لم يكن صيف لبنان في مستوى التوقعات التي حملتها عودة رفيق الحريري الى الحكم. كان اللبنانيون يأملون في الحصول على مكاسب اقتصادية موازية للمكاسب السياسية التي حققتها اصواتهم لزعيم بيروت الجديد. خصوصاً بعدما حطّمت شعبيته كل العوائق والمحاذير التي وضعتها اجهزة الدولة في طريق عودته. والمؤكد ان حجم التفاؤل كان اكبر بكثير من قدرة الحريري على تنفيذ معجزة النهوض بدليل ان البلاد اصيبت بشلل الكساد والبطالة وهاجس الخوف من خفض قيمة الليرة بنسبة قابلة لمكافحة التضخم. وكان من الطبيعي ان تسيطر هذه المخاوف على عقول الناس بسبب الشحن الاعلامي المتواصل الذي تنشره انتقادات رجال المعارضة وتحذيراتهم من تطور الازمة المستعصية الى وضع شبيه بوضع "جمهورية فايمر" عام 1929. اي عندما كان المواطن الالماني ينقل في عربته كيساً مليئاً بالاوراق النقدية لكي يدفعها ثمن وجبة عشاء في مطعم عادي. ولقد أفرز ذلك الانهيار المروع الحركة النازية التي أطلت من ظروف الفقر والعوز وصفوف الباحثين عن عمل امام المصانع المقفلة، او المفتشين عن البقايا بين براميل القمامة. وبما ان المجتمع التعددي الموزع الولاءات لا يسمح بظهور زعيم أوحد في مجتمع غير موحّد مثل لبنان، فان أمل الانقاذ حتى عن طريق حاكم مستبد يبدو امراً مستحيل الانجاز. كذلك تظهر عملية الخلاص بواسطة الجيش الوطني ضرباً من المستحيل لان الجيوش البديلة وفي طليعتها جيش "حزب الله" اخذت عن الجيش النظامي ادواره الاساسية في حماية الحدود وضبط الامن الخارجي. لهذه الاسباب وسواها حصر زعماء لبنان مهمة الانقاذ بالشريك السوري الذي يعطي كل سياسي حصة محدودة من اوكسجين السلطة تعينه على البقاء اطول مدة ممكنة تحت سطح المياه الآسنة. والملاحظ ان هذا الشريك عاد ليجيّر الى حكومة الحريري تفويضاً جديداً يعينها على تمرير المرحلة الحرجة الممتدة حتى نهاية العام الحالي. اي المرحلة التي تنبأ لها النائب السابق نجاح واكيم بالانهيار الكامل استناداً الى مجموعة ارقام وفّرها له الدكتور حسن الخليل وسواه ممن يعتقدون بأن لبنان لن يجتاز نهاية هذا العام بخير وسلامة. وحجة واكيم ان الديون المتراكمة تجاوزت الارقام الرسمية المعلنة البالغة 23 بليون دولار، وان الحل يكمن في تغيير الطبقة السياسية العفنة التي تبيع البلاد باسم الخصخصة. ومع ان نواب المعارضة لا يشاطرون واكيم هذه النظرة التشاؤمية الا ان غالبيتهم تؤيد دعوته الى خفض الانفاق العام كمدخل لتعزيز الثقة في الاصلاحات الاقتصادية. ولقد تجاوب الرئيس لحود مطلع هذا العام مع المساعي المتعلقة بمواجهة الازمة الاقتصادية الرازحة تحت عبء دين عام مرتفع جداً... وعجز في الموازنة يتجاوز الخمسين في المئة. وكان لهذا التجاوب الصدى المطلوب في وزارات الاعلام والدفاع والداخلية والتربية، الامر الذي ادى الى تخفيضات تقدر بملايين الدولارات سنوياً. يقول بعض خبراء الاقتصاد ان الرئيس الحريري سيواجه قريباً استحقاقات الشهور الستة التي طلبها من المسؤولين والمجموعة الدولية بهدف تجنب ازمة مالية خانقة. وهذا ما وعد بانجازه في الاجتماع في باريس شباط/ فبراير بحضور رئيس البنك الدولي جيمس ولفنسون والرئيس جاك شيراك ورئيس المفوضية الاوروبية رومانو برودي. وربما تضطره حركة الاصلاح المتعثرة الى المطالبة بستة شهور اضافية لانه يرفض اعتماد الحل التركي القاضي بتخفيض قيمة الليرة. وهو حل انتحاري يعرف الحريري جيداً ان تنفيذه يشكّل "كعب أخيل" بالنسبة لبرنامجه الاصلاحي. ويرى نواب كتلته ان سمعته قامت على دعم سعر الليرة، وان قرار التخفيض سيؤثر على المصارف اللبنانية التي