تخضع عملية إحياء وتعميق التفاهم الاقليمي الذي تم التخطيط له في برشلونة عام 1995 لنقاشات موسعة عشية انعقاد القمة اليورو - متوسطية الرابعة، المقررة في مرسيليا في الثالث عشر من تشرين الثاني نوفمبر 2000 برئاسة فرنسا. فالشراكة اليورو - متوسطية، كما أراد لها قادة الاتحاد الأوروبي وخبراء بروكسيل أن تكون، تذهب أبعد من حدود المساعدة على التنمية، لكنها مع ذلك، لا تستهدف على الاطلاق الوصول في يوم من الأيام للاندماج في صيغة هذا الاتحاد. لذا، ان أقصى ما يمكن أن يتوقعه الشركاء في جنوب المتوسط تحديداً، هو استبدال أشكال التعاون السابق بآليات جديدة تشمل الأطر السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كانت الحكومة الفرنسية استبقت تاريخ تسلمها للدورة الحالية لرئاسة الاتحاد الأوروبي في الأول من تموز يوليو الماضي بتكليف مجموعة من الاختصاصيين والباحثين بإعداد تقرير مفصل حول الشراكة اليورو - متوسطية والمعوقات التي تحول دون إحداث دينامية على مستوى الاندماج الاقليمي. وجاءت خلاصة التقرير الذي أشرف على تنفيذه الباحث "ريمي لوفو"، بمساعدة المسؤولة عن إدارة الشؤون المتوسطية في وزارة التخطيط الفرنسية، "سيسيل جوللي"، لتؤكد بأنه يتحتم على الأطراف المعنية بهذه الشراكة أن تبذل جهوداً أكبر من أجل تحسين أداء هذه العملية وتسريع خطواتها، التي تشكو من بطء ملحوظ نتيجة التجاذبات الحاصلة داخل المجموعة الأوروبية من جهة، وبسبب تردد وتخوف الدول الشريكة من جهة أخرى. ويشير التقرير الى أنه يتوجب على الدول المتوسطية الشريكة أن تعمل بالدرجة الأولى على اصلاح أنظمتها الضرائبية كي تتمكن من تغطية خسائرها من عائدات الرسوم نتيجة رفع الحواجز الجمركية. كذلك، تطهير وتحديث قطاعها المالي والمصرفي الذي يشكو من تعقيدات تعيق من نموه وانفتاحه على الأسواق المالية العالمية، وخلق بيئة عمل أكثر ملائمة للواقع الجديد، وحفز روح التنافس بين مؤسساتها وايجاد وسائل لتأهيل السوق بحيث يتأقلم مع الاحتياجات المتطورة باستمرار. بمعنى آخر، ترى المجموعة التي أعدت هذا التقرير الموضوعي الذي لا يخلو من المعالجة النقدية أنه على دول جنوب وشرق المتوسط بالذات، أن تسارع الى اطلاق ما يسمى "باصلاحات من الجيل الثاني"، خصوصاً بعد أن أنهت التزاماتها لناحية إحداث التوازن المطلوب على صعيد الاقتصاد الجمعي ومؤشراته وذلك في اطار خطط تصحيح هيكلاتها التي فرضها صندوق النقد الدولي في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات. وترى المجموعة أن اصلاحات الجيل الثاني هذه ستساعد من دون شك على الاستفادة من فرص الانفتاح الموجودة حالياً، كما ستسمح بتجديد روحية وسائل الانتاج واكتشاف اختصاصات جديدة داخل القطاعات التي تشهد قفزات نوعية. من ناحية ثانية، ترى المجموعة انه يتوجب على أوروبا أن تنهج نهجاً عملياً أكثر جدية من خلال فتح مجال أوسع لأسواقها أمام منتجات شركاء الجنوب المتوسطيين، وذلك عبر تحرير المبادلات الزراعية وإحداث نوع من التجانس على مستوى المقاييس الموضوعة التي تعتبر جائرة. كما يفترض بدول الاتحاد أن تعمل على تسهيل انتقال الأشخاص، واضعة بذلك حداً للهجرات الانتحارية السائدة حالياً والتي تؤثر بشكل مباشر على صدقية نوايا الأطراف الأساسية المعنية بالمشروع اليورو - متوسطي. وترتبط هذه الاشكالية أيضاً بمسألة اعطاء الأولوية للحسنات الموجودة لدى مختلف الدول المتوسطية، وأيضاً، تلبية