بغضّ النظر عمّا إن كان الإسرائيليون والفلسطينيون يحترمون اتفاق وقف إطلاق النار الذي ألزمهم به مدير وكالة الاستخبارات الأميركية سي آي ايه جورج تينيت، يبدو ان الفريقين اصبحا أسيرين ل"ثقافة الكراهية" والحقد الجماعي والاثني القاتل. وقد نجح المتشددون في المعسكرين في فرض وجهة نظرهم على مجتمعاتهم الأهلية وبدأوا يطلقون صيحات الحرب التي لا تخدم "ثقافة السلام" على المدى الطويل سواء كانت "الموت للعرب" أم "الجهاد ضد اليهود". تمثل هذا التصعيد في أعمال العنف المنظمة ضد المدنيين، بمن فيهم الأطفال والنساء والشيوخ، وزرع الرعب في صفوف المواطنين عامة. إن العمليات العسكرية الوحشية التي تمارسها قوات الاحتلال الإسرائيلي أدت الى سقوط اكثر من 500 قتيل فلسطيني وجرح الآلاف وتدمير البنية التحتية والبيئية. وفي المقابل قام الفلسطينيون بعمليات انتحارية استهدفت العسكريين والمدنيين من دون تمييز موقعة اكثر من 100 قتيل في صفوفهم ومئات الجرحى. في خضم حمام الدم هذا يحاول الطرفان استغلال الدين والعرق والثقافة في شكل واسع لتعبئة انصارهما في النزاع الدائر، حيث يعتبر الجانبان ان الصراع اصبح دينياً، وكأنه معركة وجود، وليس نزاعاً على الحدود، لا مجال فيه للتسوية أو التعايش. هذا التحول الخطير واضح ملياً في الجانب العربي من الصراع وهو ما سأعالجه في هذه المقالة. فالعرب يستشيطون غضباً من الآلة العسكرية الإسرائيلية التي تحصد أرواح المدنيين الفلسطينيين العزّل، وسط صمت العالم المطبق إزاء هذه المأساة الإنسانية. وكنتيجة لهذه المعاناة، يبدو اننا نحن العرب قد فقدنا قدرتنا النقدية في الحكم على الأمور وحسّنا الإنساني، وأصبح بعضنا يهلل فرحاً للهجمات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين. وقد بدا ذلك واضحاً حين قتل اكثر من عشرين شاباً وشابة إسرائيليين، غالبيتهم من المراهقين في الهجوم الانتحاري الذي نفذه احد الفلسطينيين في تل أبيب في الأول من حزيران يونيو. ولم يستطع الكثير من العرب اخفاء سعادتهم وحبورهم لأن "المقاومة الإسلامية" استطاعت أخيراً تسديد "ضربة رائعة" الى الإسرائيليين، وتثبيت قدرة الجانب العربي على الأخذ بالثأر وإلحاق الخسائر الفادحة في صفوف العدو. شاهدت شخصياً بعد علامات الغضب العربي قبل ايام من الهجوم الانتحاري في تل أبيب، حيث كنت في محل للحلاقة في بيروت حين هلل الحاضرون لما شاهدوا التقارير الأولى عن انهيار مبنى في إسرائيل ذهب ضحيته العشرات في حفلة زفاف. إذ صرخ احد الزبائن بنشوة قائلاً "شيء جميل"، وعلت ضحكاته فوق صرخات الضحايا الذين بدت على وجوههم رهبة الموت. في اللحظة نفسها عبر بعض الحاضرين عن خيبة املهم من ضعف أداء بعض المهاجمين الانتحاريين الذين اخفقوا في القضاء على عدد كبير من الإسرائيليين. بالفعل، ومن دون مبالغة، شعرت في حينه بالحزن والأسى لما ألمّ بنا نحن العرب ومدى عمق كراهيتنا تجاه الآخر. كما شعرت بالخوف حين راقبت رد فعل الشارع العربي الذي تمثّل في رضاه تجاه حمام الدم الذي وقع في تل أبيب. وما لا شك فيه ان تكتيكات إسرائيل العدوانية أو سياستها الاستعمارية أدت الى تنفير الكثير من العرب وتغريبهم، فلم يعودوا يميزون بين العسكريين والمدنيين الإسرائيليين. وللأسف، فإن الشعور المعادي لليهود يصبغ الساحة السياسية والثقافية العربية، الى حد ان فناناً عربياً بارزاً تلهم موسيقاه الملايين من العرب، هو منصور الرحباني، صرّح في مقابلة تلفزيونية على الهواء ان الصراع