طرح الاقتتال الدموي بين "الاتحاد الوطني" و"حزب العمّال الكردستاني" في شمال العراق 13-9-2000، اسئلة كثيرة عن دوافعه واحتمالات استمراره، في ضوء استنفارات عسكرية دائمة بين الاتحاد الوطني والحزب الديموقراطي، استدعت بدورها سؤالاً: هل بدأت التوازنات السياسية الحاكمة بين الأكراد في هذه المنطقة تتلاشى والصدامات البينية تتضاعف مخاطرها، بعدما فرضت اللعبة الدموية نفسها على مسار التطورات في المنطقة؟ في الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من تحليل بنية "المجتمع" الكردي العراقي ومتابعة طرق تفكير قادته، ورصد تاريخهم، ودرس تضاريس الواقع الجديد الذي خلفه عزل شمال العراق عن الحكومة المركزية والسياسات التي تتبعها الدول الاقليمية تحديداً تركيا والدول الغربية اميركا وبريطانيا لضمان بقاء الاكراد بعيدين من مغريات بغداد التي تهدف الى بسط سلطة الدولة على كل أرض العراق، وإعادة الشمال الى "بيت الطاعة"، بعدما فشلت كل المحاولات لجعل الاكراد يدورون على محور غير طبيعي من خلال الانفصال، او بتكوين دولة كردية كان اعتبرها مسعود البارازاني غير واقعية، وأعلن نبأ وفاتها بالقول: "إن صيغة المناصفة بين الديموقراطي والوطني ماتت، مثلما ماتت الادارة الكردية" رافضاً الانفصال عن العراق بالقول: "نحن لا نطلب اي حل يضعف وحدة العراق وسيادته امام المؤامرات والاطماع الاجنبية". في ضوء هذه الوقائع، أعلن عن استعدادات للقوات العراقية لاجتياح المناطق التي تقع تحت سيطرة جلال الطالباني، وحيث يقوم سد "دربندخان" الحيوي الذي يزوّد العراق الطاقة الكهربائية. لعبة التوازنات جلبت الاوضاع الجيو - استراتيجية للجماعات الكردية عموماً ولأكراد العراق خصوصاً، الكثير من الآلام مع الدول التي يقطنونها، او تلك التي تحيط بهم، وتسبب هذا الوضع باستخدام الورقة الكردية سياسياً وأمنياً ضد الآخر. وألقت بظلالها على حسابات غالببية الاطراف الاقليميين والدوليين وبرزت منطقة شمال العراق واحدة من المناطق التي لا تتمتع بالامن والاستقرار. ومذ خرجت عن بيت "الطاعة" 1991، ودخلت في لعبة التوازنات، اصبحت عرضة لعدد من التداعيات المخيفة. بكلام آخر باتت الاوضاع في هذه البقعة العراقية تتقاذفها دول وتدير أمورها بطريقة تفيد مصالحها او تستخدمها في تصفية حساباتها مع الآخرين، واصبحت عملياً واقعة تحت المطرقة الدولية اميركية - بريطانية واهدافها، والسندان الاقليمي الذي يتزايد شعوره بالقلق من جرّاء تنامي قواعد حزب العمّال الكردستاني، بعد دعوة عبدالله اوجلان في الثالث من آب اغسطس 1999 الحزب الى الانسحاب الى شمال العراق، الامر الذي أشارت محتوياته الظاهرة الى احتال تعديل الخارطة الجيو - ستراتيجية لشمال العراق. ووجدت دعوة اوجلان الى سحب قوات حزبه من تركيا الى شمال العراق، اصداء ومبررات ايجابية متعددة من انصاره. صحيح ان الاكراد لا ينتمون الى "عرق" واحد، الا ان لديهم روابط اجتماعية معقولة، خصوصاً في مناطق الحدود التقليدية المشتركة بين ايرانوالعراقوتركيا وسورية. والشبكات التنظيمية التي أنشأها حزب العمال وتنشط في شمال العراق، استطاعت ان توسع من نطاق نفوذها، الى جانب القواعد الحليفة الاخرى التي دأب الحزب على استخدامها في السنوات الاخيرة، خصوصاً في منطقة "خواركوك" وفي بعض اطراف "حاج عمران" و"جبل قنديل" القريبين من الحدود الايرانية، علاوة على ان سورية، وفي ظل الواقع الجديد، ترفض حتماً اي تحرّك