بعد 18 جولة من المفاوضات والمماحكات، توقع الجزائر في 19 كانون الأول ديسمبر الجاري اتفاق الشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت الذي يرى المفاوضون المقربون من حكومة "علي بن فليس" أنها ستشكل نقلة نوعية لاقتصاد البلاد، يعتبر الخبراء المحايدون ان هذه الخطوة ستكون اختباراً صعباً، خصوصاً ان الذي يمكن ان تربحه الجزائر من وراء هذه العملية لا يوازي التنازلات التي قدمت. استبق الوزير المفوض لدى وزارة الخارجية، المكلف بالتعاون الاقليمي والهجرة عبدالعزيز زياري الجمع بإعلانه الاربعاء في الخامس من الشهر ان توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي "يشكل منعطفاً حاسماً لاقتصاد الجزائر". وبدأ الحديث عن العلاقات الاستراتيجية مع أوروبا والأهمية الخاصة للجزائر في منطقة شمال افريقيا الى ما هنالك من مبالغات على حساب كل شيء. في المقابل، جاءت رد فعل المجلس الأوروبي الذي اعتمد مشروع التوجهات القاضي بقيادة دورة المفاوضات، هادئة متسمة بالموضوعية، بعيدة عن اعطاء توقيع الاتفاق اكثر من ابعاده الحقيقية المماثلة لتلك التي اعطيت للاتفاقات الموقعة مع دولتي الجوار تونس والمغرب أو التي خصت بها الأردن واسرائيل. فالهدف من وراء هذا الاتفاق، حسب رأي خبراء المجلس، هو أولاً وأخيراً ادماج الجزائر في المجال اليورو - متوسطي. ويختلف الاتفاق الجديد عن الصيغة التشاركية الموقعة عام 1976 لناحية شمولية من جهة، ومن جهة اخرى، لكونه يتضمن بنداً سياسياً مهماً يتعلق باحترام المبادئ الديموقراطية وحقوق الانسان، وهي مادة رفض المفاوضون الجزائريون ادراجها في سياق الاتفاق طوال الصولات والجولات التي استمرت منذ آذار مارس 1995 بحجة انه ليس لها علاقة بالاقتصاد ولا بالتجارة. ولم يتم القبول بها الا بعد ان فرضت أحداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر نفسها على كل شيء بما في ذلك اضافة البند المتعلق بمكافحة الارهاب، الذي طلب الطرف الأوروبي على الدوام تأجيل البحث فيه، والذي يهدد وفق منظور الجزائر، الشراكة الاقتصادية والأمن الاقليمي. الأمر الذي رأت فيه تطوراً ايجابياً للرؤية الأوروبية، ساعد في نهاية المطاف بتسريع التوافق. اشهارات وتفسيرات ومهل ومهد مستشارو الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة لهذا الحدث الكبير المرتقب بتخصيص موازنة قدرت بملايين عدة من الدولارات صرفت خلال الشهور الثلاثة الماضية وفق حملة اعلامية عبر مجلات وصحف أوروبية تركزت بمجملها على الانفتاح السياسي والاقتصادي الهائل، الحاصل في الجزائر. كذلك، الرؤية الصائبة لقيادته في مكافحة الارهاب منذ البداية. وكان من الملفت قيام احدى الاسبوعيات الفرنسية المتخصصة بالقارة الافريقية بإعداد ملف من خمسين صفحة للحديث عن انجازات الحكومة الجزائرية ترافقت مع مآسي عائلات "باب الواد" وغيرها من المناطق التي تضررت. وكان بنتيجتها كشف هشاشة البنيات الاجتماعية الاساسية من جهة، وتقصير السلطات المختصة في القيام بواجباتها من جهة اخرى، اضافة الى ان قيمة الأضرار وصلت الى حدود 50 بليون دينار الدولار يساوي 55 ديناراً. وبالتالي كان بالأحرى صرف هذه المبالغ على تحسين الخدمات الاجتماعية بدلاً من الاشهارات. وفي حين لا تكف وسائل الاعلام الجزائرية المقربة