الكتاب: مع التراث المؤلف: يوسف الشاروني "الأعمال الكاملة" الناشر: الهيئة العامة المصرية للكتاب من بين "الأعمال الكاملة" التي جمعتها الهيئة المصرية العامة للكتاب للكاتب القصصي المعروف والباحث يوسف الشاروني كتاب بعنوان "مع التراث" لا يقل قيمة عن بقية ابداعاته المتنوعة، صدرت هذه الأعمال الكاملة، في لفتة طيبة لتكريم هذا الكاتب الرائد، خصوصاً في القصة القصيرة، التي لم يصل كاتب آخر الى مستواها من حيث التقنية القصصية وأسلوب المعالجة حيث تترك كل قصة أثرها في النفس لا تنسى. "مع التراث" في ستة فصول تحمل العناوين الآتية: مع التراث القصصي، مع تراثنا الأدبي، مع تراثنا الهجري، مع التراث العماني وهذا الفصل مستوحى من سلطنة عمان حيث عمل الشاروني هناك مستشاراً في وزارة الإعلام لخمس سنوات خلت، جمع خلالها هذا التراث ودرسه وتابع مسيرته منذ زمن قديم الى جانب شخصيات تراثية، و: نصوص تراثية. وهو كتاب جميل فعلاً يختصر كتباً عدة في التراث بإلمام شامل للموضوع، فهو يؤكد فيه ان العرب عرفوا القصة في مرحلتها الشفوهية - التدوينية، كما عرفوها بعد ذلك في مراحلها الأخرى، وأنه ليس صحيحاً ان تراثهم اقتصر على الشعر الغنائي كما يقرر ذلك البعض عن سوء نية أو عن حسنها. ثم يقف الشاروني عند تراثنا الأدبي لا سيما أرق جانبين منه وهما: مؤلفات السير الذاتية أو أدب الاعتراف والمؤلفات التي تناولت موضوع الحب. كما يغوص المؤلف في التراث البحري الذي امتزج فيه الواقع بالعجائبي فنشهد تزاوج الإنسان بالحيوان، ونزور معه جزر النساء وبلاد الواق الواق. ونتابع قصة بناء السفن بلا مسامير، وهي تتأرجح بين الحقيقة والخيال. ويلتقط الكاتب من التراث العماني بعض الكنوز من منجمه البكر. ثم يقف أمام شخصيتين من أعظم شخصياتنا التراثية هما: الملاح العربي أحمد بن ماجد وهل ارشاده البرتغاليين الطريق البحري الى الهند حقيقة نفخر بها أم أكذوبة نبرأ منها؟ ثم سيرة أسامة بن منقذ الذاتية كما سردها في كتابه "الاعتبار". ثم يثبت الكاتب نصين من نصوصنا التراثية غير المتداولة مع عظم دلالتهما شكلاً وموضوعاً هما بعنوان: العفو عند المقدرة، واكتشاف قارة. القصة عند العرب ان خصائص القصة في المعنى الفني الحديث هي خصائص القصة المطبوعة، وقد سبقنا الغرب اليها لأنهم سبقونا في استخدام المطبعة. أما ما قبل عصر المطبعة فلا الغرب ولا الشرق العربي - كان يعرف - ولم يكن يمكن ان يعرف - القصة الحديثة. بل ان القصة الأوروبية الحديثة كان أحد روافدها الفن القصصي كما عرف عند العرب قبل عصر النهضة. يقول المستشرق الانكليزي جب، في كتاب "تراث الإسلام" ان "قصص العرب وآدابهم كانت بدء انقلاب مهم في تاريخ الأدب الأوروبي في مطلع القرن السابع عشر، فيومئذ كان ميلاد القصة الحديثة، وهذا سرفانتس نفسه كان مديناً للثقافة الأندلسية، وقصته دون كيشوث - كما صرح بذلك بريسكوت - اندلسية بحتة في ما ظهر فيها من لباقة وفطنة، فالقصة العربية المعاصرة - التي تأثرنا بها في قصصنا المعاصرة الى جانب مؤثرات أخرى من تاريخنا الأدبي - ليست الا مرحلة من مراحل هذه القصة سبقتها مراحل وستتلوها مراحل". أما ان العرب لم يعرفوا القصة الا في العصر العباسي عندما ترجم ابن المقفع كتاب "كليلة ودمنة"، فهذا القول يتجاهل تراثاً قصصياً ضخماً عرفه العرب قبل ذلك. ويريد ان يقول ان كل ما انتجه العرب من قصص منذ ذلك التاريخ - مثلما يقال اليوم عن القصة العربية الحديثة - ليس الا نتيجة الترجمة من شعوب أخرى، وهناك أكثر من دليل يثبت ان العرب عرفوا القصة قبل ذلك التاريخ، بل عرفوا قصص الحيوان التي يضم مثلها كتاب "كليلة ودمنة" على نحو ما نجد في أمثالهم، بل لقد ثبت ان قصص كليلة ودمنة ليس مترجماً كله بل ان ابن المقفع شارك في تأليفه. أدب الاعتراف أبرزت السير الذاتية في تراثنا العربي قضية حرية الكاتب والعلاقة بين العالم أو الفيلسوف أو الفقيه وبين السلطان... تلك العلاقة التي ما تكاد تصفو حتى تتكدر خصوصاً عندما يتداخل الدور الفكري مع الدور السياسي الذي كثيراً ما يطمح اليه الكاتب، إذ يؤثر هذا الدور على هامش الحرية المتاح، حتى ان بعض