بين العرب واليهود صراع وجودي: "إما نحن وإما هم". في موازاة ذلك، ثمة اتجاه مماثل يهيمن على الحياة السياسية في إسرائيل، إذ إن الكثير من الإسرائيليين اصبح يشجّع علانية على قتل العرب وطرد الفلسطينيين من أرضهم وتهجيرهم الى البلدان العربية المجاورة. وقد عبر الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي عن هذا الاتجاه قائلاً "ثمة موجة حقد مخيفة تجاه العرب تجتاح اسرائيل، فلم يبق من لا يكره العرب، ولم يبق من يصدقهم. مَن مِن الإسرائيليين ما زال يفكر بأن عقد سلام معهم ما زال ممكناً". في المقابل ناقشت احد المثقفين في بيروت أخيراً حول جدوى وأخلاقية العمليات الانتحارية ضد المدنيين والضرر الذي تلحقه بالقضية الفلسطينية وصورة العرب في الخارج، فتجاهل وجهة نظري وقال "الجيش الإسرائيلي امتداد للمجتمع المدني، وكلاهما يضطهد الفلسطينيين. الغرب يفهم فقط لغة العنف. رجاءً، لا تلقي علينا محاضرات في الأخلاقيات. لماذا لا يطبق العالم المقاييس والمعايير الأخلاقية نفسها حين يذبح مئات الفلسطينيين بواسطة الآلة العسكرية الإسرائيلية". والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: هل أعمانا نحن العرب حب الثأر وشعورنا بالغبن والغضب عن التعامل بعقلانية مع خصومنا والمجتمع الدولي؟ هل فقدنا معاييرنا الأخلاقية في معركتنا غير المتكافئة مع قوة استعمارية محتلة هي إسرائيل؟ هل تبرر الغاية التي هي تحرير الأرض من الاحتلال الوسيلة، بما فيها قتل المدنيين؟ هل دفعنا اليأس والشعور بالغبن الى حافة الهاوية واليأس، ما جعلنا نتبنى عقلية الجلاد؟ يخطئ الفلسطينيون في نضالهم من اجل التحرير إذ تصرفوا مثل مضطهديهم، لأن ذلك يمكن ان يؤدي الى انتهاك مشروعية قضيتهم وتنفير الغالبية الصامتة في إسرائيل والعالم. من الصعب ايضاً ان نتخيّل قيام مجتمع حر وديموقراطي في إسرائيل إذا بني على أشلاء جيش من الانتحاريين. إن أعمالاً يائسة كهذه لا بد من ان تنثر بذور نظام سلطوي مثل ما حصل في كثير من بلدان العالم الثالث التي تحررت من الاستعمار. قد يقول بعض النقاد ان وجهة النظر هذه تبدو وكأنها لوم للضحية وعظة اخلاقية غير واقعية لا تأخذ في الاعتبار الواقع المرير المفروض على الفلسطينيين. فلماذا لا نوجه اللوم والعظات الى الجلاد بدلاً من الضحية؟ لماذا نعظ الجانب الضعيف؟ هذه الأسئلة مشروعة، لكنها لا تفرغ المبدأ الأخلاقي من مضمونه والذي يقول ان على الفلسطينيين ان يقاوموا همجية عدوهم من دون ان يفقدوا حسهم الإنساني، وهو أحد الأهداف التي يصبو إليها مضطهدوهم. ان المقاومة اللاعنفية المنظمة والشاملة والعصيان المدني سيثبتان انهما اكثر فاعلية من العمليات الانتحارية ضد المدنيين. التحدي الذي يواجهه الفلسطينيون اليوم هو الحفاظ على الطبيعة الأخلاقية والإنسانية لنضالهم من اجل التحرير. إن التحدي امامهم يكمن في إقناع الغالبية الصامتة في إسرائيل والمجتمع اليهودي في العالم والرأي العام العالمي التقدمي بأن الاحتلال الإسرائيلي والاضطهاد يؤديان الى أداء إسرائيل دور الجلاد الذي عانى اليهود سطوته اكثر من غيرهم في مراحل عدة من تاريخهم. سيحقق الفلسطينيون في النهاية حلمهم الوطني في بناء دولتهم، ليس من خلال تقليد نهج رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون الإجرامي، بل من خلال ثباتهم وتمسكهم بالأسس الأخلاقية لقضيتهم ومشروعيتها. * أستاذ في العلاقات الدولية والديبلوماسية في جامعة ساره لورنس في نيويورك.