} تعرضت وتتعرض نظرية "صراع الحضارات"، وهي - في اختلاف صيغها - أقدم بكثير من صموئيل هنتنغتون، لطعون كثيرة. وأكثر أجزائها تعرضاً للطعن كان إسناد الحضارات، الضمني أو المعلن، الى خلفية دينية، واغلاق الصفات التي عُزيت الى كل واحدة من "الحضارات" على نفسها، ومن ثم تحجيرها عليها. لم يكن الاسناد والتحجير المذكوران حكراً على كتّاب ودعاة غربيين، اذ هما مهنة واحتراف كثيرين في العالم، بما فيه "العالم الثالث"، لا سيما أصولييه الذين كانوا الأكثر احتفالاً ضدياً بهنتنغتون، والأشد حفولاً بمساجلته. فالعالم الثالث، عموماً، لا زالت اصداء معاركه القومية والاستقلالية قوية الحضور في تلاوين "خطابه"، كما لا زالت نسبة المؤمنين فيه مرتفعة فيما لم يطوّر مثقفوه ومؤسساته ثقافة يُعتدّ بها في صدد العنصرية وحساسيتها. لكن اللافت ان "صراع الحضارات" والتراجع من "الثقافة" بدلالتها الديموقراطية المفتوحة الى "الحضارة" ذات الجذر الأريستوقراطي والأفق المغلق، انبعثا بقوة في العالم الغربي بعدما كانت التوقعات الاشد تفاؤلاً تفترض ضمورهما، بل انكفاءهما التدريجي لانضواء في أرشيف الأفكار الكولونيالية وبدايات الاستشراق. وفي هذا المعنى الانتكاسي كان صموئيل هنتنغتون أشبه بأرميا التوراتي الذي يعلن عن الكوارث، انما بفرح وانتصارية خالف فيهما صاحب المراثي والبكائيات. هكذا أورد نظريته في مقالة نشرتها "فورين أفيرز" في 1993، ثم وُسّعت الى كتاب، فاعتمد في تبويب الحضارات ما يشبه أحكام الداروينية الاجتماعية التي بدت آيلة الى انحسار في العلوم الاجتماعية. فقد شجب الاعتقاد بأن العالم سائر نحو ثقافة كونية واحدة، أساسها الثقافة الغربية. فهذا، في رأيه، افتراض كلي الخطأ لأن انتشار السلع الاستهلاكية ليس انتشارا للثقافة الغربية، تماماً كما ان شرب الروسي كوكا كولا لا يجعله غربياً الا بالقدر الذي يصير الاميركي يابانياً حين يأكل السوشي. فجوهر الغرب دستور الماغنا كارتا وليس وجبات الماكدونالد. لا بل اذا اقدمت بلدان ما على التحديث فانها قد تتغرب في ما هو سطحي فقط، غير ان ذلك سيقف عند تخوم المعايير الأهم للتغرب، وهي: الدين خصوصاً، وكذلك اللغة والقيم كما حفظتها التراثات الكلاسيكية بدءاً باليونان. أكثر من هذا، فالدول اذ تتعرّض للتحديث تلجأ، للسبب اياه، الى ما يقيها العالم الحديث، والملجأ كامن في أديانها وثقافاتها التقليدية والابرشية. وهكذا فالمسار المنظور مسار صراعيّ بين الغرب "والآخرين" The West and the rest، مسار ليس على الطرف الأول الا أن يتوحّد فيه ويتماسك كي يضمن استمراره ومستقبله. ثم ان المسار المذكور نامٍ ومتصاعد مع الزمن وفي العالم الذي ينقسم حضاراتٍ وعوالمَ ثمانية الصيني والغربي والارثوذكسي - الروسي والياباني والهندوسي والاميركي اللاتيني والافريقي والمسلم. ففيما، مثلاً، نجد المسيحي الغربي وحده من يفصل الله عن قيصر، يجعل المسلم من الله قيصراً، ويجعل الآسيوي من قيصر الله. ولأن جوهرية الحضارات تتكرس يوماً بيوم، فان غربية الغرب سابقة على حداثته وأهم منها، في نظر الجامعي الأميركي. وأمام استحالة الاختراق الذي حاوله قادة اصلاحيون