يعيش إقليم كردستان العراق الذي هو أشبه بدولة، في ظل فراغ رئاسي منذ أكثر من شهرين بعد انتهاء مدة التمديد للرئيس مسعود برزاني، منذ ذلك الوقت عقدت الأحزاب الكردية ثماني جلسات من دون أن تتوصل إلى اتفاق في شأن الخروج من أزمة الرئاسة، فالحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يرأسه برزاني متمسك بترشيحه لولاية ثالثة فيما دستور الإقليم يمنع شغل هذا المنصب لأكثر من ولايتين، في المقابل الأحزاب الكردية الأربعة (الاتحاد الوطني الكردستاني – حركة التغيير – الاتحاد الإسلامي الكردستاني – الجماعة الإسلامية) تطالب برزمة إصلاحات سياسية، لعل أبرزها الانتقال من النظام الرئاسي إلى البرلماني وإيجاد آلية جديدة لانتخاب الرئيس (من داخل البرلمان) وتقليص صلاحياته، ويعتبر الحزب الديموقراطي انه المستهدف من عملية الإصلاح ويتمسك في المقابل بالانتخاب المباشر من الشعب. وهكذا انتقل الصراع على أزمة الرئاسة إلى داخل البرلمان في شكل استقطاب حاد أدى إلى شلل في مؤسسات الإقليم وبروز دعوات لانفصال السليمانية عن أربيل وتشكيل حكومة محلية فيها، حيث الحساسية التاريخية والثقافية والسياسية بين الحزب الديموقراطي الذي يتخذ من أربيل معقلاً وحزب الاتحاد الوطني بزعامة جلال طالباني الذي يتخذ من السليمانية معقلاً تاريخياً له. لا يمكن النظر إلى الخلافات في شأن أزمة رئاسة الإقليم كردستان بعيداً عن قضية الزعامة التاريخية للأكراد، إذ تعتقد العائلة البرزانية والتي اكتسبت زعامتها من نضالها التاريخي في قيادة الحركة الكردية ونفوذها العشائري الكبير بأحقيتها في رئاسة الإقليم، خصوصاً بعد الاتفاق الاستراتيجي بين الحزبين الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني عام 2007 والذي أقر بأن كرسي رئاسة الإقليم من حصة الحزب الديموقراطي مقابل أن تكون رئاسة الجمهورية في العراق من حصة الاتحاد الوطني الكردستاني. كما يرى البرزاني أن مشروعية تطلعه إلى ولاية رئاسية جديدة تنبثق من شعبيته التاريخية ومن الظروف الأمنية التي يمر بها الإقليم في الحرب الجارية ضد داعش، فضلاً عن ما يعتبره نجاحاً شخصياً له لجهة جلب الدعم العسكري من الغرب لقوات البيشمركة الكردية، لكن المشكلة أن الجيل الكردي الجديد بات يرى أن زمن القيادة العشائرية آن له أن ينقضي، وأن الأكراد بلغوا مرحلة من النضج السياسي لتأسيس نظام سياسي جديد يليق بالتطور الحاصل في كردستان بدلاً من نظام المحاصصة الحزبية، ولعل الأحزاب الكردية الأربعة تريد استثمار هذا العامل سواء لتحقيق إصلاحات في النظام السياسي السائد في الإقليم أو لتحسين مواقعها السياسية في ظل شكوى هذه الأحزاب من سيطرة الحزب الديموقراطي على مقاليد السلطة والثروة في الإقليم، فإلى جانب شغل مسعود رئاسة الإقليم يشغل ابن شقيقه نيجيرفان رئاسة الحكومة ونجله مسرور رئاسة مجلس الأمن القومي الذي يشرف على الأجهزة الأمنية والقوات الكردية ( البيشمركة). تفجر أزمة الرئاسة في شكل استقطاب حزبي وسياسي أعاد إلى الأذهان الصراع التاريخي بين الحزبين الرئيسين، أي الاتحاد الوطني والديموقراطي الكردستاني، وعند الحديث عن هذه الخلافات تتجه الأنظار إلى إيران من خلال اتهامها بدعم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني في مواجهة برزاني وحزبه، فيما الثابت