قد يكون ابن المقفع أول كاتب في الأدب العربي القديم بالمعنى الحديث الذي يُعطى لهذه الكلمة. وهو كاتب حرّ وملتزم أيضاً استناداً إلى ما بثّ في كتبه عن عودة إلى الإصلاح والعمل على تغيير الواقع. وقد دفع حياته ثمناً لذلك، كما هو معروف، إذ أوعزت السلطة الحاكمة - أي الخليفة - بقتله. ومع أن له عدة كتب تضمنت ما يمكن تسميته برنامجاً لإصلاح أحوال زمانه، إلا أن كتابه الخالد الذي ما زال يُطبَع ويُقرأ إلى اليوم، هو كتاب كليلة ودمنة الذي كتبه ابن المقفع بأسلوب سهل ممتنع وحديث أيضاً، وكأن لغته لا تنتمي إلى القرن الهجري الثاني، بل إلى القرون الحديثة. وقد شُغل الباحثون المعاصرون بهذا الكتاب وحاروا في مسائل جوهرية تتصل به. فهل هو كتاب منقول عن الفارسية (ومن قبل عن السنسكريتية) أم هو من وضع ابن المفقع نفسه؟ وإذا كان منقولاً عن لغة أجنبية، فهل هو منقول حرفياً أم منقول بتصرف على عادة بعض الترجمات في الوقت الراهن؟ وما هو بالتالي حظه، وحظ ابن المقفع، من الإبداع؟. بداية يمكن القول إن ابن المقع قدّم كليلة ودمنة في أربعة أبواب كاملة، هي من اختراعه، ليؤكد من خلالها أن الكتاب ذو غايات سياسية محضة، لا تعليمية وحسب، وأنه دعوة صريحة للمثقفين، من فلاسفة وحكماء وعلماء ورجال دين، لالتزام واجبهم الأدبي والقيام بدورهم في مواجهة السلطة والأنظمة الحاكمة المستبدة مهما كان الثمن فادحاً والتضحيات باهظة. فالكتاب - من هذا المنطور - يحكي قصة الصراع في السلطة والثقافة، ولما كان هذا الصراع بينهما - بين السيف واللسان - غير متكافئ بالضرورة - فإنه يتوجب على العلماء التحايل، ومن صنوف الحيل هذه «وضع الكتب على أفواه البهائم والطير». ففي ذلك متسع لحرية القول (أو النقد)، وهنا يكمن إعجاب ابن المقفع بكتاب كليلة ودمنه، وهو من وضع أصوله علماء الهند من الأمثال والأحاديث القصصية، فقام بنقله - أي بترجمته (وهذا زعم غير صحيح تماماً) أو بالأحرى «بتفسيره» على حدّ تعبير صاحب «الفهرست»، وأنه - أي ابن المقفع - اشترط لقراءة هذا الكتاب، شروطاً ذات مغزى، سوف توقعه في المحظور السياسي الذي من أجله «تحيّل العلماء بصنوف الحيل». وهذه الشرود مجموعة في التعليمات الواردة في الكتاب: - ينبغي لقارئ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه (أي الأغراض) التي وضعت له، وإلاّ تكون غايته التصفح لتزاويقه. - ينبغي لقارئ هذا الكتاب إعمال الروية في ما يقرر، والقارئ العاقل هو الذي يعلم غرضه ظاهراً وباطناً. - ينبغي لقارئ الكتاب أن يديم فيه النظر من غير ضجر، يلتمس جواهر معانيه، ولا يظن أن نتيجته الإخبار عن حيلة بهمتين أو محاورة سبع لثور، فينصرف بذلك عن الغرض المقصود. - ينبغي لقارئ هذا الكتاب أن يعمل بما علم، ويجعله مثالاً لا يحيد عنه ودستوراً يقتدي به. - ينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض، صرّح ابن المقفع بثلاثة منها، تضليلاً، أما الغرض الرابع فلم يصرّح به، مع أنه (الأقصى) و(مخصوص بالفيلسوف خاصة). فما هذا الغرض الأقصى؟ يمكن وضع اليد بسهولة على هذا الغرض إذا وقفنا على أسباب وضع الكتاب، كما «زعمها» ابن المفقع. إن الأصل الهندي الذي أدعى ابن المقفع أنه نقل عنه ليس فيه هذا الزعم على الإطلاق، إذ يقول ابن المفقع إن الهند اختارت رجلاً من الشعب، تثق به، وملكته عليها. وعندما استقر له الملك طغى وبغى، وتجبّر وتكبّر، فلما رأى بيدبا الفيلسوف الملك، وما هو عليه من الظلم للرعية، فكر في صرفه عما هو عليه وردّه إلى والإنصاف. وجمع تلامذته للتفكير في حيلة لمواجهة الملك. فلما وافته تلامذته واجه الملك برأيه، فاستشاط غضباً لجرأته، وأمر بأن يُقتل بيدبا ويُصلب. ولكن في ليلة من الليالي سهد الملك، فبعث فأخرج بيدبا من السجن وعفا عنه. وطلب منه لاحقاً أن يضع كتاباً بليغاً يستفرغ فيه عقله، ويكون ظاهرة سياسة العامة