كبطرس الاكبر في روسيا ومصطفى كمال في تركيا، يتبدى كم ان مطالبة "الآخرين" بالتغرب مسيئة اليهم ولا اخلاقية. ذاك ان الامبريالية هي ما لا بد من اعتماده لفرض التغرب على تلك الشعوب. والامبريالية، بقمعيتها الوحشية، تتعارض مع اخلاقيات الغرب، كما تتطلب قدرات اقتصادية ودينامية جغرافية لم يعد يملكها الغرب نفسه. وليس في جعبة مشروع "صراع الحضارات" سوى النفور العميق من تفاؤلية ما بعد الحرب الباردة، ومن القائلين ان الليبرالية الغربية انتصرت وانتصرت قيمها عالمياً، أكانوا من القدامى كوودرو ويلسون، أم من المعاصرين كبيل كلينتون ودعاة التعدد الثقافي. فهؤلاء الاخيرون يشرفون على مصنع لانتاج الانحطاط في الحياة الاميركية ومنع المجتمع الاميركي من النهوض، بقدر ما تلوح الاوهام عن العولمة بوصفها قوة توحيد، هراءً محضاً. أما الحضارة الاسلامية فتتميز، عند هنتنغتون، بأنها ليست فقط تلك التي لا يمكن للقيم الغربية ان تنتصر فيها، بل ايضاً تلك التي لا يمكن الا ان تنشب بينها وبين الحضارة الغربية حرب تحوّل النزاع مع الشيوعية لعب أطفال. ذاك ان الاميركي الآسيوي الأصل فرانسيس فوكوياما، كان قد سبق مواطنه هنتنغتون الى نشر مقالة في مجلة "ذي ناشونال إنترست" صيف 1989 عن "نهاية التاريخ"، والتي ما لبثت ان اصبحت كتاباً شهيراً. ولما كان فوكوياما يعاين حينذاك تداعي المعسكر الاشتراكي، خلص الى استنتاجات تجمع التسرع الى التفاؤل الفج. فما نعيشه، في رأي الكاتب، ليس انتهاء الحرب الباردة فحسب، ولا انقضاء حقبة من حقب ما بعدها، بل نهاية التاريخ بصفته هذه: أي نهاية التطور الايديولوجي المعهود للجنس البشري وحلول الطابع الكوني للديموقراطية الليبرالية الغربية كشكل نهائي للحاكمية الانسانية. واذا كان هيغل قد بنى على انتصار نابوليون في معركة يينا عام 1806، فصرخ "انها الحقبة الاخيرة في التاريخ، في عالمنا، في زمننا"، فان فوكوياما وسّع ما كان اوروبياً محضاً عند الفيلسوف الالماني ليجعله كونياً شاملاً. كذلك أحلّ محل انتصار القيم الثورية الفرنسية انتصار قيم الديموقراطية الليبرالية المعاصرة. ولئن وقع في المشابهات والمقارنات، مكتشفاً ان العالم الذي كان يملك في 1790 ثلاث ديموقراطيات ليبرالية فحسب أميركا وفرنسا وسويسرا، صار يضم في 1989 واحدة وستين ديموقراطية ليبرالية، فإن هنتنغتون وجد بدوره مشابهات ومقارنات حملته على ملاحظة أن الصينوفرنسا الاقطاعيتين كانتا اكثر تشابهاً بكثير منهما في ظل ماوتسي تونغ والجمهورية الخامسة. والراهن ان الفجاجة التفاؤلية لفوكوياما لا تبرر التشاؤم التاريخي العميق بالانسانية الواحدة الذي قدمه هنتنغتون باحتفالية. فقبله بعقود كان الكاتب الاجتماعي والروائي البريطاني تشارلز بيرسي سنو قد تحدث عن "ثقافتين" في كتابه "الثقافتان والثورة العلمية"، 1960، ملاحظاً ان التخصصات التقنية من دون خلفية تنويرية تحبط الفكر النقدي. ذاك ان التقنيين الصادرين عن ثقافات "سابقة على التنوير" يعملون على مسارات ابستمولوجية منفصلة، لأن المعرفة الثقافية والعاطفية والروحية الكامنة في التقليد الديني الموروث لا تتلاحم، على عكس مثيلتها