منذ تطمين الحكومة الانكليزية لفرنسا في كانون الاول ديسمبر 1912 بخصوص عدم "وجود مطامع سياسية لها في سورية"، وبعد خطاب الرئيس بوانكاريه الذي كشف هذا "التطمين" الانكليزي مؤكداً على احترام "المصالح والحقوق التاريخية" الفرنسية في سورية، اطمأنت الأوساط الاقتصادية في فرنسا نسبياً وراحت بعض الاوساط الديبلوماسية والصحافية تبني، على قاعدة هذا "التطمين"، برامج ومشاريع وتأويلات، ما حدا بوزير خارجية انكلترا ادوارد غراي ان يوضح الأمر للسفير الفرنسي في لندن مؤكداً ان الموقف الانكليزي من سورية كما يقول موجهاً كلامه الى السفير الفرنسي: "لا يعني اطلاق يدكم فيها وترككم أحراراً تعملون فيها ما يحلو لكم. ليس هذا موقفنا تماماً". ويؤكد السفير الفرنسي في رسالة الى رئيسه: "اذا صح ان بريطانيا ليس لها اي مطمع في سورية فإنها مع ذلك لم تطلق يدنا في هذا الجزء من الامبراطورية العثمانية". إذاً، كان على الاوساط الاقتصادية الفرنسية، لا سيما تلك التي عقدت مصالح واضحة ومحددة في سورية غرفتا تجارة ليون ومرسيليا ان تبقى ساهرة ومتيقظة لمسألة "مصير سورية" في جو مشحون ولغط كثيف عن اقتراب موعد تقسيم الامبراطورية العثمانية. النشاط التعليمي والاقتصادي صحيح ان "التطمين" الانكليزي هدّأ نسبياً من المخاوف الفرنسية التي كانت تثيرها علاقات الديبلوماسية البريطانية مع المقيمين السوريين في القاهرة والاسكندرية، لكنه دفع من جهة ثانية رجال الأعمال الفرنسيين الى تكثيف نشاطهم في سورية في سنتي ما قبل الحرب وذلك في اتجاهين: توسيع النشاط التعليمي، وزيادة التوظيف المالي. وضمن هذه المشاريع رُبطت جامعة القديس يوسف في بيروت بجامعة ليون، وقام الاستاذ في كلية الحقوق في ليون بول هوفلين ومدير "الكلية المركزية الليونية" ريغولو بمهمة تنظيم بعثة الى سورية ودراسة إمكان تأسيس كلية حقوق ومدرسة مهنية في بيروت. ولدعم هذه المبادرة أسس عام 1913 "الرابطة الليونية لنماء التعليم العالي والتقني في الخارج". وضمت هذه الرابطة، الى جانب الاساتذة الجامعيين، عدداً من رجال الأعمال، لا سيما كبار تجار الحرير ادمون موريل ولويس غيران. وكان ان افتتحت كلية الحقوق في بيروت عام 1913، وأنيطت مهمة الادارة والتدريس الى اليسوعيين، فيما كانت جامعة ليون تشرف على التعليم وتقدم الشهادات. ووفق النموذج نفسه، افتتحت "المدرسة المهنية" التي كان ينبغي ان تسبق تنظيم "كلية هندسة"، على صورة "الكلية المركزية الليونية". وطلب رئيس جامعة ليون من "غرفة تجارة ليون" الاسهام في تمويل هذه "المدرسة المهنية"، التي ستخرّج مهندسين ومساعدين محليين يعملون تحت اشراف مهندسي الاشغال الفرنسية ومديريها. ويذكر رئىس الغرفة أن "الليونيين" يملكون مؤسسات مهمة في هذه المنطقة: مصانع لحل الشرانق وسكك حديد ومناجم. وتقرر الغرفة مبلغ 6000 فرنك يوزّع بين "الموازنة العامة" و"موازنة الحرير"، إذ ان المدرسة تلبّي "مصلحة عامة". هذا التحرك لرجال الأعمال الفرنسيين، مدعوماً بغطاء "جامعي"، شكل ركيزة المطالبة الفرنسية "الحكومية" بسورية. وعلى موازاته، شكّلت لجنة رسمية هي "لجنة الشؤون السورية" مهمتها ان ترسم حدود سورية. ووضعت هذه اللجنة في 9 آذار مارس 1913 تقريراً يتضمن هذا التحديد: "ان الأراضي غير الواضحة لسورية ينبغي ان تُحدد. ويبدو ان منطقة النفوذ الفرنسي التي نطلق عليها هذا الاسم سورية يجب ان تشمل ولايتا بيروتودمشق وقسماً من ولاية حلب، ومتصرفية فلسطين". وتضع اللجنة الاسكندرون خارج هذه الحدود. وتكمل: "ان حدود هذه المنطقة يمكن ان ترتسم بخط ينطلق من رأس ألسْتَخَان جنوب خليج الاسكندرون ويصل الى حلب شاملاً هذه الأخيرة، ومن هذه المدينة يمتد على طول سكة حديد بغداد حتى الفرات. ثم يمتد هذا الخط على طول الضفة اليمنى من الفرات حتى النقطة التي ينعطف فيها هذا النهر فجأة نحو الجنوب، شاملاً بذلك عدا المنطقة الساحلية، كل الداخل الممتد حتى المنطقة الصحراوية التي تقطنها القبائل البدوية المتمردة على كل سلطة. ومن ناحية الجنوب، ترتسم الحدود بخط يذهب من معان الى غزة. إذاً، المرتكزات الرئيسة الأربعة للمنطقة المحددة على هذه الصورة، والتي يشكل لبنان - الماروني قلبها، هي: بيروت، دمشق، القدس". وفي شأن السياسة التي ينبغي على الحكومة الفرنسية ان تسير عليها في سورية، يذكر التقرير: "ان الحكومة الفرنسية ليس لديها في الظروف الحالية اي مصلحة الى استعجال انهيار تركيا الآسيوية. فموقفها في سورية يجب ان ينبع بصدق من مبدأ "تمامية" الدولة العثمانية وألاّ يستهدف اي كسب توسعي في الأراضي Territorial". "لكن إذا لم تكن لسياستنا السورية طموحات، فينبغي ان تكون سياسة حذر. لذلك يجب ان نبذل الجهد، ليس لضمان انقاذ تركتنا المعنوية والمادية التي كسبناها في هذه المناطق عبر جهود طويلة، ولكن ايضاً لتمتين وإنماء انجازنا كي نكون في مستوى التحرك حين اللزوم". ونقرأ كذلك تقريراً "للجنة الشرق" عن "مصير سورية"، يطالب بالحصول على ضمانات من بريطانياوروسيا وألمانيا بأن تكون سورية من "حصة" فرنسا. "انه من الضروري قطعاً ان يتراجع هؤلاء السادة الأجانب عن ممارسة سياسات ذاتية وأن يلتزموا وجهات نظر حكوماتهم التي اعترفت بوضع فرنسا الخاص في سورية". "وينبغي على الصعيد العملي ان نحصل على التخلي السياسي ليس فقط من جانب انكلترا، بل من جانب ألمانيا وروسيا ايضاً لتتمكن سورية من العيش بصورة افضل ومن دون خضات وليصبح باستطاعة فرنسا ان تمتن في شكل طبيعي وضعها التقليدي المألوف". الحرير... والسويس في وقت كانت تجرى المحادثات بين روسياوبريطانياوفرنسا عام 1915، التي اسفرت في العام التالي عن الاتفاقية المعروفة ب"سايكس - بيكو"، تسربت اخبار الى الاوساط الاقتصادية الفرنسية مفادها ان فرنسا مستعدة للتنازل عن قسم من "حقها" في السيطرة على كامل سورية، لمصلحة حليفتها بريطانيا. وكان من شأن هذه الأخبار التي تسربت عن المحادثات ان تثير ضجة في الاوساط الاقتصادية الفرنسية، لا سيما في غرفتي تجارة ليون ومرسيليا. لذلك بادرت غرفة تجارة ليون في 7 حزيران يونيو 1915 الى رفع مذكرة الى وزير الخارجية الفرنسية تبدي فيها "قلقها" على مصير سورية، "بمناسبة" تقسيم تركيا، وتؤكد "أمانيها" في سلخ "سورية موحدة" عن الامبراطورية العثمانية وإلحاقها كاملة بالنفوذ الفرنسي. وإذ تشدد المذكرة على "وحدة سورية الطبيعية" تنطلق في شكل اساس من تعيين اطار رقعة المصالح الاقتصادية الفرنسية في الشرق وحدودها. هذه "الرقعة" هي "سورية كما يعرفها تجارنا والتي يطالبون بها لفرنسا بصورة غير قابلة للجدال وهي تمتد من طوروس الى مصر وتشتمل على كيليكية، كما على فلسطين". هذا ما تطالب