أن ثمة علاقات تاريخية لإيران بمنطقة السليمانية لأسباب جغرافية وتاريخية وثقافية ولغوية خلافاً لأربيل التي تبدو واقعة تحت تأثير النفوذ التركي. وعلى المستوى السياسي ثمة أسباب كثيرة تجعل علاقة إيران بالسليمانية أفضل من علاقتها بأربيل، من أبرزها توجه برازني لإقامة شراكة سياسية واقتصادية وأمنية مع تركيا الدولة الإقليمية المنافسة لإيران وعلاقات الوثيقة للبرزاني مع الدول الغربية وسماحه بفتح ثلاث قواعد عسكرية للولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا على أراضي الإقليم، فضلاً عن خطه السياسي الداعي استراتيجياً إلى انفصال إقليم كردستان عن العراق وإقامة دولة كردية. وأمام هذه الأسباب السلبية لعلاقة إيران بأربيل تبدي تركيا، لا سيما في عهد رجب طيب أردوغان، المزيد من التفهم والدعم لبرزاني وسياساته، سواء على مستوى كردستان أو العراق أو الموقف من الأزمة السورية وفي شكل أدق من أكراد سورية، خصوصاً بعد سيطرة حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي الذي يعد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني على المناطق الكردية في سورية، فيما تشهد علاقات تركيا حالاً من الفتور مع كل من الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير، لا سيما في ظل مواقف الحزبين المؤيدة لحزب العمال الكردستاني في الحرب الحالية مع تركيا. واللافت أن الاستقطاب الحاصل بين إيرانوتركيا على ساحة كردستان العراق أثر في سياسات الأحزاب الكردية وخياراتها تجاه معظم القضايا المطروحة على الساحة الكردية، فمقابل اللهجة الندية للحزب الديموقراطي الكردستاني تجاه الحكومة المركزية في بغداد يبدي كل من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير لهجة مرنة تنحو نحو حل الخلافات مع بغداد عبر الحوار والبقاء ضمن السلطة المركزية خلافاً لبرزاني الذي يعتمد نهجاً أقرب إلى التفكيك وفرض سياسة أمر واقع، لا سيما على صعيد المناطق المتنازع عليها، وقد بدا هذا الأمر جلياً بعد سيطرة البيشمركة على كركوك الغنية بموارد الطاقة من نفط وغاز. هذه الخلافات التي لها حساسية محلية وأبعاد إقليمية تظهر من جهة مدى هشاشة العملية السياسية في الإقليم في ظل التدهور الاقتصادي الذي يشهده نتيجة تفاقم الخلافات مع بغداد وتراجع أسعار النفط، ومن جهة ثانية تظهر مدى خطورة المشهد السياسي الكردي واحتمال تفجره، لا سيما في ظل ضعف البنيان الداخلي الذي يعاني من اختراقات إقليمية ساهمت على الدوام في جعل التاريخ الكردي قائماً على بحر من الخلافات والحروب الداخلية، وكل ما سبق يجعل من عملية التغيير السياسي المنشودة في الإقليم، لا سيما قضية منصب رئاسة الإقليم وآلية انتخابه، عملية محفوفة بالتحديات، فالمطلوب كردياً ليس إيجاد حالة من المحاصصة والصوملة السياسية وإنما تجربة سياسية ديموقراطية تحقق الأماني القومية الكردية، وفي الوقت نفسه تقديم نموذج للحكم في منطقة تشهد حروباً وصراعات غير مسبوقة. وعليه يمكن القول إن العملية السياسية في إقليم كردستان العراق وصلت إلى نقطة مصيرية، فإما أن يتجاوز الإقليم خلافاته العميقة على أساس من التوافق السياسي والدستوري عبر عملية إصلاحية تنهي أزمة الرئاسة والمحاصصة الحزبية واحتكار السلطات، أو الدخول في سيناريوات مفتوحة. * كاتب سوري