"ما بدّي منكْ/ أكتر من أنكْ/ تبيّن لي سنّكْ/ بس سنّك". كلمات الطقطوقة "الهابطة" يعيدها الى الذاكرة الأصولي "المتعالي": الكالح. المدلهم. العابس. اليابس. أهي الشيشان؟ فلسطين؟ كشمير؟ كوسوفو؟ أغلب الظن أنْ لا. ما من أحد يفكر بمأساةٍ سياسية 24 ساعة في اليوم، ويقطّب وجهه بسببها 24 ساعة في اليوم، على مدى أيام، أسابيع، أشهر، سنوات. ما من أحد يعيش عمره هكذا! نصيحة ايليا ابو ماضي: "يكفي التجهّم في…" الشيشان، ربما كانت مفيدة هنا. سبب الكآبة، على الأرجح، ليس المأساة ولا المآسي. انه التشبّع بالمعتقد. الامتلاء بالحقيقة. بامتلاك الصواب. شعورٌ كهذا مصدر الاكتئاب: العالم دون صوابه. انه أكثر اختلاطاً والتباساً من حقائقه الناصعة. العالم ملوّث. مليء بالخطأ والخطيئة. الأصولي، أو المتماسك انتغريست كما يقول الفرنسيون، هو تعريفاً الاكثر توحّداً بالفكرة، بالمثال. الأكثر رذلاً للواقع. من هنا يسودّ الكون في عينيه. يسهل الموت ويطيب القتل: ما نتخلى عنه أتفه من أن نتمسك به. ما نيمّم شطره أعظم من أن نتهاون في طلبه. أعظم من أن تحرفنا عن السعي اليه اية كلفة نتكبّدها او نكبّدها للغير. الحسابات كلها تافهة. الضحك سخيف. من شاهد فيلم "الحِواريّ" The Apostle الذي أخرجه ولعب فيه روبرت دوفال أحد أبرز أدواره، يعرف كيف تتحول الافكار بُقع دم بريء. كيف يصير العالم مُجمّعاً من ذنوب مزعومة تتوهّمها الانجيلية الجنوبية في أميركا وقد غدت جنوناً. وعّاظ كهؤلاء ليسوا حكراً على بلد او منطقة: سافونارولاّ إسم يعرفه دارسو الأصوليات. يعرفه المُلمّون بالتاريخ الايطالي أيضاً: كاهن كاثوليكي عاش في النصف الثاني من القرن 15. استبدّ به الهوس والتطرف. امتلأ صدره بيقينه. كان في ثلاثيناته حين حكم فلورانسا: أقام جمهورية على أنقاض حكم أسرة مديتشي التي أطلقت "النهضة": نهضةً لايطاليا وبالتالي لأوروبا والعالم. نهضةً في الفن والعمارة والأدب والشكل، كما في الأفكار. وتياراً ضخماً حاول أنْسَنَة "التنوير" اللاحق. لكن سافونارولاّ رأى، مُحقّاً، أن حكم المديتشيين فاسد وباذخ. لم يرَ أبعد ولم يرَ أكثر. اكتفى بظاهر الحقائق. رد بالتقشف. باستئصال "الزوائد". أحرق الكتب "غير الاخلاقية". حاكم الناس بصرامة. سجن وسمل الأعين وقتل على الخازوق - طريقة العقاب يومها. سافونارولاّ لم يمت متجرعاً السم على ما فعل، ولو مجازاً، زميله الايراني بعد خمسة قرون. مات، هو أيضاً، على الخازوق. الكاهن الكاثوليكي ليس من الشرق الأوسط طبعاً. والسلطات الدينية التي تصدّت لها جوانا أينيس دو لاكروز، بطلة أوكتافيو باث الشهيرة، سلطاتٌ اسبانية. لكننا نتذكر سافونارولاّ و"الحواري" البروتستانتي الأميركي وصرخة دو لاكروز العائدة الى القرن 15: "أكره أصوات محاكم التفتيش". نتذكر هؤلاء وغيرهم كلما تطاول ليل الأصولية في منطقتنا. وهو متطاول. كلما استشرى التزمّت. وهو مُستشرٍ. كلما صارت الوجوه اشد قتامةً لا تفعل غير التكريه بالحياة. وعندما نتذكرهم يلوح أمل: فأحدٌ لن ينجح في المبادلة التي يعرضها: لكم الخلاص على تعدد أشكاله: تطهير روح، تحرير أرض، بعث قيم، ولنا عقولكم وأجسامكم وحرياتكم. فالاصوليون، هنا أو هناك، هم الردّ بالاستئصال على أخطاء تصاحب تقدماً ما، أو يستدعيها التقدم. دعوتهم تشبه تجفيف السماء لأن المطر قد يتسبب بالفيضانات. الغاءَ السباحة خوفاً من احتمال الغرق. تحريمَ المشي تجنباً للوقوع. الحل الأصولي هو تكهيل الطفل لأنه الأكثر تعرضاً لأن يقع. إذن: عزله عن العالم وإجلاسه على مخدّة عالية ثم حراسته فلا يتحرك. المجتمعات، بهذا المعنى، أطفال دائمون. النساء خصوصاً. الرسول العربي نصح بعكس ما ينصح به الأصوليون: "إذا خفتَ من شيء فقعْ فيه"، كما جاء في حديث. هم، في المقابل، يسمّون المطالبين بالحرية وباقتحام التجارب "خونة"، أو في أحسن الحالات: "سويديين". يقول بعض مثقفيهم: وهل نحن في السويد؟ اننا هنا وهذه طرقنا المألوفة. يقولون هذا رداً على كل جهد لتصحيح التقدم وتغليبه، بعد الاستسلام الى مغامرته. يقولونه في مواجهة كل مطلب عصري وديموقراطي. في مواجهة كل كلام عن حرية الرأي، عن حقوق المرأة، عن أوضاع الأقليات. لا لسنا في السويد، لكننا لسنا في أفغانستان حيث البرنامج المطروح على الشعب استئصال الحياة، لا استئصال التقدم وحده. العودة الى الأول. الى النواة. الى الخام. الى البدء. كما خلقتَنا يا رب. الذي يريدنا مثل السويد ربما كان حالماً، لأن السويد أمنية بعيدة يلزم لبلوغها جهد وتضحية لا يتوافر الاستعداد لبذلهما. السويد ليست "فضلة عشاكم" و"عشانا" معكم. لكن الذي يريدنا مثل افغانستان ينبغي نقله الى أقرب مستشفى. وهو، كائناً من كان، ليس من تستنجد به الشعوب ليحكمها، او يقودها الى المستقبل، او يكتب لها ويعلّمها الصالح من الطالح. التهم هذه لا تسقط عن الذي يريدنا مثل السودان. ولا حتى عن الذي يريدنا مثل ايران. وهذه كلها امارات نجاح اصولي! سكان افغانستان والسودان وايران، يستحقون ما هو افضل بكثير، لكنهم لن يأخذوه ممن يواجهون الدنيا، جملةً وتفصيلاً، بالوجه الكالح. بالقلب الكالح. صحيح انهم يكيلون المديح بعد المديح للشعب، "شعبنا"، للحضارة، "حضارتنا"، للقيم، "قيمنا". لكنهم لا يلبثون ان يعبسوا. ثم يمعسونها وينكبونها بأن يردّوها دائماً الى أسوأ مما كانت عليه. في ايران كان القمع الشاهنشاهي سياسياً. صار حياتياً شاملاً. في أفغانستان لم يبق حجر على حجر. أحجار الماضي والبوذيين كُوّمت فوق أحجار الحاضر