كتاب هذه السير دفع حياته ثمناً لما تصوره من حرية متاحة مثل لسان الدين الخطيب، مؤلف كتاب "الاحاطة في اخبار غرناطة" الذي يتضمن الجزء الرئيسي من سيرته الذاتية، فقد قُتل وأحرق رفاته، وكذلك حصل الأمر نفسه مع الشاعر عمارة بن الحسن اليمني الذي أُعدم في القاهرة عام 527ه. 1173م. والذي ترك لنا سيرته في كتابه "النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية". أما الشيخ ابن سينا 989-1036م فقد تعرض للسجن نتيجة خلل العلاقة بين الشيخ العالم والفيلسوف وبين السلطان، بل كاد ان يذهب ضحية هذا الخلل، وأملى ابن سينا سيرته على تلميذه أبي عبيدة الجوزجاني وهو في الثانية والثلاثين من عمره، ثم أكمل تلميذه بقية قصة حياة استاذه، وسجلها لنا ابن ابي اصيبعه في كتابه. معنى هذا ان سلطة العرف والتقاليد كان لها أثرها القوي في وضع حد لأدب الاعتراف في تراثنا العربي، كما ان سلطة الحاكم كان لها بدورها اثرها الواضح، ولعل هذا هو الذي طبع معظم سيرنا الذاتية بهذا الطابع "اللاشخصي" تجنباً للصدام مع السلطتين الفوقية والتحتية، أو السلطان والعرف. ... ويقودنا "طوق الحمامة" الى ان السيرة الذاتية قد نستخلصها من فقرات مبثوثة في كتاب لم يقصد به مؤلفه ان يكون سيرة ذاتية خالصة. وقد فعل آخرون الشيء نفسه مثل جلال الدين السيوطي الذي دوَّن سيرته الذاتية في أول كتابه "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة". وكان قصد منه ان يكون دائرة معارف لمصر. كما قد تتسع السير الذاتية فتشمل رواية الرحلات الجغرافية حيث لا تكون الرواية هنا مجرد معلومات جغرافية، بل يعبر راويها عن متاعبه وأفراحه ودهشته، ويتعرض لذكر حياته الخاصة كزواجه وطلاقه، وذلك على نحو ما روى ابن بطوطة في كتابه: "تحفة النظار، في غرائب الأمصار، وعجائب الأسفار". وقد تكون السيرة الذاتية أشبه بشهادة ميلاد صاحبها فيذكر بيان نسبه، ثم ما تلقاه من تعليم، وشيوخه الذين تلقى عنهم في زمن لم تكن الشهادات قد عرفت فيه بعد. ثم تتبع ما تقلده من مناصب على نحو ما فعل ابن خلدون في كتابه "التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً". وواضح ان المفهوم التراثي العربي للسيرة الذاتية يختلف اختلافاً جذرياً عن المفهوم الغربي، إذ هو أبعد ما يكون عن الاعتراف، ويرجع ذلك الى اختلاف البيئة والنظم والمناخ الاجتماعي والسياسي. وانتقالاً من أساطير البحر من حيتان بحجم السفن وسفن بلا مسامير، الى وصول العرب الى اليابان قبل ألف سنة، نقرأ عن "فجر العرب في عُمان" إذ تتشابه الأساطير والملاحم والقصص الشعبي ليس معناه بالضرورة ان احدهما منقول من الآخر. ذلك لأن تشابه الظروف يؤدي الى تشابه الأفكار ولكن لما كان مصدر الزير سالم هم عرب الجنوب أي من اليمن، ولما كان مالك بن قهم الأزدي كذلك من عرب اليمن، فهناك احتمال قائم بأن يكون مصدر الأساطير واحداً وان اختلفت تفاصيلها. فالتاريخ كلما بعد منا كانت حقائقه أكثر اختلاطاً بالخيال، لأن التدوين لم يكن عرف بعد، أو لم يكن يستخدم على نطاق واسع، فكان ينقله الرواة من جيل الى آخر، وكل جيل يحذف منه أو يضيف اليه بما يكون قد سمعه من قصص أخرى ليجعله أكثر تشويقاً للسامع. وتعرف هذه النظرية بنظرية التراكم الملحمي بالنسبة الى الملاحم والقصص الشعبي. والدليل على ذلك ان العلامة نور الدين السالمي لا يورد كلامه عن هذه الحقبة. من تاريخ عمان بألفاظ التأكيد بل بألفاظ التشكيك إذ يبدأ كلامه في "باب دخول العرب الى عمان وأخذها من يد الفرس"، بقوله: "وسمعت من يدعي المعرفة بذلك ويقول...". تحفة الأعيان - ص 20 وعندما يشير الى هناه بن مالك يقول انه لم يجد تاريخاً لموته ولا لمدة ملكه. وهذا أسلوب نجد المؤلف لا يستخدمه كثيراً في ما بعد. ويذكر ان مثل هذه الثغرات التاريخية كثيراً ما يملؤها خيال الرواة الذين كانوا يقومون آنذاك بدور المؤرخين. ويسترسل الكاتب، هنا، على معرفة دقيقة بأحوال هذه السلطنة العربية وبدور السلطان قابوس في تطوير بلاده على نحو كبير مما ينتقل فيه الموضوع من التراث الى المعاصرة. وهذا شأن آخر بحاجة الى الكتابة فيه بكثير من التفصيل.