التنويرية، مع التقنية التي تُكتسب بالدرس والتدريب والخبرة. الا ان التمييز الصائب هذا، وكما سنرى لاحقاً، يواكب عمليات التحديث جميعاً بما يتعدى منطقة من المناطق وثقافة من الثقافات. وكان من الطعون الصائبة التي انهالت على "صراع الحضارات" وتكرر إيرادها في لغات الأرض جميعاً، أن كل "حضارة" تنطوي على تناقضات وانشقاقات في الأفكار والمصالح، وفي ما بين بشرها بالتالي. وباستثناء هنتنغتون وخصومه الاصوليين، يصعب على اي عارف ان يتحدث عن إسلام واحد، فيما الاسلام وكذلك الأديان الأخرى جميعاً ينقسم مذاهب وبلدانا وطبقات، فضلا عن انقسامه داخل كل بلد الى ديانة شعبية وتديّن رسمي ونخبوي. اما التعميم، وهذه احدى وظائفه الرجعية، فيحمل على التعاطي مع العامل الديني كما لو أنه لم يتعرض فعلاً الى اي من منجزات الحداثة، بما فيها تشطير الأمة - الدولة له. كذلك يصعب ان يقال في حضارة ما، وهي تمر في مرحلتها الزراعية، ما يقال فيها وهي تدخل طورها الصناعي أو طورها ما بعد الصناعي. ولا يصحّ النعت الواحد فيها هي نفسها، سيّان أكانت مزدهرة أو كانت مفلسة راكدة، وفي معزل عن اطوارها وتحولاتها. فإذا جاز، مثلاً، ان الستينات غيّرت العديد من طرائق البلدان الغربية وافكارها، فهل يُعدّ هذا انتقالاً من حضارة ناجزة الى أخرى؟ ثم اذا كان طول الصراع ومداه الزمني يجوهران المتصارعين في "حضارات" ناجزة، فهل يمكن القول ان الصراعات الاجتماعية والطبقية، الايديولوجية والفكرية، التي استمرت مئات السنين بين اوروبيين واوروبيين تجيز الحديث عن صراع بين "حضارات" أوروبية لا تتغير؟ ولنأخذ، تالياً، الحجة الرائجة في بعض الأوساط اليوم، من أن المسلمين "يكرهون طريقة حياتنا". فإذا انطوى الوصف على قدر من الصحة، لا سيما مع المرادفة الحاصلة بين الأمركة وبين العولمة المتهمة بتهديم انماط الحياة والقيم التقليدية، يبقى من التبسيط تقديم هذه الكراهية بمعزل عن تعقيداتها الاقتصادية والبسيكولوجية. ذاك ان المسألة التي لا تفقد حرارتها تبقى ممثلة في السؤال التالي: الى أي حد يتدخل في هذه الكراهية العجز عن العيش في نفس سوية عيش الغربيين. وهو سؤال قد لا يصح تماماً في ارهابيي نيويورك وواشنطن ممن تمكنوا من احراز هذه الحياة ولو جزئياً، الا أنه يبقى صحيحاً في البيئات التي صدروا عنها، والتي حوّرت عجزها الى موقف هجومي ينحو الى تأبيد نفسه والى جوهرتها؟ وما هو أبعد من هذا أن مقاومة الحداثة تشير دائماً الى رغبة محوّرة في استحواذها وتطويعها. وقد يكون الاستحواذ والتطويع محكومين بأفكار بالغة الظلامية الا أنهما ينمّان عن مستوى أنجزته الحداثة وبات من المستحيل التراجع عنه. هكذا فان "الضربة التي وُجّهت الى الحضارة"، على ما وصفت بحق العمليات الارهابية الاخيرة، وُجّهت بأدوات حضارية جداً يتشارك في استخدامها مسلمون ويابانيون وأميركيون وغيرهم، معلنين بهذا كونية الظاهرة وكونية مواجهتها. وفي النهاية، اذا صحّ فعلا وجود حضارات كاملة التناحر، غدا من "الطبيعي" ان يتصرف المنتمون الى الحضارات السيئة جوهرياً تصرفاً سيئاً جوهرياً! وهذا ما يلغي الحاجة الى منجزات عدة في رأسها القانون