به بصورة قاطعة رسالة غرفة تجارة ليون، وهي على عكس تصور "لجنة الشؤون السورية للحدود" لا تستثني "الاسكندرون"، بل تمد الحدود حتى اقدام جبال طوروس، اذ تشتمل على سهول "أضنة" الخصبة والتي اشتهرت بزراعة القطن. أما المصالح الاقتصادية الفرنسية التي تبرر ذلك، فتعبّر عنها رسالة غرفة ليون: "ان سورية بلد منتج للحرير، وهذا يعني انها جزء من سوق ليون الكبير الذي اصبح بدوره، ومنذ فتح قناة السويس، اهم مركز للعالم للمواد الحرير. ان سورية تصدّر لنا حوالى 500 الف كيلو من الحرير سنوياً، اي ما يعادل في السنة العادية 25 مليوناً من الفرنكات. هذا ولم يكتف مواطنونا باستيراد المنتوجات التي يعدها اهل البلاد، بل بادروا بزنفسهم الى انشاء "حلالات" في لبنان، كما ان عمليات شراء الشرانق التي تتطلب رساميل كبيرة كانت تؤمن بواسطتهم. انهم يعرفون جيداً مراكز الانتاج والأراضي الزراعية ولديهم علاقات شخصية مع اهالي البلاد". بيد ان رسالة غرفة ليون بتركيزها على انتاج الحرير لا تستطيع ان تبرر "اقتصادياً" مطلبها في سلخ سورية "كاملة" Intژgrale عن الامبراطورية العثمانية ورسم هذه الحدود الواسعة لها من طوروس حتى مصر، ومن الفرات حتى البحر، فإنتاج الحرير يتركز زراعة وصناعة وتصريفاً على شريط ساحلي، وبصورة خاصة في جبل لبنانوبيروت، ولذا ستتحرك غرفة تجارة مرسيليا الأكثر امتداداً في مصالحها في انحاء سورية". تتكامل خطى الرأسمالية الفرنسية في مطالبتها الحكومة الفرنسية في السيطرة على سورية "كاملة" و"طبيعية" من خلال تحرك غرفة تجارة مرسيليا، وذلك بعد اسابيع من رفع مذكرة غرفة تجارة ليون. فمرسيليا المرفأ الفرنسي المتوسطي هو الذي كان يصدر ويستقبل من المشرق وإليه. وتجار مرسيليا اقدر على معرفة قيمة مناطق "سورية" من الناحية التجارية: الأسواق والمدن، المرافئ، المواصلات وبالتالي على تبرير المطلب وفق اتساع المصالح الفرنسية ومناطق تواجدها وإمكانات إنمائها. تحدد رسالة غرفة تجارة مرسيليا مطلبها بالصيغة التالية: "ان سورية الكاملة هي التي تمتد شمالاً من جبال طوروس والجبال المقابلة لها الى خط ينطلق جنوباً من العريش على المتوسط ويتجه نحو مرفأ العقبة في نهاية خليج العقبة الذي هو عبارة عن لسان بحري في البحر الأحمر. ومن الفرات شرقاً حتى البحر غرباً. ولا يمكننا في الواقع ان نرضى كما كان الامر في وقت معين، سورية التي تقتصر على رقعة ساحلية تمتد من اللاذقية الى غزة وإلى وادي العاصي والأردن. وإنما يجب ان تضم سورية حتماً كل ولاية حلب مع مرفأ الاسكندرون التابع لها وكذلك كل ولاية أضنة في حدودها الادارية الحالية. وبدون شك فإن فلسطين وولايتي بيروت مع لبنان وسورية دمشق لا يمكن التغاضي عنهما". وبعد ان تعرض الرسالة في مذكرتها الملحقة "القيمة الاقتصادية لسورية": أسواقها، وأراضيها الزراعية ومرافئها وتجارتها تخلص الى القول: "وبما ان بريطانيا تسعى الى الاستيلاء على بلاد ما بين النهرين، وبما انها تعترف بحقوقنا في سورية، فمن المؤكد انه في إمكاننا الاستناد - بغض النظر عن كل الاعتبارات التاريخية والأخلاقية التي تؤكد عليها الرسالة - الى الحجة الدامغة للمصالح الحالية والممكنة التي تعرضها المذكرة...". لكن "أماني" رجال الاقتصاد كانت تصطدم بحدود امكانات الدولة الفرنسية وحدود مشاركتها في الحرب، لا