من الرئيس بوتفليقة الحديث عن هذا الانجاز التاريخي والتنازلات التي انتزعها المفاوضون الجزائريون من نظرائهم الأوروبيين، يربط بعض المراقبين قرار تسريع التوصل الى اتفاق الشراكة بأسباب سياسية بحتة تتلخص بالدرجة الأولى بتعزيز مواقعه داخلياً وتحسين صورته خارجياً استعداداً للانتخابات الرئاسية المقبلة. هذا ما يرفضه جملة وتفصيلاً فريق عمله الذي يؤكد ان الشروط الملائمة لم تجتمع كما اليوم لتشجيع الحكومة على السير قدماً الى بلورة اتفاق الشراكة الذي سيسمح للاقتصاد الجزائري بالانخراط قبل سنة 2012 في اقتصاد السوق. وبالتالي أخذ مكانه كشريك كامل وفاعل ضمن صيغة التعاون اليورو - متوسطي، المتطور والمنبثق عن اجتماعات برشلونة. على أية حال، يمكن القول بأن جميع قوى السوق باتت مقتنعة بضرورة حسم هذه المفاوضات وعدم اطالتها واضاعة الوقت، فالتخوف من الدخول في منطقة التبادل الحر مع أوروبا، الذي يعتبره عدد من رجال الاقتصاد بمثابة ضربة قاضية ومغامرة غير محسوبة، من ناحية اخرى له حسنات تجعل معها هذه الشكوك غير مبررة. في هذا الاطار، يؤكد وزير المال مراد مدلسي أن كل الاحتياطات اتخذت لانجاح عملية التحول باتجاه اقتصاد السوق من دون ان تكون هنالك انعكاسات سلبية على مصالح البلاد والعباد. ويلمح أحد الوزراء الاساسيين في الحكومة بالقول: "ان الجزائر ليس لديها نفس الصعوبات كغيرها لناحية تبعيتها للصادرات الزراعية ذلك في اشارة واضحة لكل من المغرب وتونس اللتين وقعتا اتفاق الشراكة مع أوروبا،مما يجعلها تفاوض من موقع أقوى من شركائها الأوروبيين، كون هذا الملف لا يشكل نقطة ضعف بالنسبة اليها. فالمحور الاساسي الذي ناقشته الجزائر مطولاً وتوصلت الى اتفاق نهائي في شأنه يقضي بحماية منتجاتها الصناعية التي كان من غير المقبول بتاتاً تركها عرضة لمنافسة غير متوازنة مع ازالة الحواجز الجمركية. وبناء عليه، تم الاتفاق علي حماية البضائع المصنعة في الجزائر حتى سنة 2012 تاريخ رفع هذه الحواجز. أما بالنسبة للمنتجات الاخرى، فإن قواعد السوق الدولية ستطبق عليها ولكن بصورة تدرجية ومنطقية بحيث لا تحدث اختلالاً في بنيات الاقتصاد. وانطلاقاً من هذه الفرضيات، يعتبر الوزراء المقربون من دوائر القرار في الجزائر، ان المهلة التي تتجاوز عشر سنوات كافية لإعداد الاقتصاد بشكل عملي لاجتياز هذه المرحلة ضمن أفضل الشروط التي تؤمن نجاحها. ويبالغ هؤلاء الى حد التحدي بالإشارة الى ان هذه المهلة ستختصر من دون أية تضحيات تمس بمصالح البلاد. ومن ضمن النواحي الايجابية التي يتضمنها اتفاق الشراكة، ملاحق تحمي الاقتصاد الوطني من خلال ادخال تعديلات تصحيحية طوال الفترة المذكورة. كما ان هناك سلسلة من الاجراءات التي يمكن اتخاذها لحماية المنتجات المحلية من سياسات الاغراق التي قد تلجأ اليها بعض الشركات الأوروبية في عملية المنافسة المتوحشة غير المشروعة التي تحاول الالتفاف على الضوابط الموضوعة. ولا تخفي بعض الأوساط الجزائرية التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع أرباب القطاع الخاص الفرنسي، بأن الأوروبيين قبلوا "بقدرة قادر" وفي الوقت الضائع، أي بعد الحادي عشر من ايلول على تذليل بعض العقبات واعطاء تسهيلات لم تكن واردة في السابق، وإفهام المفاوضين الجزائريين بأن آذانهم ستكون