع أن يأوي اليه وأن يستقبل فيه أصدقاءه وبعض الصحافيين الذين يفدون الى الدار البيضاء بحثاً عن كاتب نحيل كانت لديه لحية تشبه لحية برنارد شو. أصدر محمد زفزاف أخيراً مجموعته الروائية الكاملة في مجلدين في سلسلة منشورات وزارة الثقافة المغربية. محمد زفزاف. هل هذا هو اسمك الحقيقي؟ - في الأوراق الرسمية هذا هو اسمي المتداول. أما الاسم الحقيقي فهو خصال التهامي الفرداني العامري. هناك كتاب يأتون الى عالم الكتابة من مهن وحرف مختلفة لا علاقة لها بالكتابة، كيف وجدت نفسك داخل هذا العالم؟ - مثل معظم الكتاب شرعت في إنجاز خربشات في مرحلة الثانوي لكي اشتهر، وبدأت النشر وأنا تلميذ في الثانوي على صفحات مجلة "آفاق" ومجلة "الأطلسي" وجريدة "العلم". بدأت لعبة الكتابة أولاً كإثبات للذات، لكنها أصبحت مع المدة إلزاماً والتزاماً في الوقت نفسه. الكتاب الذين أتوا الى عالم الكتابة من خارجها كثيرون. أستطيع أن أذكر لك على سبيل المثال حنا مينه الذي كان حلاقاً، وزكريا تامر الذي كان حداداً، وجمال الغيطاني الذي كان يشتغل في أحد معامل النسيج، والمرحوم مبارك الدريبي الذي كان مجرد موظف في وزارة المالية ثم انتقل الى المطاحن. وبالمناسبة فهو كان أحد تلامذتي الذين كنت أدرسهم في الليل. لكنني أعتقد أن معظم الكتاب المغاربة ينتمون الى سلك التدريس. هل هناك شخص أو كاتب بعينه أثر فيك ودفعك الى الكتابة؟ -كنت أقرأ كثيراً. بالنسبة إليَّ كانت العطل المدرسية دائماً فرصة مؤاتية لتجديد الصلة بغابة المعمورة التي كنت أذهب اليها بكتب كثيرة تحت الإبط. كانت الكتب الفرنسية كتباً زهيدة الثمن آنذاك. كنت أقضي النهار كله في القراءة. وهكذا فكرت بيني وبين نفسي أن أصبح كاتباً. لا يمكن أن أقول لك إنني تأثرت بهذا الكاتب أو ذاك لأنني قرأت لمجموعة من الأسماء. لست مديناً لأحد بما أنا عليه. لماذا بنظرك نفتقد في المغرب الى الكتاب الحدث على غرار ما يحدث مثلاً في أوروبا وأميركا؟ - لنأخذ مثلاً كتاب "الخبز الحافي" لمحمد شكري، فهذا كتاب أحدث ضجة لأنه كان لطمة في وجه الذوق العام. وفي السابق كان هناك كتاب "النقد الذاتي" لعلال الفاسي، حتى أن صداه كان وصل الى المشرق، وربما تحدث سلامة موسى عن هذا الكتاب. الكتب التي تثير ضجة الآن هي كتب فاطمة المرنيسي. ولكن أنا شخصياً لست مع هذا النوع من الكتب. لأنها تكون كتباً عابرة، وهذا شيء معروف في تاريخ الأدب العالمي. بالمقابل هناك كتب لم يكن لها وزن ذات وقت وتم اكتشافها في أزمنة لاحقة وأصبحت كتباً ذات تأثير كبير. يرددون أن زمن الشعر انحسر ليفسح المجال للرواية. ما صحة هذا الزعم في المشهد الإبداعي المغربي؟ - هناك من يقول ان هذا زمن الشعر، وهناك من يقول العكس. فكل فريق يدافع عن حدود مملكته. ولكن إذا أردنا ان نصدر حكم قيمة فسنقول إن الأدب الحقيقي سواء كان نصاً مسرحياً أو قصيدة أو قصة قصيرة فإنه يبقى خالداً. على سبيل المثال أقول لك إن القصة القصيرة في فرنسا انحسرت. لأنه لم يعد هناك كتاب قادرون على كتابة القصة القصيرة باستثناء بعض الأسماء. وحاولت ترجمة بعض هذه القصص، ونشرت في المجلات العراقية. إن القول ان هذا زمن الشعر أو الرواية يعتبر تجنياً على الأدب. هل تقرأ انتاجات الشعراء المغاربة؟ - بالتأكيد أقرأ، وأتتبع المنشور منه داخل المغرب وخارجه. ولكن لا تسألني عن الأسماء المفضلة لدي. ولكن استطيع ان أقول لك إنني مسرور من كل ما أقرأ. خصوصاً الأسماء الجديدة. بعض نصوص هؤلاء أجدها مدهشة بالفعل، وأحياناً أجدها متفوقة بكثير على نصوص بعض الشعراء المشارقة الذين يطبل لهم النقاد المغاربة وهم يجهلون أن لدينا شعراء أحسن منهم. هذه عقدة. تجربة المرض تجربة اساسية في مغامرة الكاتب الابداعية. فهي في نظر نيتشه الطريق نحو الصحة الكبرى، هل وصلت بعد كل هذه المعاناة الى هذه المحطة؟ - جواب: على كل حال تجربة المرض تجربة غنية وثرية. وأنت تعرف أنني رجل مؤمن بالله، وإن كان البعض يعتبر الايمان مجرد تخلف. تجربة المرض كانت بالنسبة اليَّ اختباراً للآخرين أكثر مما كانت اختباراً لي. حتى أن بعض الاصدقاء كانوا يخشون الاتصال بي كأنني كنت سأكون عالة عليهم. هذا امتحان من طرف آخر جعلني أشفق على الآخرين أكثر من اشفاقي على نفسي. ثمة من ينعت كتابة زفزاف في كونها كتابة واقعية ومبسطة مبنية على تناقضات المجتمع المغربي والتباساته السوسيوثقافية؟ - كتب الكثير عن أعمالي، وهناك وجهات نظر مختلفة، فكل واحد يصنف هذه الأعمال بحسب منظوره النقدي. ولكن آخر رأي سمعته في سوق أربعاء المغرب عندما أقيم لي حفل تكريم بمبادرة من صديقي عبدالله ساعف. قال هذا الأخير شيئاً أذهلني. قال ما معناه ان العولمة لن تقضي على كتابة محمد زفزاف وأن من يقرأ أعمالي يتعرف على جميع شرائح المجتمع المغربي. وأذهلتني هذه الملاحظة الذكية. بعد نشر وزارة الثقافة أعمالك الكاملة، هل ترى أن الوقت حان للشروع في تجربة كتابة سيرتك الذاتية؟ - على كل حال ما نشرته وزارة الثقافة مشكورة لا يمثل أعمالي الكاملة، وإنما يمثل بعض الكتب المنشورة. لأنني نشرت مسرحيات وكتباً مترجمة كثيرة سواء أكانت تتعلق بالرواية أو بغيرها. ثم هناك بعض النصوص التي لم أجمعها والتي نشرت في المجلات العربية "كمواقف" و"فصول" "وآفاق". لذلك فوزارة الثقافة جمعت كتبي التي سبق أن نشرتها في المغرب وبعض العواصم العربية والتي انقرضت من السوق. أما السيرة الذاتية فأنا لا أفكر في كتابتها وان كان بعض الأخوة يستدرجونني لكي أمليها على الأقل. فأنا أقول ان هذه والحوارات التي أعطيها بين حين وآخر كافية لإلقاء الضوء على جوانب من سيرتي الشخصية. تقاضيت حقوقك كمؤلف؟ - تقاضيت دفعة أولى وأنا بانتظار ما تبقى. وأنا أعرف أنني سأتقاضى حقوقي كاملة لأن وزارة الثقافة ليست دار نشر. وهي مؤسسة لها التزاماتها تجاه الأشخاص الذين تنشر لهم. وخلاف بعض دور النشر المغربية والعربية التي طبعت وأعادت طبع كتبي والتي كان أصحابها مجرد لصوص محترفين. عندما يجلس محمد زفزاف الى طاولة الكتابة، من يتكلم فيه الطفل أم الرجل؟ - عندما اكتب يكون هناك شخص أخر هو الذي يكتب. شخص لا أعرفه. ربما كان الطفل، أو ربما كان الرجل. أو المرأة؟ - ممكن جداً، هذا كلام قاله عبداللطيف اللعبي... يمد يده الى ركام الكتب الذي يوجد الى جانب الكرسي الذي يجلس عليه ويسحب ديواناً بالفرنسية لعبداللطيف اللعبي ثم يقرأ يقول اللعبي في قصيدته "الشاعر المجهول": ثم من يقول لي انني كنت بالفعل امرأة، وانني لم أعرف رجلاً لأنني كنت قبيحة المنظر أو كنت من دون جاذبية في نظر الرجال هل ضربت من أجل شيء اقترفته؟". على العموم عندما أجلس للكتابة يكون هناك شخص آخر. هل أنت متصالح مع هذا الشخص؟ - أكون راضياً عنه عندما يكتب أشياء جميلة. وأحياناً عندما أعيد قراءة ما كتب ذلك الشخص أصاب حقيقة بذهول. أخيراً قرأت شابة احدى قصصي وهي "النباش" من المجموعة الكاملة، وأنا نسيت هذه القصة، فأخذت أضحك لأنني لم أتعرف على كاتب القصة. ذهلت وقلت هل أنا الذي كتب هذه القصة بالفعل؟ كيف ترى حركة النشر في المغرب؟ - كثيرة هي دور النشر في المغرب. في الستينات لم تكن هناك أي دار نشر تنشر الإبداعات. كلهم كانوا ينشرون الكتب المدرسية. الآن كثرت دور النشر وأنا في طبيعة الحال لا أتعامل معها كلها ولا أستطيع ان أصدر احكاماً جاهزة. ولكن بخصوص بعض الناشرين الذين تعاملت معهم هناك من أنصفني وهناك من أكل حقوقي. أنا لا أبتغي جمع ثروة من خلال كتبي. هدفي الأول هو الكتابة لكي نبلغ بهذا الشكل الرسالة، مع أن الرسالة من شأن الأنبياء... ونحن ندلي بدلونا ونتمنى أن نكون على الأقل الى جانب الأولياء. تعتقد أن من الممكن لكاتب محترف ان يعيش من كتابته في المغرب؟ - لا أعتقد، ولكن هناك حالات خاصة، مثل حالة شكري مثلاً، في المغرب هناك أزمة قراء، صحيح أن كتبي تباع، ولكن أين مردودها؟هذه هي المشكلة التي تحول بينك وبين أن تعيش من كتبك. أحياناً أجدني مضطراً اضافة الى الاعتماد على عائدات كتبي، الى الكتابة في بعض المجلات لكي أستعين بما أحصل عليه في الاستمرار في هذه الحياة. أنا مضطر للكتابة في هذه المجالات. لأن الجرائد الحزبية في المغرب لا تدفع. وأنا آسف جداً لأن بعض المسؤولين في هذه الجرائد وهم أصدقائي ما زالوا يتصورون أننا ما زلنا نعيش في الستينات وأننا ما زلنا نناضل. في الواقع لست أدري ضد من، لأنه على الأقل في الستينات كنا نعرف خصومنا جيداً. يجب على هؤلاء ان يعطوا الصحافي أجراً محترماً حتى لا يتحول الى متسول. أنا أقول هذا للصحافة الحزبية لأنها يجب ان تعرف، وهذا كلام وجهته ذات يوم من طريق جريدة "البيان"، أنها رأسمال كبير لو أن هذه الأحزاب عرفت كيف توظف وسائل الاعلام توظيفاً سليماً. وأنا أريد بهذا الصدد أن أوجه رسالة الى هذه الصحافة الحزبية مفادها أنها يجب عليها ان تطور نفسها وأن تكف عن الاعتماد على "الإخوة المناضلين" لأن كل الناس يدّعون النضال هنا. فأنت تفتح غداً جريدة وتجد أن كل المحررين أصبحوا مناضلين. الكل أصبح يناضل من الميثاق الوطني الى العلم ومن الحركة الى البركة... يبدو أنه اختلط الحابل بالنابل. هل هناك حقاً قطيعة بين الجيل الذي تنتمون اليه والأجيال اللاحقة؟ - لا أعتقد ان ثمة قطيعة. أنا شخصياً التقي بالكتاب الشباب وأقدر ما يكتبون. هناك طبعاً الكاتب الجيد والكاتب الرديء. ما يبعث على الألم هو أن تسمع مثلاً بعض الكتاب الشباب يقول: "نحن تجاوزناكم". نحن لم نبدأ بعد لكي يتم تجاوزنا. شيء من التواضع يبقى ضرورياً دائماً. أنا أحترم من هم أكبر مني سناً على رغم أنني غير متفق مع ما كتبوه. اذاً لا حاجة الى قتل الأب؟ - لا، لا حاجة الى ذلك لأن القطيعة غير موجودة. وأقول من دون وصاية أن التواضع شيء نبيل. شخصياً هل حاولت التنبيه الى كاتب شاب رأيت فيه موهبة لافتة؟ - مجموعة من الأسماء. وآخرهم ما زال يذكر الأمر أمام الناس، وهو صلاح الوديع. هناك أسماء كثيرة أخذت بيدها لا داعي لذكرها. ساعدت الكثيرين من أجل النشر خارج المغرب. ذات مرة قلت لمحمد برادة عندما كان رئيساً لاتحاد كتاب المغرب، وكان استطاع نشر ثلاثة كتب أو أربعة خلال فترة رئاسته، أنني استطعت أن أنشر للكتاب المغاربة أكثر مما استطاع اتحاد كتاب المغرب أن يصنع. طبعاً هناك من وفق وهناك من لم يستمر في مغامرته الابداعية. وضعت أيضاً مقدمات لكتبهم... قدمت كتباً لإدريس الصغير، للطوبي، للجماهري ولمجموعة من الأسماء. ووضعت أخيراً مقدمة بالفرنسية على رغم أنني ضد الفرنكوفونية، لقصاص اسمه عبدالرحمن نزيه... يجب ان نشجع. من هم الكتاب المغاربة الذين تقرأ لهم؟ - أحاول ان أتابع ما يصدر. وأحياناً لا أستطيع صراحة أن أتابع القراءة. 24 ساعة وقت جد ضيق ولا أستطيع أن أضيع وقتي في قراءة أشياء سخيفة. وأنت معي في البيت ترى ما ترى من الأسماء العالمية الرائعة. كيف أتركها وأضيع وقتي في قراءة السخافات؟ هل تعتقد مثلاً أن أحمد المديني كاتب جيد؟ - آه... لا تثرني، كتبت له اهداء وعبرت له فيه عن وجهة نظري. لا أريد التحدث في صدد أي كاتب عربي أو مغربي. لا أريد مشاكل مع الآخرين. ترجمت كتبك الى لغات عالمية كثيرة، ما هي اللغة التي لم تكن تنتظر ان تترجم اليها؟ - الكردية... نشرت "محاولة عيش" بالكردية. كما أنني لم أكن انتظر ان اترجم الى النرويجية، وحصل ذلك مع كتاب "الشجرة المقدسة". وترجمت الى الأمازيغية كذلك. حدث ذلك مع قصة "جيمس جويس" التي ترجمت الى السوسية. كم تدفع دار نشر أجنبية مقابل نشر أو ترجمة كتاب لمؤلف مغربي؟ - الأمر يختلف بحسب دار النشر. ولكن أستطيع ان أعطيك مثالاً، صدر لي كتاب "ملك الجن" في ليبيا. و"ملك الجن" مجموعة قصصية، هذه القصة التي تحمل المجموعة عنوانها نشرتها للمرة الأولى في السعودية بعنوان "شمهروش"، فتقاضيت عن هذه القصة أجراً لا بأس به. وعندما ترجم "ملك الجن" الى الألمانية تقاضيت عن الترجمة تعويضاً محترماً. ولكن عندما تم طبع الكتاب هنا في المغرب، الكتاب ككل، تقاضيت عنه عشر ما تقاضيته عن قصة واحدة. هذه دور النشر المغربية. أنت صاحبت هذه المدينة خلال تحولاتها الكثيرة في الزمن، هل ترى من خلال ما كتب حول الأمكنة ان هناك من استوعب هذه الكيمياء العجيبة وأنتج نصاً مختلفاً عن الدار البيضاء؟ - صدر كتاب عن الدار البيضاء شارك فيه حوالى 12 كاتباً بالفرنسية والعربية وكنت واحداً منهم. وكتبت عن حي المعاريف، وصدر الكتاب عن دار نشر الفينيك. الدار البيضاء مدينة شاسعة وشرسة... ببساطة شديدة. ما الذي يشدك الى حي المعاريف؟ - ربما العادة. عندما أكون خارج المغرب أتذكر هذه الشرفة وهؤلاء الأطفال الذين يلعبون تحت النافذة، وأتذكر هذه المدرسة حيث يدرس كل هؤلاء الأبرياء... أشعر بحنين قوي الى هذه المشاهد عندما أغادر المعاريف. ما الذي يربطني بهذا المكان؟ لا أعرف.