مطلع الشهر المقبل تدخل الحرب الشيشانية الثانية عامها الثالث من دون أن تكون حققت أهدافها الأساسية. وثمة مؤشرات إلى أن هناك من يريد "الاحتفال" بسنوية الحرب بإلقاء المزيد من الحطب في نيرانها، إلا أن ثمة من يدعو إلى البحث عن مخرج معقول يقبل به المعتدلون من الجانبين. وعلى رغم أن الجنرالات كانوا وعدوا القيادة السياسية بإنهاء الحملة في غضون شهور أو حتى أسابيع وبأقل قدر من الخسائر، فإن الحرب استمرت سنتين، حتى الآن. وتشير الأرقام الرسمية إلى أن القوات الفيديرالية فقدت في هاتين السنتين زهاء 14 ألف قتيل وجريح، إضافة إلى أعداد أكبر فقدها الشيشانيون، من مسلحين ومدنيين. وبفعل تدمير البنى الاقتصادية، فإن نسبة البطالة بين الشيشانيين رَبَت على 85 في المئة والعاطلون عن العمل هم شريحة مرشحة لحمل السلاح. إذن، هل كان ثمة مبرر لهذه الأكلاف العالية؟ الرئيس فلاديمير بوتين أكد غير مرة أن الحرب كانت الخيار الوحيد للرد على عملية قام بها راديكاليون غزوا جمهورية داغستان في محاولة لإنشاء كيان شيشاني - داغستاني يصبح لاحقاً نواة لدولة تمتد من البحر الأسود إلى بحر قزوين ويسلخ شمال القوقاز عن روسيا. ويتحدث الساسة والكتّاب عن أهداف أخرى للحرب، ومنها التأثير في سير الانتخابات البرلمانية والرئاسية داخل روسيا، إلا أن أحداً لا يجادل في أن الذين قاموا بالمغامرة الداغستانية قدموا مبرراً لرد عسكري تحول حرباً شاملة أنهكت روسيا ودمرت الشيشان. وبدلاً من أن تستثمر موسكو استياء الرئيس الشرعي أصلان مسخادوف من الراديكاليين الذين عبروا الخطوط الحمر باجتيازهم حدود داغستان، فإنها دفعته إلى التحالف معهم في مواجهة غزو مضاد كان هدفه المعلن "مكافحة الارهاب"، لكنه صار حملة تأديبية يمارس خلالها العسف السافر ضد المدنيين وترتكب انتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان. وقدرت موسكو أن "تلغي شرعية" السلطة المنتخبة وتعين بدلاً منها إدارة مدنية برئاسة المفتي السابق أحمد قادروف، إلا أن السلطة الجديدة لم تقدم مبررات كافية لشرعية وجودها، بل إنها اضطرت أخيراً إلى الاستنجاد بالكرملين مطالبة بوقف جرائم يرتكبها عناصر من القوات الفيديرالية وردع الجنرالات عن ممارسة نهب مفضوح لثروات الجمهورية وفي مقدمها النفط. بيد أن الكرملين لم يستجب بسرعة فهو يبدو حائراً بين العساكر الذين غدت الحرب وسيلة لتعزيز ارصدتهم المصرفية والسياسية، وبين المطالبين بوقف النزف حرصاً على مصالح روسيا قبل غيرها. والأرجح أن الأسابيع المقبلة ستشهد من جهة تصعيداً في العمليات هدفه الأساسي احباط أي تسوية محتملة، ومن المفارقة أن مثل هذا التصعيد سيكون قاسماً مشتركاً يجمع الراديكاليين من الطرفين. ومن جهة أخرى ستجري، في الخفاء أو العلن، محاولات لتأمين قنوات اتصال مع مسخادوف. والأدلة على الاحتمال الأخير كثيرة ومنها التصريحات المتناقضة التي أدلى بها ممثل الرئيس الروسي في الجنوب الجنرال فيكتور كازانتسيف، فهو قال إن الحوار مع مسخادوف "لا معنى له"، لكنه دعاه إلى اتخاذ قرار بوقف النار لمدة شهر تمهيداً لمفاوضات محتملة. وفي هذا السياق لفت الانتباه إلى أن أجهزة الأمن الروسية نفذت عمليات لتصفية قادة راديكاليين عارضوا بشدة التفاوض مع موسكو في ظل وجود القوات الفيديرالية في الشيشان، ولذا فإن تصفيتهم اعتبرت محاولة ل"تنظيف" الاجواء من حول مسخادوف. وإذا لم تكن الأحداث الأخيرة جزءاً من سيناريو لتصديع حركة المقاومة و"شيشنة" الصراع، فإنها قد تصبح بالفعل مؤشرات إلى جدية الطرفين في البحث عن مخرج من مأزق بدأ قبل سنتين ولن ينتهي حتى بتوقيع معاهدة سلام. إذ سيمّر دهر قبل أن تلتئم جراح الحرب.