الامم المتحدة، بشقي حفظ السلام والامانة العامة، ليست بريئة من الاخطاء في تناولها كامل قصة شريط الفيديو الذي تم تصويره السنة الماضية في منطقة عمليات القوة الدولية في جنوبلبنان يونيفيل في اليوم التالي لعملية خطف "حزب الله" لثلاثة جنود اسرائيليين عبر الخط الازرق في منطقة مزارع شبعا. لكن اختلاق اسرائيل ازمة مضخمة مع الاممالمتحدة بذريعة الشريط لها اهداف سياسية على الساحة اللبنانية - السورية - الاسرائيلية كما على الساحة الفلسطينية - الاسرائيلية. تريد حكومة رئيس الوزراء ارييل شارون في الدرجة الاولى تحييد الاممالمتحدة ضمن سياسة الاستفراد بالفلسطينيين. كما تريد ضرب صدقيتها لئلا يستمر الوضع الراهن في منطقة عمليات قوات الاممالمتحدة في جنوبلبنان وفي الجولان حيث قوة فك الاشتباك اندوف. ففيما تعتبر "اندوف" واضحة الولاية والمهمات، تفتقد "يونيفيل" وضوح الولاية وهي معرضة للاستقطاب وللزوال، من هنا اهمية قصة شريط الفيديو السخيفة، ولهذا ضرورة الوعي للاستدراك. فلسطينياً اولاً. ان الهدف الرئيسي لحكومة شارون من الحملة على الاممالمتحدة هو الحؤول دون قيام ما يسمى "الثلاثي الاساسي" الضروري للضغط على اسرائيل: نفوذ القوة الرئيسية في العالم، اي الولاياتالمتحدة، والنفوذ المالي الذي يمثله الاتحاد الاوروبي، ونفوذ الشرعية الدولية التي تتولاه الاممالمتحدة. نجح ارييل شارون نسبياً في تحجيم النفوذ الاميركي، وساعدته في ذلك رغبة الادارة الاميركية في الابتعاد عن الملف. والاتحاد الاوروبي اوضح انه ممول عند الحاجة بعد ان تنجز السياسة ما عليها انجازه، ثم ازدادت ايديه تربطاً نتيجة القضية ضد شارون في بلجيكا بتهمة ارتكابه جرائم حرب، فحيّد كأمر واقع. والاممالمتحدة ازدادت نشاطاً ورغبة في استعادة وزنها ومساهمتها في صنع السياسة نحو الشرق الاوسط فجاءت بخطر نفوذ الشرعية. ولأن الامين العام كوفي انان انتُخب لولاية ثانية، كان لا بد من سحب البساط قبل ان يفكر في التخلي عن نمط الحذر البالغ واستبداله بنمط المبادرة الى وضع نفوذ الشرعية في واجهة الاحداث. اولى حلقات اهداف التحييد للامم المتحدة هي ضرب فكرة وجود الرقابة الدولية لتنفيذ توصيات لجنة جورج ميتشل من جانب فلسطين واسرائيل، وهذه التوصيات هي خريطة الطريق للعودة الى المفاوضات على الوضع النهائي. حكومة ارييل شارون لا تريد كامل التوصيات لأنها تريد فقط مجرد مرحلة انتقالية اخرى وترفض كل ما من شأنه ان يقود، بالتزام، الى مفاوضات على الوضع النهائي للعلاقة الفلسطينية - الاسرائيلية. ولأن الاممالمتحدة عملت في الفترة الاخيرة على اقناع واشنطن بضرورة الموافقة على فكرة "التحكيم" او مراقبة من ينفذ توصيات ميتشل ومن يخرقها، كان "تدخلها" خطيراً وكان ضرورياً قطع الطريق عليها وعلى فكرة المراقبة وللايضاح ان هذه ليست فكرة المراقبة الدولية لتوفير الحماية للفلسطينيين، وانما هي فكرة مراقبة بتنفيذ الالتزام بتوصيات لجنة ميتشل. لكن هذه التوصيات شملت تجميد الاستيطان وفك الحصار ووقف الخناق الاقتصادي وهذا ما لا يريد شارون تنفيذه. لذلك باتت الاممالمتحدة، في رأي حكومة اسرائيل، عثرة. باتت عثرة تماماً لأن واشنطن تعثرت في ما زعمت أنها في صدده، فحيّدت نفسها عملياً، وهذا يلاقي ترحيب شارون. ولأن الاتحاد الاوروبي بحكم رئاسة بلجيكا له حيّدته الدعوى ضد شارون، فقد طاوع بذلك رغبات رئيس حكومة اسرائيل في تحييد الاتحاد الاوروبي. فبقيت الاممالمتحدة عثرة لا بد من ازالتها لانجاز هدف تحييد الثلاثي كي تنفذ اسرائيل شارون غايات الاستفراد. هذا لا يعني ان الاممالمتحدة كانت في وارد التحالف مع الفلسطينيين في وجه الخروقات الاسرائيلية المستمرة، اقله تلك التي ترتكبها بصفتها القوة القائمة ضد المدنيين تحت الاحتلال. بل ان الاممالمتحدة، كأمانة عامة وكمجلس امن، مقصّرة جداً في التصدي للخروقات الاسرائيلية غير الشرعية من سياسة الاغتيالات الى الخناق الاقتصادي الى هدم المنازل واقامة المستوطنات. غير ان بعض البيانات التي اصدرها الامين العام وبعض تصريحاته وبعض ما يقوم به هو ومبعوثه الخاص لعملية السلام، تيري رود لارسن، افادت بأنه قد يكون في ذهنه وذهن طاقمه درجة اقل من الحذر. ولذلك كان مفيداً لحكومة شارون تقزيم طموحات آتية من جانب الاممالمتحدة واحتواء ما للانتقادات الصادرة عنها من آثار. هذه الآثار، على الساحة الاسرائيلية الداخلية لها شقان: الشق المتعلق بالتنافس الدائم بين اقطاب السياسة الاسرائيلية بين حزبي ليكود والعمل وفي داخل معسكر كل من الحزبين. والشق المتعلق بالرأي العام الاسرائيلي. فهناك انطباع بأن "محبة" الاممالمتحدة لليكود ولشارون اقل من محبتها للعمل ولبيريز. وشارون اراد تقويضها في هذا الاطار. لكن ضرب صدقيتها وتقويضها مفيد له اكثر في اطار التأثير في الرأي العام الاسرائيلي. فمعظم العالم ينتقد اسرائيل، ثنائياً وجماعياً، بدرجات متفاوتة أما انتقاد الاممالمتحدة لسياسات حكومة شارون فهو ذو وطأة مختلفة يمكن ان تؤثر في آراء الاسرائيليين في حكومة شارون. وعليه فإن في تضخيم قصة شريط الفيديو "فوائد" عدة لشارون على صعيد السياسة المحلية، اذ يمكن تحويلها الى قضية عاطفية انسانية اساءت الاممالمتحدة التعامل معها، وهي مفيدة في سياسة تحييد "التدخل" الدولي للفرض على شارون وقف مغامراته الخطيرة مع الفلسطينيين وفي القصة ما يكفي من اخطاء ارتكبتها الاممالمتحدة قابلة للاستخدام الاسرائيلي لها على الساحة اللبنانية - السورية. فالقصة لن تنتهي سريعاً لأن مصلحة شارون تكمن في عدم انهائها سريعاً. انها ذخيرة غالية لن يسقطها من يديه بسهولة. ولذلك، حسناً فعل الامين العام باتخاذه قرار اجراء تحقيق في خلفية ما حدث للشريط، في مرحلة اختفائه او اخفائه، وفي مرحلة نفي وجوده ثم الاعتراف به، وكذلك في مرحلة كيف تم تسريب وجوده الى اسرائيل. من الضروري اجراء التحقيق الكامل للاطلاع على كل ما في حوزة قوة الاممالمتحدة الموقتة في جنوبلبنان يونيفيل من اشرطة او وثائق مصورة او صور لئلا تقع الاممالمتحدة مرة اخرى في الواقعة التي هي فيها اليوم. فأزمة الفيديو وقعت لأن قوة "يونيفيل" في حال تخبط ولا كفاءة ولأن بعض رجال الامانة العامة ودوائرها في حيرة وغيرة، فالشريط صوره جندي عامل في قوة "يونيفيل" والقرار بعدم اهميته جاء نتيجة اجتهاد لشخص. وعدم الإقرار بوجوده كان قراراً سياسياً أحمقاً. والاعتقاد ان القصة ستموت فيه الكثير من السذاحة. فاذا كانت ستموت، فإن موتها سيكون بطيئاً بعد ان يرافقه المزيد من تآكل لصدقية المنظمة الدولية، والوسيلة الوحيدة لقطع الطريق على ذلك هو في تحمّل كوفي انان مسؤولية الاخطاء واتخاذ الاجراءات لمعاقبة من ارتكبها في اسرع وقت ممكن. فالحلقة الجديدة في مسرحية شريط الفيديو تتخذ مجلس الامن موقعاً لها حيث دعمت الولاياتالمتحدة موقف اسرائيل وطالبت الامانة العامة ان تسلمها الشريط بلا تحريف او اخفاء للوجوه. هذا تطور سيء جداً لأن الولاياتالمتحدة وقفت مع اسرائيل ضد قرار الامانة العامة بعرض مشاهدة الشريط بوجوه مخفية على اسرائيل مع التشديد على انها لن تسلمها الشريط ولن تعرضه للمشاهدة بوجوه الرجال الذين حاولوا منع قوات الطوارئ من نقل العربتين اللتين يُعتقد ان "حزب الله" استخدمهما في عملية أسر الجنود الاسرائيليين. وجهة النظر الاميركية هي ان افضل وسيلة لاقفال هذا الملف يكمن في الافصاح عن الشريط الاصلي كاملاً، خصوصاً ان التسجيل في حد ذاته خالٍ من المعلومات