المؤكد أن بنوداً اساسية في اتفاقية واشنطن التي قضت بوقف الإقتتال الداخلي الكردي تحت رعاية الوزيرة السابقة للخارجية الأميركية مادلين أولبرايت في أيلول سبتمبر 1997، ما تزال بعيدة عن التطبيق. والمؤكد أيضاً أن تفسيرات الحزبين الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، والوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني، تتباين في مسائل شتى عند الحديث عن أسباب التلكؤ في تطبيق البنود، على رغم إنقضاء أكثر من ثلاث سنوات على توقيع الإتفاقية. لكن مع هذا يلاحظ أن الأكراد المتمهّلين أو المتباطئين، إن صحّ القول، في توقيع سلام نهائي، ينهمكون بجد وحماس في بناء شروطه وثقافته ومستلزمات إدامته قبل توقيع أي بيان مهرجاني قد لا يتجاوز حدود الورقة التي يُكتب عليها. في هذا الشأن، تصح الإشارة الى جملة مسائل: الأولى، وقف الحملات الإعلامية وتحظير نشر ثقافة الصراع المسلح في أدبيات الحزبين ووسائل إعلامهما، مع الحرص على حل المشكلات التي تنشأ عبر القضاء أو الحوار أو اللجان المشتركة. ولا أدل من الإشارة الى دعوة قضائية أقامتها إحدى وزارات الحكومة الكردية في أربيل قبل نحو شهر على صحيفة اسبوعية تصدر في السليمانية لنشرها مقالاً اعتبرته الوزارة مسّاً بشخصيتها الإدارية والقانونية. هذا من دون أن تنجر الوزارة المدّعية، أو حكومة أربيل، أو الحزب الديموقراطي الكردستاني ووسائله الإعلامية الى المهاترات الكلامية. والثانية، الرغبة الواضحة لدى الحزبين في حلّ مشكلاتهما عبر الجهود الذاتية المباشرة من دون الإلتجاء، قدر الإمكان، الى أطراف ثالثة كالولاياتالمتحدة أو تركيا أو ايران، لمساعدتهما في حلّها. وعلى رغم أن الولاياتالمتحدة هي الدولة الراعية لإتفاقية السلام بين الحزبين، إلا أن الواضح معرفتهما بأن السلام الأهلي شأن داخلي لا يتقن صنعه غير المعنيين به مباشرة. في هذا الصدد، يلاحظ تراجع دور الوسيطين الأميركي والتركي في الحوار الكردي الكردي من جهة. وتزايد فرص إعادة الثقة بين الحزبين نتيجة تعاملهما اليومي المباشر من جهة ثانية. والثالثة، إعطاء الأولوية في حل المشكلات للأمور التي تتصل بحياة الناس ومصائرهم وأوضاعهم. هنا، تصح الإشارة الى شروع الحزبين في حلّ مشكلة العوائل المهجّرة نتيجة سنوات الإقتتال الداخلي 1994-1997 والسماح بعودتها في موجات منتظمة، مع التزام كل طرف توفير جميع المستلزمات المعيشية والوظيفية لأفرادها. وقد بدأت الخطوة الأولى قبل أسابيع حين عادت موجتان من المهجرين من أربيل الى السليمانية وبالعكس. والرابعة، رفع الحواجز الأمنية وقيود التنقل بين منطقتي نفوذ الحزبين، وتشجيع تنقّل الأدباء والفنانين والصحافيين والأكاديميين بين المنطقتين من دون مضايقات. والتزام الحزب الديموقراطي دفع رواتب منتسبي الدوائر والعاملين في الأجهزة الإدارية في منطقة نفوذ حزب طالباني 13 مليون دينار شهرياً، وذلك من عوائده في جباية الضرائب عن تجارة النفط بين العراقوتركيا. الخامسة، إيلاء إهتمام خاص بتطوير الحياة الاقتصادية وتعمير القرى وتحديث الوسائل الزراعية وإقامة المعامل أو تجديدها، إضافة الى بناء الوحدات السكنية وتشييد السدود الصغيرة والجسور ومشاريع للري وتبليط الشوارع. هذا إضافة الى تشجيع اقتصاد القطاع الخاص وتوفير فرص العمل وتوفير التسهيلات المشجعة على جذب الإستثمارات الأجنبية أو الكردية المهاجرة. في هذا الخصوص، يمكن التذكير بنجاح وزارة التربية في أربيل ووزيرها عبدالعزيز طيب في نشر المدارس في جميع القرى بما فيها النائية وفق الشروط التعليمية الحديثة، والتخطيط لإدخال الكومبيوتر مع بداية العام الدراسي المقبل الى التعليم الثانوي بعد نجاحه في الجامعات والمعاهد. ويشار الى أن الجامعات الكردية وهي ثلاث ترتبط الآن بشبكة الإنترنت، إضافة الى قرار الوزارة إدخال تدريس مادة