لحزب العمّال على اراضيها، بعد توقيع اتفاق اضنة الامني مع تركيا في تشرين الاول اكتوبر 1999. الى ذلك، اثارت دعوة أوجلان الكثير من ردود الفعل الاقليمية المقلقة. ففي العرف "القومي الكردي"، يتم الانسحاب داخل مناطق "كردستان"، ولكن الى "جنوبها"، داخل الوضع المترهّل في شمال العراق حيث تتحكّم قوات البارازاني بالعقد الرئيسية لمناطق الحدود بين العراقوتركيا، ومن ثم سبب تحالف هذه القوات مع انقرة اشكاليات استراتيجية، عميقة. وما لم يغيّر زعيم هذه القوات، اي البارازاني، من تحالفه الراهن مع أنقرة، ستكون هناك خيارات مؤلمة مستقبلاً. وهذا الواقع الجديد لأنصار اوجلان طرح على واشنطن ولندن تحديات سيثيرها اكراد العراق، لكن الولاياتالمتحدة وبريطانيا أعلمتا أكراد العراق أن المنطقة الآمنة شمال الخط 36، انشئت بهدف حمايتهم من اعتداءات القوات العراقية، وليس من عناصر حزب العمّال الكردستاني. سيؤدي هذا الى احتمالين: الاول: زيادة حدّة الاقتتال بين مختلف عناصر الاحزاب الكردية بمحاولة كل طرف توسيع نطاق تحالفاته ما يجعل المنطقة رهينة الصدامات المسلحة. الثاني: يقوم على ان تركيا بدأت تميل الى فكرة انشاء فيديرالية كردية - تركمانية في شمال العراق، وان واشنطن ولندن يمكن ان تعززا من الخيار، في محاولة لإغلاق الملف الكردي قبل استثمار بغداد له. وفي ظل حال السيولة المستمرة في شمال العراق بعدما بدأ يتزايد حضور اطراف اقليميين اسرائيل في تلك المنطقة بحجة التنقيب عن النفط. الحكومة العراقية مغيّبة اذاً لذلك اصبح من السهل تحقيق اختراقات بنيوية في شمال العراق، وهذا ما يؤكد امكان تحقيق فكرة الفيديرالية الكردية - التركمانية التي تسعى اليها انقرة تحت ذريعة حماية امن تركيا القومي. وقد يتراجع هذا الخيار في الاجندة التركية مستقبلاً تحقيقاً لجملة اهداف طالما حاولت انقرة انجازها. استدعاء الدور التركي إعلان الاتحاد الوطني الكردستاني مسؤوليته عن تفجير القتال ضد حزب العمّال الكردستاني في مناطق سيطرته، اعتبر بمثابة نقطة تحوّل في الصراع الكردي - الكردي. خصوصاً بعد حصول انقلاب كامل في تحالفات طالباني الذي نقل سلاحه من الجانب الايراني الى الجانب التركي. وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد، عندما اعترف مسؤول الاتحاد الوطني بأن ميليشياته هي التي بادرت بالهجوم على قوات الحزب الديموقراطي ل"إرغام قيادة الحزب على تحقيق تسوية سلمية" لمشكلات الحزبين، والآن بعد ثلاث سنوات على التصريح، ها هو الاتحاد الوطني يعترف بمهاجمة قواعد حزب العمال الكردستاني التي "خضعت" لحليف الامس وعدو اليوم جلال طالباني الذي كان اتهم مسعود بارزاني بأنه "تحوّل عملياً آلة في يد العسكريتاريا التركية لذبح مناضلي كردستان" و"تكريد الحرب". فهل استلم الطالباني هذا الدور بعدما أنهك بارزاني في حروب الداخل تحت الحاح الولاياتالمتحدة وضغوط انقرة لتصفية قواعد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق ومواجهة الدعم الايراني ل"دويلة" السليمانية. مهما يكن من علامات استفهام في معركة "كردية": حساباتها غير مرئية، فإن الاقتتال الكردي - الكردي، فضلاً عن دعمه منطق حكومة بغداد، من حيث انتشار الفوضى في الشمال وتشكّل مجموعات قد تهدد استقرار دول مجاورة، يمكن أن يؤدي الى اتاحه الفرصة لتسلل عراقي بين صفوف الاكراد، لان المواجهة الدموية بين الاتحاد الوطني والديموقراطي، واقتتال الاتحاد الوطني والعمّال