سيما من ناحية الجبهة الشرقية. فغلبة الدور العسكري البريطاني من ناحية العراق ومن ناحية السويس، كانت تفرض تقسيماً لمناطق النفوذ في بلاد الشام يأخذ في الاعتبار حسابات بريطانيا الاقتصادية والاستراتيجية في الشمال الشرقي الموصل والجنوب فلسطين، وهذا ما عبّرت عنه على كل حال صيغة سايكس - بيكو المعروفة ووعود بريطانيا الى الشريف حسين، وترجمه الصراع الديبلوماسي البريطاني - الفرنسي بعد الحرب. فالمشاريع التي انتجتها الحرب لم تكن ابداً في حجم الآمال الفرنسية التي علقت في مرحلة ما قبل الحرب. او في المرحلة التي "نبهت" فيها غرفتا تجارة ليون ومرسيليا الحكومة وطالبتها بسورية "كاملة". بانتهاء الحرب، تعود غرفة تجارة ليون على الفور - وكان خبر اتفاقية سايكس - بيكو قد شاع - لترفع في 25 تشرين الأول اكتوبر 1918 رسالة الى وزير الخارجية تذكره برسالتها الاولى المقدمة في 7 حزيران 1915 وتعترض فيها الآن على اتفاقية 1916. تقول: "ان حصة فرنسا في سورية تبدو مختلفة كلياً عن تلك التي حق لنا ان نأمل بها. لقد انحسرت الآن الى شريط ساحلي بسيط، فلم يعد لسورية تلك السمة الجغرافية التي عرفناها قبل الحرب. لقد حذفت منها ثلاث مناطق مهمة: حلب، الموصل، دمشق. وهي مناطق ستقام عليها امارات عربية، بل اكثر من ذلك، ان انكلترا تحتفظ لنفسها بمرفأي عكا وحيفا بينما يعلن مرفأ الاسكندرون مرفأً حراً". وتضيف رسالة غرفة تجارة ليون: "اذاً من الناحية الاقتصادية تقلصت سورية كثيراً فلم يعد لها سوى مرفأين: طرابلس وبيروت. وفي المقابل فإن حيفا التي هي الآن رأس خط حديدي واسع المجرى يمكن ان تصبح خلال بضع سنوات نهاية شبكة تمتد من الهند الى المتوسط، تستقطب كل حركة تجارة الداخل. وبذلك تكون اذاً افضل من بيروت التي هي نهاية لخط طوله 96 كلم ويتخلله 35 كلم "سلسلة اسنان". ومن ناحية نفوذنا التاريخي في الشرق، فإن منح دمشق الى امارة عربية يعدل كلياً السمة التقليدية لسورية، فبهذا لا تعود إلا بلداً منفوخاً من الأعلى يقصد الشريط الساحلي وغارقة في ما عدا ذلك في المجهول. ذلك انه من يستطيع ان يعرف من سيكون الأمراء العرب الذين سيحكمون دمشق؟ بأي شكل ولمصلحة من سيستثمرون هذا "الامتياز الديني" المرتبط بمدن الاسلام؟ أكلّ هذه الحواضر المقدسة: دمشق، بغداد، القاهرة، مكة، والتي كانت سابقاً مراكز الخلفاء الأقوياء، ينبغي ان تعطى لإنكلترا؟... ومصير مستعمراتنا في شمال افريقيا ألا يتوقف الى حد ما على الحالة الفكرية التي تهيمن في المشرق؟". بناء على هذه الاسباب، تطالب غرفة تجارة ليون بإعادة النظر في بنود اتفاقية 1916 والمبرر الظرفي هو "ان احداثاً عدّلت الموقف. فمن جهة زوال روسيا القيصرية، ومن جهة ثانية دخول دولة عظمى هي الولاياتالمتحدة الاميركية الحرب". وتكرر رسالة غرفة تجارة ليون، تذكيرها برسالة 1915، وبمطالب الفرنسيين المقيمين وذوي المصالح في سورية: "والذين تستحق تجربتهم ومعرفتهم ببلاد الشرق ان تؤخذا في الاعتبار، والذي يطلبه هؤلاء كشيء اساسي لمصالحنا ونفوذنا ان تمنح دمشق وحلب واستطراداً الموصل الى منطقة النفوذ المخصصة لفرنسا". هذه الأفكار يستعيدها في شكل اوضح تقرير كتبه الرئيس العام للإرسالية اليسوعية في سورية الذي عاش فترة طويلة في البلاد. والتقرير يلحق برسالة مؤرخة في 30 تشرين الاول 