الكومبيوتر في المرحلة الثانوية. السادسة، ملاحظة التوجه نحو تعميق النشاطات الثقافية وتوسيع نطاقها وإطلاق حرية الصحافة والتعبير وإقامة المنظمات والنقابات والمؤسسات المستقلة للإهتمام بالنشاط الثقافي بكل أشكاله. ولا أدل على ذلك من الإشارة الى المجمع الضخم الذي يجري بناؤه وفق طراز حديث لقصر الفنون في أربيل. كذلك تزايد ظواهر عقد الندوات والحلقات الدراسية والمؤتمرات المتخصصة التي يجري عقدها في المدن الكردية، إضافة الى العدد الكبير من المطبوعات والصحف والمجلات التي تصدر خارج إطار المؤسسات الحكومية، من دون وجود الرقابة السياسية المعروفة في أغلب بلدان الشرق الأوسط، عدا دور القضاء في بتّ قضايا التجاوزات الصحافية. من دون شك، تلعب الحصة المخصصة للمناطق الكردية من عائدات برنامج النفط مقابل الغذاء دوراً مهماً في تفعيل الحياة الإقتصادية وتلبية الحاجات المعيشية في المناطق الخارجة عن سلطة بغداد، ما يفضي الى التحولات اللافتة على صعيد التربية والتعليم والثقافة والنشاطات الإنسانية الأخرى. لكن الأرجح أن نجاح البرنامج في أداء واجباته يعود في جزء رئيسي منه الى قرار الإدارة الكردية في أربيل عدم التدخل في آليات البرنامج، ما عدا التنسيق الإداري المحض مع وكالات الأممالمتحدة وإدارات البرنامج في أربيل ونيويورك، إضافة الى إقتراح المشاريع وتقديم دراسات الجدوى وتسهيل إنسياب وصول المواد الانسانية وتوزيعها من دون تولي مسؤولية التوزيع المباشر. والواقع أن مسؤولي الحكومة المحلية يشتكون من أن البرنامج كان يمكن تطويره في شكل كبير لو بدأت الأممالمتحدة بتطبيق وعدها الخاص بشراء القمح والمواد الزراعية من الاسواق الكردية المحلية، بدل الإعتماد على شرائها من أسواق خارجية بعيدة وصرف مبالغ كبيرة من عائدات البرنامج على نقلها الى كردستان العراق. لكن على رغم هذه الشكاوى والإنتقادات، فإن المسؤولين الأكراد بادروا في ظلّ الإنهماك الحاصل في ترتيب البيت الإقتصادي الداخلي، الى شراء المحاصيل الزراعية من الفلاحين مباشرة ومحاولة إيجاد أسواق لبيعها خارج المناطق الكردية. وكان رئيس حكومة إقليم كردستان العراق نيتشيروان بارزاني واضحاً في التعبير عن عزم حكومته عدم الإكتفاء بإنتقاد آليات عمل الأممالمتحدة، بل المبادرة الى حل مشكلة المحاصيل الزراعية في المناطق الكردية عن طريق شرائها. وحين تتحدث الآن الى المسؤولين الأكراد، يدهشك أن هؤلاء الذين انهمكوا طوال ثلاثين عاماً في الحروب الجبلية والكفاح الريفي المسلح ضد الحكومة العراقية، ومن ثم أكملوا ذلك بصراع داخلي دموي إستمر نحو أربع سنوات، يعرفون أن المهم في عملية السلام ليس توقيعه وإقامته، إنما المهم ثقافته. ويدركون أن أحد أهم الاسباب التي دفعتهم الى الإقتتال هو البؤس الإقتصادي المدقع الذي عاشته مناطقهم نتيجة الممارسات الحكومية العراقية من جهة، والعقوبات الدولية منذ غزو العراق لدولة الكويت في آب أغسطس 1990 من جهة أخرى، معتبرين أن جزءاً أساسياً من عملية قطع الطريق على نشؤ الصراعات وأسبابها، يكمن في تنشيط الإقتصاد وتحسين الأحوال المعيشية للناس. من دون شك، لا يعني هذا الكلام أن الخلافات لم تعد قائمة بين الحزبين. ولا يعني أن الوضع السياسي الكردي لا يعاني غموضاً في بعض مواقفه، وهشاشة لافتة في وضعه الداخلي والإقليمي والدولي. كما لا ينفي هذا الكلام إمكان تعرض عملية السلام بين الأكراد المحصورين ضمن مربع قاس أضلاعه العراقوتركياوايران وسورية، الى إنتكاسة مفاجئة. لكن الأرجح أن مواصلة الحزبين الكرديين نهج تثبيت ثقافة السلام وتطوير الحالة الإقتصادية والثقافية في المجتمع الكردي ستقلّص أولاً والى اقصى حدٍّ ممكن، إحتمالات العودة الى الصراعات الداخلية. وتزيد ثانياً والى أقصى حدّ ممكن أيضاً، فرصة تحقيق أمنهم واستقرارهم وطموحاتهم في حياة حرّة ومزدهرة.