غطّت 80 في المئة من اجمالي الدين العام بالليرة اللبنانية والعملات الصعبة. وهناك من يرى ان المحافظة على هذا الوضع يعتبر بمثابة المحافظة على ورقة التين التي تستر عري الحكومة. خصوصاً وان سورية تولت عنها مسؤولية القضايا الخارجية والشؤون الداخلية، في حين حمل عنها "حزب الله" مهمة تحرير الجنوب. هذا الاسبوع فاجأ امين عام "حزب الله" السيد حسن نصرالله رئيس الحكومة باعلان سلسلة مواقف تتعلق بتعاونه الايجابي مع الدولة وبأهمية دوره السياسي والاجتماعي في التغلّب على الازمات التي تعصف بلبنان. ولقد تباينت الاستنتاجات حول تفسير كلام الامين العام، خصوصاً وانه أُعلن في اعقاب زيارات قام بها للبنان كل من المبعوث الاميركي وليام بيرنز ومدير دائرة الشرق الاوسط في الخارجية الروسية اندريه فيدوفين والمبعوث الاوروبي لعملية السلام ميغال موراتينوس. ومع ان بيرنز تطرق في احاديثه الى موضوع المساعدات الاقتصادية، الا ان رسالته السياسية كانت واضحة وصريحة مثلها مثل رسائل المبعوثين الاوروبي والروسي. اي الحث على ضبط النفس ووقف التصعيد في الجنوب، وتخفيف حدة التوتر خوفاً من نشوب حرب اقليمية واسعة، ويرى المراقبون ان "حزب الله" لم يأخذ في الاعتبار مخاوف الدول الكبرى من اتساع الانفجار الاقليمي، قدر حرصه على تفادي التسبب في تفشيل برنامج الحكومة لئلا يحمّله الرأي العام مسؤولية الانهيار الاقتصادي. ومن المؤكد ان الاعلان عن تسهيل مهمة الحريري من قبل "حزب الله" لا يفيد الحكومة الا اذا تُرجم التعاون الى استقرار امني، ولكنه على الاقل يفيد الحزب اعلامياً، ويعفيه من تهمة اعاقة بناء عمليات التنمية والتحديث. ومعنى هذا ان المقاومة اعلنت عن مسؤوليتها المشاركة في انقاذ الوضع الاقتصادي، آملة الا يصطدم منطقها بمنطق الدولة في المستقبل. اهم ما اوضحه السيد حسن نصرالله في "ندوة الضاحية الجنوبية" اعلانه "بأن تركيبة لبنان لا تسمح بقيام جمهورية اسلامية، وبأن الحزب هو حركة ايمانية تحافظ على الحريات العامة، وتعتبر التنوع الديني والثقافي في لبنان مصدر غنى وقوة". وربما يعكس هذا التوجه افكار الرئيس الايراني محمد خاتمي الذي صوّر دور لبنان في هذا الاطار عندما دعي لالقاء محاضرة في جونيه قبل سنوات عدة. وكان بهذا الطرح يردّ يومها على دعوة الاصوليين المتشددين في طهران، اولئك الذين شجعوا قيادات شيعية على القيام باعلان جمهورية اسلامية في الجنوب وبعلبك تكون الثانية في المنطقة. وبرّر المحرّضون الايرانيون في حينه هذه الخطوة بانتفاء وجود دولة لبنانية مركزية خلال الثمانينات، اضافة الى الاعتماد على اكثرية شعبية، وعلى اعتراف ايران بشرعيتها. وقوبل هذا الاقتراح بمعارضة غالبية اعضاء الوفد اللبناني الذين اعربوا عن تخوفهم من تفكيك وحدة لبنان بعد ظهور دويلات صغيرة تستقوي كل واحدة منها بدولة خارجية. وقال احد مشايخ بعلبك ان الاعلان عن جمهورية "اسلامستان" في الجنوب، يقود تلقائياً الى اعلان دولة "مارونستان" في كسروان، ودولة "دروزستان" في الجبل. السؤال المطروح في الصحف في اللبنانية يتعلق بتوقيت اعلان ثوابت "حزب الله"، والحاجة الى تصحيح بعض الاتهامات التي يعتقد نصرالله انها موجهة نحو الحزب لاسباب سياسية محلية، وهو عندما تحدث عن استحالة قيام جمهورية اسلامية داخل التركيبة اللبنانية، انما كان يردّ على القائلين بأن معارضة "حزب الله" لانتقال الجيش الى الجنوب، يعود الى غايات مبيّتة اقلها ابقاء المنطقة فارغة من سلطة الدولة كتوطئة لاقامة جمهورية اسلامية فوقها. ويرى مروّجو هذه الفكرة ان استهداف عائلات مسيحية في حملة الابعاد والتهجير