الدولي، كما يملي التمهيد لموقف من اثنين: اما انكفاء المتقدم انكفاء تاماً عن سائر عالم "البرابرة"، أو شحذ السكاكين تمهيداً لتنقية الأرض واستئصال الشر الذي يتجسد في ملايين هؤلاء "البرابرة". غني عن القول إن القيم والمعاني لا يجوز إلحاقها، بأي معنى بسيط، بجماعة ما من جماعات الأرض. فليست المحبة حكراً على شعب ودين، ولا العنف حكراً على شعب ودين آخرين. وتكفينا العودة الى الحرب العالمية الثانية، الى أهوالها وتوتاليتارياتها ومحرقتها، حتى نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام الحقيقة هذه. كذلك ليس التقدم من شيم "الحضارة المسيحية - الغربية"، ووراءنا كل ما نعرف عن القرون الوسطى حين هيمنت المسيحية فعلاً على أوروبا. والأصحّ هو العكس إذ "الغرب" لم يتقدّم الا بعدما وضع حداً لهيمنة ديانته عليه عبر ضربات متلاحقة بدأت بالنهضة فالتنوير والثورة العلمية والثورة الفرنسية. لكن لأن التقدم والحداثة مسار وليسا ضربة تحويلية تحصل ذات مرة، ظلت قوى الارتداد ماثلةً ومستنفرة على ما رأينا في قضية درايفوس في فرنسا، وبصورة اضخم بكثير مع النازية: أعلى أشكال الارتداد وأشدها بربرية. وعموماً، إذا جاز ان أوروبا الغربية وأميركا الشمالية هما راهناً عاصمتا الحضارة، الا أن جهود الشعوب الأخرى ساهمت كلها في بلوغ ما بلغته البشرية اليوم. وحتى الرأسمالية، الديموقراطية تالياً، نلقى لها بعض الجذور والمقدمات في الحضارتين اليونانية والفينيقية القديمتين، وإن كانت أوروبا الغربية مهدها كتشكيلة متبلورة. فالأمة، بحسب الصورة التي رسمها الألماني هيردر، مجرد صوت في سيمفونية الكون. ومن دون اصوات الامم جميعاً لن نحظى بلحن منسجم. فما نعيشه اليوم هو من آثار التعقيد والتفاوت اللذين يحفّان بالمسار الحداثي، والذي من حوله ينقسم البشر كائنةً ما كانت اصولهم و"حضاراتهم". وفي سياق كهذا تقدمت الرأسمالية في خط ملتوٍ ومتعرّج داخل أوروبا نفسها: من البؤرة الانكليزية - الهولندية في القرن السابع عشر الى فرنسا مع نابوليون الثالث، لا سيما في الطور الليبرالي ما بين 1860 و1870، فألمانيا التي استلزمت الرأسمالية والحداثة فيها اقامة وحدة سياسية استدعت بدورها عدداً من الحروب الاوروبية. وهذه الفسحة الزمنية لم تكن قصيرة أصلاً. لا بل هي اطول من بعض الانتقالات الى خارج اوروبا. والاهم ان الفسحة اياها لم تكن عديمة الانتكاسات على ما رأينا. ولا تزال بلدان حديثة كايطاليا تغالب الممانعة القوية جداً التي تبديها القوى المناهضة للتحديث في الجنوب. فإن بدت ظاهرة المافيا ماثلة في هذا المجال، هي التي وازت الدولة حيث انكمش امتداد الدولة، وجب ألاّ يغيب عن بالنا دور الفاتيكان، ولو تراجع كثيراً، بوصفه سلطة روحية وأخلاقية موازية. والمسار المديد والمتعرّج هذا هو ما نلقاه مجدداً مع توسع الحداثة نحو اوروبا الشرقية، ونحو روسيا منذ الغت الرق في 1861، فاليابان ابتداء ب1868 مع الامبراطور موتسو هيتو. وفي وجهة أخرى نحو المكسيك مع ديكتاتورية دياز مطالع القرن العشرين. فلا الوجهة اوروبية حصراً، ولا هي سالكة الطريق في اوروبا حصراً. غير ان مرجعيتها الاوروبية