والمسلمين. في السودان قامت ديموقراطية ضعيفة تقطعها انقلابات وحروب. الآن: حكم عسكري متعصب وغارق حتى أذنيه في الحرب. وغارق في… الرقيق. حتى حسن الترابي لم يأمن تآمر تلميذه الذي علّمه عشرين حرفاً. ولو استطاع الاستاذ لكان التلميذ ينزل حيث ينزل معلمه اليوم. قانون عمر بن أبي ربيعة هو الساري: "إنما العاجز من لا يستبد". انه قانون الشخصية الأصولية التي تنضح ساديةً وقسوة. يقال، تخفيفاً، إنهم مساكين وبؤساء. انهم ضحايا. هذا صحيح لكنه نصف الحقيقة. المساكين والبؤساء ينبغي للانظمة القائمة رفع المسكنة والبؤس عنهم. تأهيلهم. تعليمهم. ادراجهم في مطالب. ايجاد فرص عمل لهم. اتاحة التعبير السياسي لهم ضداً على عسف العسكر. أما أن يصيروا البديل لأنهم مساكين وبؤساء، أما أن يصيروا المعرفة لأنهم ضحايا، فهذا اقصر الطرق الى الاستبداد والانحطاط معاً. النازيون خرجوا من البؤس والمسكنة أيضاً. كانوا فقراء. مرّوا مروراً عابراً على المدارس. حاذوا المدن محاذاةً. كذلك صدروا عن كارثة اقتصادية ألمّت بألمانيا، وعن كارثة وطنية تمثّلت بصلح فرساي وشروطه. أما تحولهم حكاماً ومراجع في التمييز بين الصح والخطأ فكان تنصيباً للجريمة في موقع الحكم المطلق. الشيء الوحيد الذي يقدمه أمثال هؤلاء للمجتمعات التي تمثل "أصالتهم"، لا بل "الأصالة"، هو ما يملكونه: أننا نقاتل، نقتل، نُقتَل. هذا هو الثالوث الأقدس. وما داموا رداً على الحداثة، وعلى التحديث، وعدوا البشر بالقتال الى ما لا نهاية إذ الحداثة مشروع متصل متواصل. وعدوهم، إذن، بردّهم الى الوحشة. الى الغابة. بحرمانهم الأبعادَ الكثيرة لوجودهم الانساني: الناس آلات تقاتل فحسب. كاراجات جثث. دواليب جماجم. الناس قطع غيار. الازدهار الوحيد الموعود ازدهار في الموت: بما أنه شعبنا ونحبه فسوف نحوّله علفاً للمدفع. سوف نكرّمه بجعله قنابل موقوتة. صحراء من أشلاء. وهذا كله من اجل أن... يتحرر. الأمر كان ليسهل لو أنهم أقنعوا مجتمعاتهم وشعوبهم بأنهم يمتلكون، الى جانب هذه، موهبة أخرى. فالردّ الأصولي على الحداثة لا يلغي كثرة استهلاك الاصوليين لموادّها. ليس سراً، مثلاً، ضعف مثقفيهم امام تعابير الثقافة الغربية: "إشكالية"، "خطاب"، "تمظهُر"، "مُقتَرب". هذه المصطلحات لا ترصّع نصاً كما ترصّع النص الأصولي. وعلى مستوى أبسط وأشد حميميةً في آن: التليفون المحمول والكومبيوتر دمى الأصوليين بامتياز. وهم يستخدمون التلفزيون. وهم، مثل الفاشيين الجدد، شديدو الاستعمال للانترنت. لكن النموذج الحضاري الذي يخوض حقل المنافسة ينبغي ان يكون له باع في انتاج بعض ما يستهلك. فليصنع الاصوليون جهاز كومبيوتر مثلاً. سيارةً. تلفزيوناً. راديواً. ليصنعوا، لوجه الله، حنفية ماء أو مكواة أو مرشّة او محبرة. ليكتبوا رواية جميلة. قصيدة جميلة. لا بأس، فلتكن ملحمةً جميلة، ولو عن مزارع شبعا. فيلم سينما؟ أغنية؟ نحتة؟ ليصفوا زهرة. ليرسموا رسمة. الاقتصار على الاستعراض الدوري للموت يرافقه كلام فقير أيضاً، مكرور ومضجر: العالم اثنان، نحن وهم. خير وشر. نصر وهزيمة. نحن فينا كل الخير. كل الحق. لم نخطىء مرةً في حياتنا. كلنا نحب بعضنا بعضاً. هم، في المقابل، فيهم كل الشر. متخصصون في التآمر علينا. مهما فعلنا سيواجهوننا بالمؤامرات. نحن الأبيض. هم الأسود. هذا أيضاً ليس جديداً ولا خاصاً بالاصوليين. انه يرجع الى زرادشت الفارسي: الى صراع إله الخير "مازدا" وإله الشر "أهريمان". وربما الى أزمنة اسبق. الاضجار والبلادة يتوهّجان في الكلام الاصولي. يكتبونه "بالشَوبك" بحسب الصورة البديعة لمنح الصلح حين وصف بعض يساريي الستينات ممن يدبّجون الكتب والمقالات الكثيرة انطلاقاً من عجينة هزيلة ورقيقة. يقولون: نحن الشعب. الآخرون "سويديون" في أحسن أحوالهم، خونة في أسوأها. والبداهة تقول إن الاصوليين ما داموا هم الشعب فلماذا لم يُجروا ولا يُجرون انتخابات في السودان؟ ولماذا حين يجرون انتخابات في ايران لا يُعمل بنتائجها؟ ولماذا لا يحكمون الا بالعنف العاري في افغانستان؟ "الشعب"، وهو مفهوم آخر من مفاهيم الحداثة، يتوهّمونه توهّماً. يخترعونه اختراعاً. يخترعون شعباً لا يمكن ان يبلغ سؤَه اي شعب. والشعب المزعوم هذا لا يفعل شيئاً غير القتال، غير الاحتراب، غير التمهيد للاستبداد. انه شعب لا يعمل. لا يفكر. لا يتعلم أبناؤه. لا يحب. لا يغني. لا يرقص. لا يمشي. انه يتحرر ثم يتحرر ثم يتحرر. يقاتل ويقتل ويُقتَل. وفي ظل هذا النقص في المواهب، وهذا الصدّ للعالم، ماذا يفعل الشعب المتَوهّم إن لم يتحرر ثم يتحرر ثم يتحرر؟ والشعوب تنفّذ رغبتهم بقدر ما ينجحون في جعلها تشبه توهّمهم لها. فاذا حصل استقلال في الجزائر كانت حرب اهلية تستأنفه بمساعدة الأصولية العلمانية في الجيش. واذا استعاد بلد كلبنان أرضه كان لا بد من اختراع أرض للتحرير. واذا انتصر "المجاهدون" في أفغانستان كان لا بد من ازاحتهم لمصلحة "الطالبان". وغداً قد يأتي من يكتشف تراخياً في الأخيرين وتساهلاً في موقفهم من المرأة! انه أواليات العنف والتطرف حين تعمل من تلقائها. حين تتغذّى بذاتها. هكذا نبقى مثل إشباع لا يتحقق الا بفناء الارض ومن عليها. قصة سافونارولاّ لم تنته فصولاً. الرجل منسيّ الآن قياساً بفناني فلورانسا آنذاك: قياساً ببوتيشيللي وميكال انجيلو وبولاّيولا وفرا بارتولوميو. هؤلاء، بين أشياء اخرى، استوحوا سافونارولاّ موضوعاً لرسمهم. أسعار رسومهم له لا تُقدّر. هو مجرد وجه من وجوههم. بذاته، بعبوسه "الطبيعي"، لا يشتريه أحد.