متطلباتها في مجال التأهيل ونقل التكنولوجيا. في هذا السياق، يمكن القول إنه باستطاعة دول الشمال المتوسطية الغنية أن تؤثر ايجاباً من خلال الاظهار لشركائها بأنها لن تقف عند حدود منطقة التبادل التجاري الحر، بل انها ستذهب أبعد من ذلك بكثير في التزاماتها الفاعلة عبر "التقاسم التعاقدي للمخاطر" مع الدول التي توقع معها اتفاقات جازمة. مما سيؤدي حتماً لتركيز المساعدة المالية والفنية معها. انطلاقاً من هذا المفهوم، لن تعود الشراكة اليورو - متوسطية مجرد أداة لرفع مستويات النمو الاقتصادي، لكنها ستصبح مع الوقت وسيلة أساسية لمواكبة التحولات المؤسساتية والسياسية في هذه البلدان. على أية حال، لا بد من الاشارة الى أن التعديلات على صعيد السياسة الزراعية المشتركة، والعملة الموحدة وتنظيم سياسات الهجرة من شأنها أن تنعكس ايجاباً أو سلباً على مسار العلاقات اليورو - متوسطية. إذا كان نجاح الشراكة المعروضة من قبل أوروبا على دول جنوب وشرق المتوسط مرتبط الى حد بعيد بالاصلاحات الداخلية التي يجب أن تطلع بها هذه البلدان بهدف تعزيز انفتاح اقتصادياتها، إلا أن المساعدة التي يمكن أن تحصل عليها هذه الأخيرة في هذا الاطار، وتعميق علاقات الجوار، تبقيان مرتبطتان عضوياً بالبناء الأوروبي نفسه، وبالتالي بالتساؤلات المطروحة حول سير عمله وتطوره وأيضاً بأهدافه النهائية. مع ذلك، لا بد من الاشارة الى أن الالتزام الأوروبي حيال دول المتوسط ليس جديداً بحيث يمكن ادراجه ضمن نطاق علاقات الجوار وتكثيف المبادلات الاقتصادية والتعاطي الانساني. فمن جملة النقاط التي يناقشها اليوم ممثلو دول الاتحاد مع خبراء بروكسيل عشية انعقاد القمة اليورو - متوسطية الرابعة، مسألة حدود ما تمثله الضفتين، الجنوبية والشرقية للحوض بالنسبة للمصالح الاستراتيجية والجغراسياسية للاتحاد الأوروبي، كذلك محاولة الرد على السؤال حول الأسباب التي تدفع بالمجموعة الأوروبية لتعزيز التزاماتها حيال هذه الضفة التي لا تشكل في ظل الظروف الراهنة، أولوية اقتصادية وعسكرية لها. من هنا يطرح المحللون التساؤل التالي: هل يمكن اعتبار الالتزام الأوروبي اهتماماً خاصاً بما يسمى "بالقوس اللاتيني" لأوروبا في اطار نظرية الشمال - الجنوب المعتمدة والمطبقة داخل الاتحاد؟ ان أسباب الالتزام الأوروبي هي بالدرجة الأولى غير مباشرة وترتبط في آن معاً بالمخاطر الأمنية وبضغط الهجرة أكثر منها بحال عدم الاستقرار التي يمكن أن تهدد دول حوض المتوسط ومشاكل التنمية فيه. كما تعود هذه الأسباب لرهانات ليست مرتبطة هي الأخرى مباشرة بمصالح هذه البلدان، انما بالطابع الاستراتيجي لهذا الممر المائي الهام وأيضاً بإرادة إعادة التوازن داخل الاتحاد من جهة وحيال حليفه الرئيسي، الولاياتالمتحدة الأميركية من جهة أخرى. أما بالنسبة للمصالح الاقتصادية بالنسبة لأوروبا، يمكن القول انه إذا كانت صادرات الدول المتوسطية الشريكة لأوروبا قد تضاعفت قيمتها في الثمانينات، إلا أن هذا التطور الحاصل لم يلحق بركب ارتفاع الطلب لدى الاتحاد بحيث باتت تشكو من خسارة نسبية لحصصها في السوق الأوروبية، باستثناء اسرائيل وتركيا المصدر الأول للاتحاد بين دول جنوب وشرق المتوسط. فحصص تونس والمغرب من هذه السوق بقيت مستقرة بحدود 0.5 في المئة، في حين ارتبط تراجع صادرات الجزائر ومصر بتذبذب أسعار الهيدروكربورات. وبالطريقة عينها، ازدادت واردات كل من اسرائيل وتركيا من أوروبا، بينما بقيت هذه الأخيرة تشكل المصدر الأول لدول المغرب العربي. أما اليوم، تحتل دول جنوب وشرق المتوسط مكانة ضعيفة على صعيد المبادلات مع دول الاتحاد 6 في المئة تقريباً من مجمل التجارة الخارجية بين أعضائه. يظهر بيان للمساعدة الأوروبية المقدمة منذ عام 1995 فوارق ملحوظة لناحية الاستيعاب بين دول جنوب وشرق المتوسط. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يصف الاتحاد بعض البلدان كسورية، المنغلقة على نفسها حسب تعبير خبراء بروكسيل، التي حصلت على 3 في المئة فقط من تمويلات صناديق "ميدا" ولم تستفد من أي من القروض التي وفرها "البنك الأوروبي للاستثمار"، أو كالجزائر الذي استفاد قطاع الطاقة فقط من قروض هذا المصرف بحدود 330 مليون يورو في العام 1997، "بالمستوعبين السيئين" للمساعدة الأوروبية، وذلك خلافاً لتونس والمغرب اللتان أثبتتا قدرات استيعابية جيدة لهذه المساعدات حصولهما على 36 في المئة من تمويلات صناديق "ميدا" بين عامي 1995 و1999. إن هذه الفوارق في التوزيع الجغرافي المعتمد جدول رقم 1 من قبل دول الاتحاد الأوروبي لا ينبع من أولوية تقدمها، انما استناداً لوتيرة الاصلاحات الجارية التي تسير صرف المساعدات وتضبط وتيرة مراحل المفاوضات الثنائية. فالدول التي وقعت اتفاقات شراكة حتى الآن تونس، المغرب، الأردن وفلسطين تستفيد من حجم تمويلات أكبر في اطار هذه العلاقات المستجدة. مع ذلك، فإن البلدان التي لم توقع بعد يمكنها الحصول على تمويلات من صناديق "ميدا" بشرط قبولها للأنظمة الموضوعة من ضمنها الاشراف والمراقبة على عملية صرف الأموال، كذلك، تقديم بيان مفصل ببرنامج الاصلاحات المنوي تنفيذه. وعلى رغم اعتبار الشروط الفنية والاقتصادية أساساً بالنسبة للأولويات في التمويل، إلا أن الأولوية السياسية تلعب هي الأخرى دوراً في تحديد حجم التمويلات. وقد برز ذلك جلياً في دعم عملية السلام في الشرق الأوسط والأطراف التي تعاطت معها ايجاباً. وعلى رغم الصعوبات الموجودة على الأرض، تركزت مساعدات الاتحاد الأوروبي على دول مثل الأردن ولبنان والسلطة الوطنية الفلسطينية، علماً بأن هذه البلدان لم تكن طليعة في مجال الاصلاحات الليبرالية كالأردن أو في تحسين مستوى الادارة كفلسطين. على أي حال، بقي دعم العملية الانتقالية للاقتصاد في هذه البلدان، اضافة لانجاز المنطقة التجارية للتبادل الحر في كل منها، يمثل أساس المساعدات المقدمة للدول المتوسطية الشريكة بهدف تشجيع انشاء بيئة مناسبة لنمو القطاع الخاص إعادة البنيان الصناعي، خلق مراكز مهنية، اجراء اصلاحات ادارة، تنسيق المقاييس وتحديث القطاعين، المالي والمصرفي. انسجاماً مع هذا التوجه تم تخصيص 45 في المئة من أموال صناديق "ميدا"، أضيف اليها قروض "مصرف الاستثمار الأوروبي" بهدف دعم قطاعي الصناعة والخدمات والشركات الخاصة. كما وتجدر الاشارة الى أن نصف المبلغ المرصود من قبل برنامج "ميدا" لتحقيق العملية الانتقالية لاقتصاديات الدول المتوسطية يأخذ شكل دعم خطط إعادة الهيكلة. وقد وصلت قيمته بين 1996 و1999 الى 715 مليون يورو أي ما يوازي 22 في المئة من مجموع مخصصات ميدا. في هذا الصدد، تفيد المعلومات التي نشرها البنك الدولي بأن الاتحاد قدم مساعدات مالية من شأنها سداد جزء من تكاليف تحرير الاقتصادات ومواكبة الاصلاحات. بناء عليه، تم اقتطاع 4.6 بليون يورو من موازنات دول الاتحاد أطلق عليها اسم "ميدا". وبهدف اتمام هذه الخطوة، حصل "البنك الأوروبي للاستثمار" على تصريح يخوله اعطاء القروض حتى 2.3 بليون يورو خلال الفترة الواقعة بين 31 كانون الثاني يناير 1997 و31 كانون الثاني 2000. فمع نحو من 7 بلايين يورو، موزعة على أربع سنوات وموجهة الى تسع دول من أصل اثنتي عشر، شهدت المساعدة المالية زيادة ملحوظة بالمقارنة مع المرحلة بين 1992 - 1996. كما حصل المصرف في بداية السنة الجارية على تصريح يسمح له بالتصرف بمبلغ 6.4 بليون يورو حتى سنة 2006. أما في ما يتعلق ببرنامج "ميدا 2"، فإنه وللمرة الأولى مساوياً للمخصصات المرصودة لتوسيع رقعة دول شرق المتوسط، الأمر الذي ربما سيجعل من عملية التفاوض في القمة الرابعة في مرسيليا أكثر مرونة من سابقاتها، خصوصاً لدى الدول المرشحة لتوقيع اتفاقات شراكة كمصر ولبنان على وجه التحديد. وعلى رغم اشكال الدعم المالي والاقتصادي المختلفة، الذي اعتمدته دول الاتحاد الأوروبي، لم يتمكن مفهوم الشراكة اليورو - متوسطية من وضع حد للجدل التاريخي القائم بين الشمال والجنوب لصالح منطقة الحوض. حتى تسمية "الشركاء المتوسطيين" التي حلت محل التسمية التي وضعها خبراء بروكسيل أي "دول المتوسط الأخرى"، بقيت مرفوضة من قبل بعض البلدان مثل تركيا التي اعتبرتها استفزازية وفوقية. بنتيجة ذلك، يرى المحللون ان مؤسسات مشروع برشلونة باتت بمثابة حائط المبكى لعدد كبير من دول المنطقة التي تنتقد علناً ضعف الدور الاقتصادي والسياسي لأوروبا. فمن جهة، يعتبر هؤلاء بأن المساعدة المالية المقدمة حتى الآن لا تزال دون الطموحات في حين أن الوزن السياسي لأوروبا خفيف بحيث يبقى عاجزاً على موازنة ثقل السياسة الأميركية خصوصاً في اطار النزاع العربي - الاسرائيلي أو في حل نزاعات اقليمية أخرى، كالصحراء الغربية والخلاف التركي - اليوناني. ومن جهة أخرى، تتهم هذه الدول أوروبا بالعمل على السيطرة على المنطقة وإطالة أمد الخلل في التوازن التجاري والعسكري وتسهيل إحداث اختراقات غربية، متجاهلة الخصوصيات الثقافية الموجودة. باختصار، يمكن القول بأن هذه الاختلالات القائمة بين أوروبا و"جنوبها" تعزز هذه الانتقادات وبالتالي روح المقاومة والرفض. فالخلل ليس اقتصادياً فحسب انما أيضاً عسكري، مما يحدو للاحساس بوجود نوايا للهيمنة الغربية مجدداً. فالفوارق على مستوى الامكانات والتنظيم هائلة وساحقة بين دول الشمال التي تمتلك، ضمن اطار منظمة حلف شمالي الأطلسي، تحالفاً قوياً ومتماسكاً وأدوات عسكرية ولوجستية حديثة وضاربة، وبين دول الجنوب - باستثناء اسرائيل وتركيا - التي لم تطور حتى الآن انتاجها العسكري، ولم تبن تحالفات فاعلة في هذا الميدان. استناداً لما تقدم، يمكن الاستنتاج بأن مهمة القيمين على القمة اليورو - متوسطية الرابعة التي ستعقد بمرسيليا، أي الفرنسيين، ستكون شاقة للغاية لأسباب عدة: أولها عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على الذهاب أبعد مما ذهب اليه في المجال الاقتصادي، ثانيها عدم قدرته على التنازل في ميدان السياسة الزراعية، والهجرة والتراجع عن السياسات الأمنية، ثالثها، عدم النجاح حتى الآن بوضع استراتيجية موحدة بين دوله للتعاطي مع الشركاء المتوسطيين، رابعها، ثبات دول الجنوب والشرق على مواقفهم السابقة، وخامسها صعوبة مواجهة التقدم الذي بدأ يحرزه على الأرض مشروع الشراكة الأميركي المغاربي، المعروف ب"مبادرة آيزنستات". * اقتصادي لبناني.