هي ما لا بد من الاقرار به والعمل على محاكاته، لا كنقل حرفي لرقعة جغرافية، بل كنقل ابداعي للمختبر التاريخي والتجريبي الذي شهد اكتمال تشكيلة متعددة الاصول. وهذا وإن عنى نبذ "الانبهار بالغرب" أي: التقليد البسيط لكل ما تموج به الرقعة الجغرافية، من دون تمييز بين الحداثي فيه وغير الحداثي، بين التقدمي وغير التقدمي، الا أنه يعني أيضاً، وبالضرورة، الاحتكام الى الفكر الذي هو مرجعية ذاك الابداع، أي التنوير. لهذا فالتاريخ الانساني ربما كان تاريخ الانتقال من "الحضارات" المعزولة، المتصارعة أحياناً، الى الحضارة الواحدة التي لا تخلو، بالطبع، من صراعات غير أنها تحوّرها في أشكال وقنوات لا تقطع الوحدة والتواصل. وربما كان الأبرز ان الحضارة الحالية اكثر اتساعاً من سابقاتها للصناعة والتدخل الانسانيين اللذين يقاربان الكيمياء أحياناً، بعدما خفّ ضغط الطبيعة عليها واشتدّ ساعد العلم والتقنية على الطبيعة هذه. والحال ان غربيين وشرقيين مأخوذين بالغرب ظنوا دائماً ان التقدم هو نقل المكان "الغربي" الى "الشرق"، أو نقل "الشرق" الى المكان "الغربي". وهذا ما يؤول الى الفتح وقمع المستَعمَر في الحالة الأولى، والى تضاؤله وتهميشه في الحالة الثانية. لكن الانتقال الى زمن عالمي حديث وحداثي يفترض الكسر لمركزية المكان أصلاً، إن لم يفترض كسر المركزية التي تتبوأها فكرة المكان نفسها. وهذا ما نراه اليوم على شكل فرصة تاريخية كبرى يجسّدها استدخال "الغرب" في "الشرق" مقابل استدخال "الشرق" في "الغرب". فعبر الاقتصاد والعمالة والتعليم والسفر والسياحة والتثاقُف وانتقال الصور والنماذج، يمكن ان تنشأ الجسور التي توفّر الامكانية ولو لم توفّر، بالضرورة، الحتمية. صحيح ان توازن القوى ليس متكافئاً في هذا التبادل لأن "الشرقية" و"الغربية" لم تفقدا كامل معانيهما الموروثة، فيما ثمة من يرى أنهما، ومعهما سائر الولاءات الصغرى، تتعززان. وهو ما سنعود لاحقاً اليه. بيد ان اقلاع الاحتمال الايجابي، والذي تبلورت له أدوات عملية، يتيح الرهان نظرياً على حصول تدامُج يلغي مُكوّنيه "الشرقي" و"الغربي"، فيما يلغي فكرة توازن القوى بينهما. ولئن بدا تحقق مثل هذا الاحتمال مشروعاً تاريخياً ضخماً يحمل سمات الملحمية، فليس أدلّ على خواء "صراع الحضارات" من حقيقة أن القائلين به، أو مُفترضيه، موزّعون على الجبهات كلها. فالأصوليون، اليهود والمسيحيون والمسلمون والهندوس، من انصاره. وكذلك القوميون الذين يتحدث كل منهم عن شعبه بصفته الشعب "العظيم"، ما ينمّ ضمناً عن اخراج شعوب اخرى من "العظمة". وفي المقابل، ثمة مسلمون وعرب كثيرون يرددون الكلام البسيط عن تفوق للغرب، مطلق واطلاقي، يحس حياله المثقفون الغربيون الأشد حذلقة بالخجل. ويكفي التذكير، وهذا مجرد مثل من أمثلة لا تُحصى، بطه حسين وجيله، وبأن عبد الرحمن بدوي، احد ابرز التحديثيين العرب واحد اهم ناقلي الفكر الغربي الى لغتنا في النصف الثاني من القرن العشرين، كان قد رأى منذ 1940 حين أصدر "التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية"، أن "الروح الاسلامية منافية بطبيعتها للفلسفة على عكس الروح