من انفجار القنبلة الذرية في مدينة هيروشيما في 6/8/1945 وفي مدينة ناكازاغي في 9/8/1995 يبدأ تاريخ فرقة اريادوني ARIADONE للمسرح الراقص، أو تحديداً يبدأ تاريخ فن "البوتو" الياباني، أحد أشكال الاحتجاج الصارخ ضد العالم المادي وضد أشكال الدمار والعنف، وأطلق عليه "الفن الجحيمي"! و"البوتو" كلمة يابانية تعني "كل شيء"، تعني التمرد والغضب، وتعني أيضاً الخروج على القيم الفنية التقليدية القديمة كالكابوكي ومسرح النو. انها واحدة من الحركات الفنية الغاضبة في الأدب والمسرح والسينما والفن التشكيلي في اليابان. وقد حضرت الفرقة في الاسبوع الماضي للمرة الأولى الى القاهرة للمشاركة في مهرجان المسرح الراقص في دار الأوبرا المصرية طوال شهر حزيران يونيو بعرض عنوانه "طقس ربيعي". تقول كارلوتا أكيدا أهم مصممات فن البوتو الياباني والمقيمة حالياً وفرقتها الراقصة أريادوني في مدينة بوردو الفرنسية: "البوتو حضر في جسدي، لست في حاجة الى إدراك ما في خارجه، يجب أن أتحرك من الداخل، كيف؟ ولماذا؟ لا أعرف ولا أريد أن أعرف، لكني في أشد الحاجة الى هذا". كارلوتا أكيدا تحاول أن تضع يدها على طريقة جديدة في الرقص، على مفهوم مختلف للحركة بعيداً من كل الأساليب والجماليات المعروفة في الفرق المسرحية الراقصة في أنحاء العالم. وبعيداً أيضاً من اسلوب الحركة في المسرح الياباني التقليدي الكابوكي - النو، إذ يعارض "البوتو" الطاقة الظاهرية والحركة الخارجية المصممة في الفرق الراقصة الغربية والتي تعتمد خبطات الأرجل القوية على الأرض بالتكرار الذي نعرفه والجماليات الخارجة الواضحة للعين، بينما "البوتو" يبحث في الأعماق، يتحرك من الداخل بحثاً عن الحقيقة وعن تحرير الذات لإدراك ذات اخرى مختلفة. جماليات البوتو غير مرئية، تجسيد للتناغم والتناسق والهدوء الداخلي، وهو بهذه المعاني ذو طبيعة روحية وطقسية شأن الكثير من الفنون اليابانية. وفي عنوان العرض الراقص "طقس ربيعي" دلالة واضحة، خصوصاً وقد استخدمت كارلوتا أكيدا في تصميم الحركة داخل العرض الكثير من الرموز البوذية، ما أضفى على العرض الهدوء والسكينة اللذين تميز بهما. 6 فتيات هن كل أعضاء فريق "اريادوني" الراقص. ولعله أيضاً موقف احتجاجي آخر على وضع المرأة في اليابان. تتحدى كارلوتا بفرقتها النسائية الراقصة أوضاعاً كثيرة، انها الفرقة النسائية الوحيدة في العالم، تقدم ذلك الفن الغاضب على أشكال العنف والدمار والقهر خارج اليابان وداخلها أيضاً. وعلى رغم الطبيعة التمردية لهذا الفن الغاضب إلا أن جماليات "البوتو" مستمدة في الكثير من مفرداتها وملامحها من جوهر الشخصية اليابانية حيث "عقيدة الإرادة" وعقائد التأمل والسكينة، وذلك التناغم والتناسق الذي يشكل احدى أهم القيم الأساسية في المجتمع الياباني. "البوتو" يناضل، في حركته المتمردة، بالمنطق الياباني نفسه من أجل الهدوء الداخلي. انه الغضب أيضاً تجاه كل ما يجتاح الروح اليابانية أو يحاول تدميرها وطمس ملامحها. وهذا ما سعى اليه العرض المسرحي الراقص "طقس ربيعي" وهو تماماً ما أحدثه في الجمهور. يتكون العرض من 4 حركات موسيقية للموسيقي الفرنسي آلان ماه تجسد ما بعد الدمار أو ما بعد هيروشيما. انها الطاقة الداخلية القوية المستمدة أساساً من فكرة الموت. ولهذا سمي ب"الرقص الجحيمي". لكن تصميم الجحيم وتصوير العنف والدمار جاءا في صورة اتسمت بالكثير من الرقة والعذوبة والرهافة. هكذا اعتمدت جماليات العرض على "التناقض" أو منطق النضال من أجل "الهدوء النفسي". في ملابس بيض حريرية شفافة، تحركت الفتيات على المسرح في ما يشبه الكتلة الواحدة، حركة انسيابية ناعمة. ومع اختلاف حركة الراقصات كأن تكمل الواحدة الأخرى تبدأ إحداهن الحركة لتكمل جملتها الجمالية الراقصة الأخرى في تناغم حركي وروحي يعكس القوة والهدوء، ويعكس أيضاً الطاقة الهائلة التي تندفع من داخل الجسد بأكمله، في الوقت الذي تؤكد البساطة والسلاسة في الأداء. انها قوة الأعماق التي تحيل الحركة "البطيئة" حركة "هادئة" وتصوغ من الصمت جماليات مضافة. ويتأكد التناقض كأسلوب جمالي في البراعة الموسيقية التي امتزجت خلالها الأصوات وتداخلت. ولا نستطيع ادراك الفارق بين صوت البحر وأصوات الطائرات. انها لحظة واحدة تجمع بين الجمال والقوة. استطاعت كارلوتا من خلال توزيع الراقصات على المسرح واستغلال المساحة الخالية تماماً من أية ديكورات أو اكسسوارات أن تشكل بالفراغ - مع اضاءة الفرنسي ايرك لويزا كارير - لوحة مشحونة بالجمال والقوة والأسئلة المتعددة الدلالات، حيث الفراغ يحيل المسرح الى منطقة لا زمانية ولا مكانية، منطقة تدور عليها اسئلة الوجود بينما تعيد الأجساد كتابة طقس الأرض/ الحياة/ الموت. ومن خلال ماكياج الكومادوري الشهير في المسرح الياباني التقليدي، يبرز الوجه الأبيض للشخصيات النسائية مع خطوط حمر حول العينين. ولعبت الاضاءة مع الماكياج وحركة الراقصات دوراً لافتاً في تجسيد ذلك الجحيم... تتقدم الفتيات الى الجهة الأمامية من المسرح بأفواه مفتوحة وبحركة دائرية لا تبرز سوى السواد العميق على قناع الوجه الأبيض... انها الصرخة المقبلة من الجحيم بحثاً عن الحقيقة وصفائها.