وتهذيبها، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية. فاستجاب بيدبا ورتب فيه، كما يقول ابن المقفع نفسه، أربعة عشر باباً (مع أن الأصل الهندي خمسة فقط)، ثم جعله «على ألسنة البهائم والسباع والطير، ليكون ظاهره لهواً للخواص والعوام، وباطنه رياضة لعقول الخاصة. ولم يكن ليخفي مثل هذا الغرض الأقصى على عقل سياسي داهية مثل أبي جعفر المنصور، المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، في مثل هذه اللعبة ذات الحدّين، لعبة الصراع بين الثقافة والسلطة، الذي ما كان يسمح لأحد أن يشقّ عليه عصا الطاعة، فكيف إذا كان هذا «الأحد» مولى من الموالي؟ فلما بلغه أمر الكتاب، وتيقن من أنه دعوة سافرة لمعارضة حكمه، استشاط غضباً وأطلق عليه واليه على البصرة سفيان بن معاوية، الذي استقدمه لمحاكمته بحجة الزندقة، «فلما قدم عليه أمر بتنور، ثم أخذ يقطع جسده عضواً عضواً ويرمي به في التنور» أمام عينيه حتى لفظ أنفاسه، وكان عمره ثلاثين عاماً فقط! بعض الباحثين يرون أن خطأ ابن المقفع، وقد كلفه حياته على هذا النحو اللاّإنساني، يعود إلى تلك التعليمات التي وجهها للقارئ في كتابه، على نحو ما ذكرت آنفاً، ففيها بلغت انتباه القارئ إلى ما للكتاب من ظاهر غير مقصود وباطن هو المقصود. وبذلك يكون ابن المقفع قد فضح أمره وكشف ستره.. على أن أهم ما كشف عنه الباحثون المحدثون هو الهوية العربية الكاملة لكتاب كليلة ودمنة، بعد أن ظل لثلاثة عشر قرناً من الزمان مشكوكاً في نسبه ونسبته: في نسبه إلى الإبداع القصصي العربي، وفي نسبته إلى مؤلفه الحقيقي ابن المقفع الذي شاع خطأ أنه «ناقله» لا مبدعه، على الرغم من أن ابن المقفع نفسه لم يصرّح بترجمة الكتاب، وإنما هو استنتاج استنتجه، القدماء من قوله في أول سطر من تقديمه «هذا كتاب كليلة ودمنة، وهو مما وضعه علماء الهند» مشيراً بذلك إلى أمور منها التنبيه على مصادره الأساسية التي اعتمدها في تأليف الكتاب، كما تقتضي الحقيقة العلمية، ومنها رغبته في ترويج الكتاب وإضفاء قيمة أدبية عليه بنسبته إلى علماء الهند المعروفين آنذاك ببراعتهم في تأليف كتب الحكمة السياسية على لسان الحيوان. وهو أمر كان شائعاً بين كتّاب ذلك الزمان، كما يقول الجاحظ إذ كانوا يؤلفون الكتب وينحلونها غيرهم. وقد أشار الجاحظ إلى أن ابن المقفع كان من بينهم، مكتفين بالإشارة إلى أن دورهم لا يتعدّى النقل أو التفسير، ترويجاً وذيوعاً لها، وحتى يكثر انتساخها بين الملوك والسوقة على حد تعبير ابن المقفع. ويبدو أن إدعاء ابن المقفع نقل الكتاب عن الفارسية لم يَخْفَ على الأقدمين فأين عمر الكلبي المتوفى عام 400 هجرية قال إن ابن المقفع لم ينقل الكتاب عن الفارسية، وأنه نسبه إلى الفرس لغايات في نفسه إبان الصراعات الشعوبية بين العرب والعجم. كما ذكر ابن عمر اليمني صراحة أن الكتاب من «وضع» ابن المقفع، وأن مصادره متعددة، وأن هذا الأمر كان صنيع غيره من الكتاب. وهذا يعني أن صنيع ابن المقفع كان إبداعاً وليس ترجمة كما هو شائع، وإن انتفع بما عند الشعوب الأخرى من حكايات على لسان الحيوان. هذا مع الإشارة إلى أن كتاب كليلة ودمنه في صياغته العربية قد نجح في الارتقاء بفن القصة على لسان الحيوان من مستوى الأدب الشفاهي الشعبي ومن المستوى الديني الوعظي إلى مستوى الأدب الرسمي، أدب الصفوة، أي الأدب الكتابي أول مرة في الآداب القديمة. فقد عرفته الآداب الأوروبية فناً أدبياً رفيعاً بعد ترجمة كليلة ودمنة، وتوالي ترجماتها إلى اللغات العالمية منذ القرن الحادي عشر الميلادي. وقد خرجت من عباءة كليلة ودمنة، على المستوى العربي، فنون رسمية أخرى للصفوة مثل المطولات الشعرية وقصص الحيوان الطويلة، الفلسفية والسياسية والصوفية والاجتماعية مثل رسالة تداعي الحيوان على الإنسان لإخوان الصفا، ورسالة الصاهج الشاحج لأبي العلاء المعري.