الكردستاني قد يدفعان بقوى اقليمية الى تدخل هذه المجموعة الكردية او تلك في مقابل دعمها في القتال الدائر. ويمكن في هذه الحال ان تتفاوض بغداد مع تلك القوة الاقليمية، وليس مع اي مجموعة كردية في شكل مباشر ضمن صفقة اشمل تضم، في ما تضم، المساعدة على إعادة سيطرة الحكومة العراقية الى شمال العراق. وما يفسّر القلق العراقي الذي يظهر في هذه المسألة، الحساسية الشديدة حيال دخول اي طرف اقليمي "على خط" النزاع بين الاتحاد الوطني والعمّال الكردستاني. وتظهر هذه الحساسية من متابعة بغداد الاتصالات التي اجريت بين انقرة وبارزاني وطالباني. فبينما لجأ البارزاني الى تقوية روابطه السياسية الوثيقة مع تركيا، بدا التحوّل الكبير للطالباني من الاتجاه الايراني الى الناحية التركية، آملاً بالاستقواء بها لمواجهة تحالف غريمه البارازاني مع بغداد من جهة، وللتخفيف من ثقل حزب العمّال الكردستاني الذي يسيطر على الجبال المحيطة بمدينة السليمانية عاصمة الدويلة الطالبانية. ومع ان انقرة ليست لديها ثقة كافية بطالباني، لان مواقفه وتحالفاته السياسية متغيّرة بتغيّر ملابسه، الا أنّها استغلّت لجوءه الى ما يسمى ب"استراتيجية استدعاء الدور التركي" لتعزيز دور ومكانة ل"دويلته" التي كانت تعتمد الدعم الايراني مباشرة في شمال العراق، الا ان سيطرة حزب العمّال الكردستاني على الكثير من القوى والمناطق، والتي حدّدت بأربعين كيلو متراً طولاً وعرض عشرة كيلو مترات على الحدود العراقية - الايرانية، مكّنه من ان يصبح من القوى المسلّحة المهيمنة على محور اربيل - السليمانية في المنطقة الحدودية، ما ساعد في تغيير البنية الديموغرافية بين العامين 1998 و2000 لمصلحة طالباني ليتسنى للأخير تقوية نفوذه وتعزيزه امام منافسه بارزاني، خصوصاً في مناطق السليمانية تشومات وسيده كان. وتضاعفت اهمية هذه المعطيات في ما اكدته مجلّة "الوسط" اللندنية عدد 454 - 9-10-2000 من وجود ما يقارب ثلاثة آلاف عنصر من حزب العمّال في تلك المناطق. اختلالات بنيوية لم يكن من اللافت والمثير فقط ان يتوافق اندلاع الاقتتال بين الاتحاد الوطني والعمّال الكردستاني مع اعلان كسر الحظر الاقتصاد المفروض على العراق، بل نجاح بغداد ودمشق في الشروع في اتخاذ اجراءات ايجابية تعزز من التعاون المشترك، تزامناً مع خطوات طهران النوعية نحو بغداد التي تدعم فرص التنسيق المحوري بين الدول الثلاث العراق وسورية وايران، لكن الاقتتال ينفجر ايضاً بعد هزائم طالباني المتتالية ومنذ سنة 1994 على يد البارازاني. هذه التطورات المتقاطعة، ادخلت مشكلات الاكراد ضمن منظومة الحسابات الاقليمية الممزقة والمصابة اساساً باختلالات بنيوية واسعة ادى فيها زعماء الاكراد انفسهم دوراً مهماً لإضفاء طابع الحيوية الاستراتيجية على مسألتهم، انطلاقاً من الرغبة في اقامة علاقات وطيدة مع القوى الخارجية لتعظيم مكاسبهم المحلّية على الصعيدين الاقتصادي والجغرافي خصوصاً، والحفاظ على البقاء ضمن انساق اللاعبين الاساسيين في فضاء شمال العراق الرحب وآلياتهم، عقب ادراك غالبيتهم صعوبة طرح خيار الانفصال، لاقتناعهم بأن إقامة كيان صغير وسط "دول معادية" ستفضي حتماً الى اختناقهم سريعاً وتضاعف المخاطر المحدقة بهم، لذلك لم يعد خافياً ان المصالحة بين الاكراد وبغداد يمكن ان تكون احد ضمانات الحفاظ على مستقبلهم باعتبارهم جزءاً من النسيج الشعبي العراقي المتنوع، خصوصاً ان الاقتتال في ما بينهم، وبينهم