1918، موجهة من رئىس مجلس الوزراء ووزير الحربية الى وزير الخارجية بهدف الاطلاع عليه والاستفادة منه: اولاً: بالنسبة الى دمشق والموصل وحلب، يشير التقرير "ان هذه الاراضي هي اراض سورية وأن فصلها عن هذه البلاد، لدمجها في دولة سيكون مركزها السياسي في مكة، هو فصل اعتباطي". ثانياً: ان التخلي عن مرفأي حيفا وعكا لبريطانيا واعتبار مرفأ الاسكندرون مرفأً حراً "يحرم فرنسا من المنفذ الطبيعي لتجارة اكثر من نصف املاكها. ذلك ان حركة التجارة ستختار طريق دمشق - حيفا مفضلة اياها على خط دمشق - بيروت. وهذا الاختيار سيفرض نفسه بصورة اكبر عندما تصبح حيفا في غضون وقت قصير رأس خط حديد يربط ما بين الهند والمتوسط. وينتج ايضاً عن فتح مرفأ الاسكندرون بصورة حرة ان تخسر فرنسا امكان الاستفادة من رسوم اي ترانزيت في شمال سورية". ثالثاً: اعتراض ثالث ربما يكون اكثر خطورة وهو ناتج عن كون دمشق ستفصل عن سورية لتضم الى كونفيدرالية عربية، بذلك تفقد فرنسا امكان الاستفادة من احدى المدن الاسلامية المهمة. وفي المقابل، فإن روابط انكليزية من شأنها ان تشد هذه الكونفيدرالية الى انكلترا. بذلك تكون حليفتنا قد وضعت يدها على مدن الاسلام الثلاث: مكة، دمشق، القاهرة. ولن نكون حينها مبالغين اذا شددنا على مخاطر النتائج المتأتية عن هذا الوضع. فمن تلك المراكز التي تستأثر باحترام كل مسلم يمكن ان تنشأ تيارات افكار، وشعارات لا نستطيع ان نمارس عليها اية رقابة. ويمكن ان يمتد تأثيرها الى شتى انحاء امبراطوريتنا الاسلامية. اذاً ليس في التخلي عن دمشق خسارة فحسب لممتلكاتنا الآسيوية، بل ايضاً خطر على توازن ممتلكاتنا في شمال افريقيا". وبعد صراع ديبلوماسي حاد بين الدولتين، استخدمت فيه الصراعات المحلية في المنطقة ومن بينها الاتجاهات السياسية والوفود، أسفر الصراع عن اتفاق 15 ايلول سبتمبر 1919 المعروف، الذي شكل التمهيد لمقررات سان ريمو. ففي مقابل جلاء الجيش البريطاني عن سورية وكيليكية واستبدال جنود فرنسيين بهذه القوى، نال الانكليز من الفرنسيين المكاسب الآتية: عدم المطالبة بإدخال ولاية الموصل ضمن الحدود السورية. وعدم المنازعة في تقرير مصير فلسطين، اي ان تكون لبريطانيا. وعدم المنازعة في وضع العراق تحت الانتداب البريطاني. وبقاء مقاطعة شرق الأردن تحت الاحتلال البريطاني. بهذا الاتفاق تحددت ضمناً الخطوط العامة "لسورية الفرنسية". ولكي تثبت هذه الهيمنة الفرنسية كان لا بد من أمرين: ضرب الحركة العربية في دمشق وازاحة فيصل وإثبات ان لا جدوى من تطبيق اتفاق فيصل - كليمنصو. وتنظيم سورية تنظيماً يضمن السيطرة عليها عبر مشاريع التجزئة. ومن الملاحظ ان الأمر الأول درس درساً مستفيضاً في كتب وثائقية وعامة. اما الأمر الثاني فلم يدرس على حد علمنا دراسة وافية. وعلى كل، استوقفنا عدد كبير من الوثائق في محفوظات وزارة الخارجية الفرنسية حول هذا الموضوع منها دراسات وتقارير ذات طابع سوسيولوجي يعود بعضها الى ما قبل الحرب، ومنها ايضاً مراسلات سرية بين المسؤولين بعد الحرب، لا سيما بين غورو وميلّران في المرحلة الاولى من تنظيم الانتداب على سورية. وقد ارتكزت المشاريع الادارية السياسية التي حملتها المراسلات الى حد كبير على التقارير والدراسات السوسيولوجية الوصفية التي قد نعود لها في مقالات لاحقة. * مؤرّخ لبناني.