اليونانية"! وحتى حين أراد محمد خاتمي أن ينقلب على السياسة السلبية المتفرعة عن احدى صيغ "صراع الحضارات"، لم يستطع الانقلاب على الاشكالية نفسها مكتفياً ب "حوار الحضارات". مع هذا يُستحسن برافضي "صراع الحضارات" الذي يضفي الجوهرية والثبات على مادتهم بحيث يُخرجها من التاريخ الفعلي، أن يقبلوا بوجود تاريخ ثقافي للمادة التي يتعاملون معها. فاذا كان "صراع الحضارات" يؤسس لعالم دلالي كامل، فان ادراك التباينات الناجمة عن تفاوت التاريخ الثقافي يؤسس لبند فرعي، وبمعنى ما سوسيولوجي، يقبل التجاوز والتغيير. غير أن تجاوزه يظل مرهوناً بإدراكه والاقرار به، تمهيداً للتدخل الانساني الواعي والمسؤول بهدف تغييره. وهنا، بالضبط، يُلاحَظ الافتراق بين نظرتين: واحدة، أي تلك القائلة بالصراع، لا تمتهن الا التاريخ وصولاً الى بداياته، والتثبّت بالتالي عنده أو عند محطة متقدمة من محطاته، بمعزل عن رؤية التناقضات الداخلية التي تخللت المرحلة التي وقفت عندها. أما النظرة الأخرى، النافية حتى للتاريخ الثقافي، فتتعامل مع العالم كله من دون تاريخ، كما لو أنه وُلد جميعاً ولادة مستوية في لحظة واحدة. فالجميع أتوا من الموقع عينه، وهو موقع مقطوع عما قبله، ليتصارعوا في السياسة والأرض والمصالح والاستراتيجيا. في هذا المعنى لا يُكتفى برفض المقارنة الفقيرة التي يجريها الصراعيون بين الاسلام والمسيحية كجوهرين، بل يُرفَض النظر في تاريخية التجربتين. هكذا، مثلاً، تُنحّى جانباً أسئلة من قبيل: مدى تعرض الدينين للاصلاح، والحدود التي يجوز فيها، أو لا يجوز، اعتبار الشيخ محمد عبده مارتن لوثر الإسلام. والشيء نفسه يصحّ في النظر الى تعامل أليكسس دو توكفيل مع اميركا وديموقراطيتها وما نسبه من دور الى التبشير البروتستانتي. أو في النظر الى الصلة التي دلل عليها ماكس فيبر بين الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية. أو الى النتائج التي توصل اليها مكسيم رودنسون في خصوص علاقة الاسلام بالرأسمالية الخ. ف"الصراعيون" يميلون الى تأبيد هذه الصفات ووضعها جوهرياً في مواجهة صفات أسفرت عنها دراسة أديان ومذاهب أخرى. أما رافضو التاريخ الثقافي فيميلون، في المقابل، الى انكارها كلياً وصولاً، عند بعض متطرفيهم، الى وصمها بالعنصرية. والحق أننا نكتشف دوماً، على الضد من الصراعيين ومن الالغائيين معاً، ان الاسئلة كما تُطرح زائفة تماماً. ففي مثال الاسلام والمسيحية ليس الدين محرّك التاريخ، ولو أثّر فيه الى هذا الحد او ذاك، وانما التاريخ محرّك الدين. فالاسلام، لاسباب ليست كامنة في نصّه أساساً، لا يزال فاعلاً ومتماسكاً فيما المسيحية، وأيضاً لأسباب ليست كامنة في نصّها أساساً، لم تعد اطلاقا على الدرجة نفسها من الفعالية والتماسك في البلدان الغربية. وما لا بد منه، تالياً، هو إدراك طبيعة التغيّر بصفتها الثابت الوحيد، إنما من ضمن معطيات تاريخية، لا بمعنى التجميع الكمّي للحقب الزمنية، لكنْ قياساً بالمحطة الحاسمة نوعياً في حياة "الشرق" و"الغرب"، لا سيما الأول: أي الاحتكاك بالاستعمار ومعه الحداثة، وكيفية الاستجابة لذاك التحدي. * كاتب ومعلّق لبناني.