السرية وان صحافيين كانوا في المنطقة يصورون ما صورته الاممالمتحدة. وفي اعتقاد الديبلوماسية الاميركية ان اتخاذ انصاف الخطوات وانصاف الحلول في هذه المرحلة المتأخرة من قصة الفيديو سيزيد من تفاقم الاوضاع. فالموقف الاميركي يقوم على الكشف الكامل من اجل الاقفال الكامل للملف. الا ان هذا الموقف زاد من جهته في تعقيد الامور لأنه اتى بعدما كررت الامانة العامة تمسكها بموقفها وعلى مستوى مخابرة هاتفية بين كوفي انان وارييل شارون. والامانة العامة اوضحت انها لا تريد ان تقوم بأي ما من شأنه ان يعتبر تسليم معلومات استخبارية التقطت في لبنان الى اسرائيل. فكل ما كانت تقوم به الاممالمتحدة وقع بين الرفض الاسرائيلي لشريط يخفي الوجوه ورفض الحكومة اللبنانية العرض على اي من الطرفين مشاهدة الشريط باعتباره "سابقة خطيرة" لانطوائها على "نقل معلومات من داخل الاراضي اللبنانية الى العدو الاسرائيلي مما يشكل خروجاً عن مهمة القوات الدولية في الجنوب". اضافة الى ذلك دخل "حزب الله" الحلقة واتهم امينه العام قوات الاممالمتحدة بالتجسس لمصلحة اسرائيل "لانها قدمت معلومات اليها" بتسليمها عينات من الدم في سيارتي عملية الاسر ثاني يوم عملية الاسر. وتعهد "حزب الله" باعتبار قوات الاممالمتحدة "جواسيس لحساب العدو" اذا تم تسليم الشريط لاسرائيل. الاممالمتحدة وقعت في مأزق لكنها ليست وحدها في مأزق وليست وحدها من اوقع بها في المأزق. فحادثة شريط الفيديو توجه الانظار الى ازمة قوة طوارئ الدولية بلا ولاية واضحة تقع مهامها بين المراقبة وحفظ السلام، ومساندة الحكومة اللبنانية على استعادة سيطرتها في المنطقة التي انسحبت منها اسرائيل، والتقرير عن اختراقات خط الانسحاب وغير ذلك، وقصة الفيديو ستوجه الانظار مجدداً الى ما نفذته قوة ال"يونيفيل" من مهمات وما بقي عليها تنفيذه كما على ما قامت به الدولة اللبنانية وما لا تريد القيام به. فالدول المساهمة بالقوات، كما مجلس الامن، كما الامانة العامة لن تضع قوات "يونيفيل" في معادلة الاتهام والانتقام. والكلام يزداد ليس فقط عن خفض قوامها الى النصف مع نهاية السنة واعادة تعريف مهامها وانما ايضاً عن امكان سحب القوة الدولية اذا فرضت الظروف ذلك. لذلك، على الحكومة اللبنانية ان تقوّم بما هو في مصلحة لبنان، ان كان لجهة بقاء قوة "يونيفيل" فيه او لجهة مغادرتها له. فاذا قررت انها في غنى عن "يونيفيل" فلتواجه الصراع السياسي والابتزاز الاسرائيلي بحملة تخوين الاممالمتحدة وتهديد قواتها باعتبارها جواسيس للعدو تتحامل على المقاومة التي يقوم بها "حزب الله" ولا تفهم ان خطف جنود الاحتلال وأسرهم، حتى بما يخرق الخط الازرق، هو واجب وطني مبرر. اما اذا قررت ان استمرار تواجد قوة "يونيفيل" في الجنوباللبناني ضروري واساسي عليها تجنب استنفار المخاوف والانتقادات وتجنب المغالاة والمكابرة. فشريط الفيديو له علاقة بما اعتبره وكيل الامين العام لشؤون حفظ السلام جان ماري غينيو "خرقاً خطيراً للخط الازرق" نتيجة عبور "حزب الله" الخط لخطف الجنوب الاسرائيليين في مزارع شبعا وعبوره بهم اياباً لأسرهم في الجانب الآخر من الخط الازرق. وهناك في مجلس الامن من يرى ان من واجب "يونيفيل" المراقبة وتوفير المعلومات للجهتين اذا حدثت خروقات. هذا الى جانب من يريد فتح ملف غياب الجيش اللبناني عن منطقة الجنوب مجدداً، ومن يريد انهاء ولاية "يونيفيل" تماماً. لذلك، من الضروري التنبه الى ان قصة الشريط سخيفة اصلاً لأن التصوير جرى في غير موقع عملية الخطف وفي اليوم التالي لها، ومسلسل مطوّل فيه الكثير من المطبّات والغايات المبيّتة. وسيلة التنبّه لها تتطلب المعالجة الواقعية للحاجات ولكيفية حماية الاولويات من المهاترات.