انما يصبّ في هذا المعنى. ولكي يزيل هذه الشكوك اعلن نصرالله ان المشروع الداخلي للحزب لا يختلف في جوهره عن الخطوط العريضة لاتفاق الطائف، اي تثبيت السلم الاهلي، ومنع العودة الى الحرب الاهلية، والحفاظ على العيش المشترك، واعتماد الوسائل السياسية، وصيانة الحريات العامة. وهذه كلها مبادئ مناقضة لفكرة الحزب الواحد، او فكرة قمع الحريات باسم الايمان واحتكار كلمة الله. ويرى السيد نصرالله ان مهمة "حزب الله" لا تنحصر بمقاومة الاحتلال فقط، وانما تتعداها الى مهمات داخلية تتعلق بحقوق الناس ورفع الظلم عنهم. كما تتعلق بالمشاركة في عملية الاصلاح السياسي، ومعالجة الازمات المالية والمعيشية، والدخول في صلب النظام مع كل ما يقتضيه التمثيل النيابي من تبعات. ومع ان السيد نصرالله لم يتطرّق في كلمته الى موضوع السيادة الوطنية واستقلال القرار الحر، الا انه تحدث عن الطوائف الاخرى كمصدر قوة، معتبراً ان التنوع الديني والثقافي قد أغنى الوطن الصغير. ومثل هذا التصور العقائدي يقود منطقياً الى الاعتراف بالفريق الآخر، والقبول به شريكاً في الواجبات والحقوق والمواطنية. ويستدل من هذه الطروحات ان "حزب الله" وجد المخرج التوافقي للتنزه عن المذهبية والطائفية، مؤكداً انه يرفض اتهام جماعته بزراعة الحشيشة او تصنيعها او المتاجرة بها، لانهم يمثلون حركة نهوض واصلاح وجهاد، اي انهم يمثلون تيار التغيير في مجتمع لا يتغير. يبقى سؤال اخير: هل هناك صلة بين توقيت اعلان موقف "حزب الله" وبين احداث الضفة وغزة؟ المعلومات تشير الى استحالة وقف الانتفاضة لان شارون يستفيد من تأجيجها لاستكمال خطة الفصل ومواصلة تهويد النقب والجليل. ولم تكن زيارته الاخيرة لمرتفعات الجولان، سوى تأكيد على سياسة التحدي وتوسيع رقعة الاستيطان، يشهد على ذلك رفضه المتواصل لكل الحلول المطروحة، بدءاً بالمبادرة الأردنية المصرية وانتهاء بتقرير لجنة ميتشل. وهو في هذا السياق يتحرك بدافع الانتقام من لبنان الذي حرمه من الانتصار في اجتياح 1982، كما اغرقه مجدداً في برك الدماء التي سالت من ضحايا صبرا وشاتيلا. وخشية ان يعرضه ماضيه المظلم للمثول امام محكمة العدل الدولية فان الادارة الاميركية مقتنعة بأنه سيقدم على مغامرة عسكرية بهدف محو صورة المجرم واستبدالها بصورة المقاتل. وليس ادل على هذه الخطة، من الشبكات الدفاعية التي تقام امام قرى الجليل الاعلى خوفاً من القذائف الصاروخية التي يملكها "حزب الله". ومع ان الشبكات الست المعدّة لاعتراض ال"كاتيوشا" لن يُستكمل بناؤها قبل ثلاث سنوات، الا ان القيادة العسكرية باشرت في تثبيت واحدة منها بمعاونة خبراء اميركيين. والسبب ان اسرائيل تعتبر الصدام مع سورية و"حزب الله" قدراً محتوماً يصعب تحاشيه، الا انها متخوفة من اتساع رقعة الحرب لتشمل الجبهة الشرقية وانضمام العراقوايران اليها. وهي في هذه الحال مصمّمة على شن هجوم وقائي يستهدف البنية التحتية اللبنانية والقوات السورية في لبنان. اثناء زيارته الاخيرة للمنطقة اثار وزير الخارجية الاميركي كولن باول مع بعض الزعماء العرب امكان تحريك المسار السوري المجمّد في حال بقي المسار الفلسطيني معطلاً. وذُكر ان السفير مارتن انديك هو الذي طرح هذه الفكرة لأن السلام مع سورية في نظره، اكثر اهمية ومركزية من السلام مع السلطة الفلسطينية. وكان بهذه المفاضلة ينظر الى مصالح الولاياتالمتحدة في الشرق الاوسط. ويبدو ان شارون رفض الأخذ بهذا الاقتراح لاقتناعه بأن الازمة مع الفلسطينيين اشد إلحاحاً واكثر خطورة واقوى تداخلاً. وعليه قرر الدخول من هذا الباب اولاً... * كاتب وصحافي لبناني.