وبين بغداد، كفيل بأن يذهب بمسألتهم أدراج الرياح. ان الطموحات الفردية والتقاطعات السياسية تحول دون الوصول الى هذا الهدف حتى الآن، ما أدّى الى فقدان التعاطف معهم، في اكثر من دائرة اقليمية ودولية، خصوصاً ان معادلة المصالح التي حكمت دوماً ولا تزال خطوات الوساطة بين طالباني وبارزاني من ناحية، واتجاه الضغط للموافقة على بنود الوساطة من جانب الزعيمين من ناحية اخرى، الغاية منها تعزيز امكان قيام حلف بين الاتحاد الوطني والحزب الديموقراطي مستقبلاً لمواجهة تمدد حزب العمّال ونجاحه في شمال العراق. لا شك في ان الطالباني يدرك ان تورطه مع تركيا سيكون له تأثيرات بالغة السلبية عليه، مثلما ان استمرار هذا الوضع طويلاً على هذا المنوال، سيضعه في صورة اكبر تحت سيطرة انقرة. وهو الذي حاول في البداية اداء دور المكافح للنفوذ التركي في هذه المنطقة. ثم انه سيضطر الى سلوك لعبة مراضاة السلطة المركزية في بغداد، وربما يضطر الى اللجوء اليها في لحظة معيّنة، كما فعل غريمه البارزاني، خصوصاً ان طالباني تأكّد له ان سياسة "الاحتواء المزدوج" الاميركية حيال العراق سقطت ولم تعد تقدّم بديلاً او تسمح بإقامة كيان كردي في شمال العراق، فضلاً عن ان العراق سيمنع اعتبار هذه المنطقة "محررة" لتجميع القوى المعارضة للسلطة المركزية في بغداد. هذه الدوّامة المتكررة من الصراعات والحروب الدموية بين الاحزاب، وما يسفر عنها من نتائج وآثار وخسائر تلحق بالاكراد العراقيين في هذه المنطقة، إضافة الى التخبّط في نسيج التحالفات وانقلاباتها مع الدول الاقليمية المجاورة، ثم تجرؤ طالباني على ادارة ظهر المجن لحليفه ايران ولحليفه السابق حزب العمّال بالقفز الى انقرة و"الاستنجاد" بمظلتها السياسية، ومستقبلاً العسكرية... كل ذلك يطرح سؤالاً كبيراً هو: هذا الصراع الدموي المدمّر للاكراد الى اين؟ وهل من آفاق حقيقية لانهائه، ام انه بات يواجه مأزقاً حاداً وطريقاً مسدودة، ليس ثمة أمل بفتحها؟! من دون تجاهل التأثير القومي للعوامل والمؤثرات الاقليمية في الوضع الكردي العام، وفي اوضاع العراق والتجاذبات الاقليمية، فان ثمة سبباً رئيسياً، شخصياً وذاتياً، يقف وراء هذا الاستمرار في الاقتتال واندلاعه المستمر بدورات جديدة ورموز ظاهرة. وهذا السبب كان المبدأ الاساس في حروب الاتحاد الوطني والديموقراطي الكردستاني، وهي اذا كانت حروب تصفية لقوى وطنية في اقتتال الاتحاد الوطني والعمّال الكردستاني الذي يتعرّض ل"الاعدام" الاعلامي والنفسي من جانب الحزبين الكرديين الرئيسيين في تلك المنطقة، فبسبب النزوع الشخصي الذي ينتاب كلاً من طالباني وبارزاني، على انه اعظم من "نظيره" وأحق في قيادة اكراد العراق من "غريمه"، وهو ما يصفه البعض ب"جنون العظمة" الذي يطغى على كل من الزعيمين ويمجّده ويدفعه نحو تسعير اركان حزبيهما المستفيدين من الصراع الدمويّ. لا شك في ان نقطة اللاعودة التي وصلت اليها العلاقات الكردية - الكردية، اشارت الى ان ليس في الافق ما يدعو الى الاعتقاد بامكان اي اتفاق او توافق بين الحزبين وقائديهما، الا عندما يكون على طريقة تصفية حزب العمّال الكردستاني الذي يبدو كصخرة الصوان يُكسِّر ولا يُكسر. والعارف بنفسية كل من طالباني وبارزاني وطريقة تفكيره، يرى انهما شديدا العناد بالتمسك بمواقفهما، حتى ليبدو ان قرارهما الوحيد الذي يسعى كل منهما الى تنفيذه هو: ليستمر "استكراد الاكراد" ولتعش "القومية البدائية". * كاتب سوري