صاغية وعقولهم متقبلة لكل الاقتراحات التي من شأنها تقريب وجهات النظر. وتعزو هذه الأوساط هذا التحول النوعي غير المعلن للتخوف من عودة المشروع الاميركي - المغاربي المعروف "بمبادرة ايزنستات" بقوة وبفعالية بعد الانتصار الكبير المتوقع في افغانستان. هذا ما تمكن الجزائريون من استشفاف ابعاده وتأثيره لدى الأوروبيين وعملوا على أساسه. ويشير أحد التقارير الذي أعدته لجنة التخطيط في المجلس الأوروبي الى ذلك مستندة بما ورد على لسان الرئيس بوتفليقة خلال زيارته الأخيرة لواشنطن ولقائه اضافة الى الرئيس بوش، رؤساء مجالس ادارة أكبر شركات الهيدروكربورات في الولاياتالمتحدة. وخلال هذا الاجتماع الذي رتبه اللوبي النفطي المقرب من الإدارة الجمهورية الحالية، قال الرئيس الجزائري: "اذا كانت أوروبا تشكل المنفذ الطبيعي للغاز الجزائري، فإن شركة "سوناطراك" التزمت ببرنامج تنمية وتنويع صادراتها من هذه الطاقة، يأخذ بعين الاعتبار المصلحة الخاصة للسوق الاميركية، مضيفاً: "ان توفير الغاز للولايات المتحدة لن يتم انطلاقاً من الحقول الجزائرية فحسب، بل ايضاً من خلال مصادر أخرى في الخارج حيث تتمتع الشركة الوطنية الجزائرية بوجود اساسي". مساعدات كثيرة ونتائج قليلة وبتوقيعها لاتفاق الشراكة تأمل الجزائر الاستفادة مما تبقى من المبالغ العائدة لبرنامج التعاون اليورو - متوسطي المعروف باسم "ميدا - 1" 1996 - 2000 التي لم تصرف حتى الآن لعدم تقديم المشاريع الملائمة من جهة ولتأخر عمل لجان بروكسيل البيروقراطية، وتراهن الحكومة الجزائرية ايضاً على الحصول على أكبر من برنامج "ميدا - 2" للفترة 2000 - 2006. وكانت لجنة المتوسط في الاتحاد الأوروبي صادقت في الثامن عشر من شهر تشرين الثاني نوفمبر الماضي على تقديم دعم ضمن موازنة 2002 - 2004 بلغت قيمتها 140 مليون يورو 9.56 بليون دينار. وستستخدم هذه الدفعة حسب الاتفاق لتمويل مشاريع الاصلاح الاقتصادي التي اضطلعت بها الدولة، كذلك قطاعات النقل والتربية والبيئة. كما تم أخيراً صرف 110 ملايين يورو للتنمية الاجتماعية وتعزيز البنيات التحتية في عدد من الولايات وإنشاء شركات صغيرة عبر صيغة التمويل المتعارف على تسميتها بالمايكرو - كريدت. وعلى رغم امكان الحصول على مساعدات مهمة نسبياً في المستقبل، يذكر خبراء بروكسيل المفاوضون من الجانبين بأن النفقات الاجتماعية التي خصصتها الحكومة الجزائرية المتعاقبة بين 1993 و2001، لم تمثل أكبر من 7 في المئة من اجمالي الناتج المحلي. فالزيادة من 94.15 بليون دينار الى 269.8 بليون للفترة عينها، لم تكن لها انعكاسات تذكر على رقعة الفقر الملحوظة في الاعوام الأخيرة. فهنالك بادئ ذي بدء التدني الهائل لمستويات ناتج الدخل القومي بالمقارنة مع دخل المواطن بنسبة 45 في المئة. إذ تراجع هذا الأخير من 2880 دولاراً في عام 1986 الى 1550 دولاراً عام 1998. الأمر الذي أوصل نحو ربع السكان 22 في المئة الى ما دون خط الفقر مع 1.65 دولار في اليوم. ومن ناحية اخرى، وصل عدد العاطلين عن العمل عام 2000 الى 2.4 مليون نسمة، أي ما يوازي 29.8 في المئة من القوى العاملة. كل هذه المؤشرات السلبية ستدفع بالمسؤولين عن برامج المساعدات داخل الاتحاد الأوروبي للتشدد مع الحكومة الجزائرية. فالمسألة لا تتعلق بحقوق الانسان والديموقراطية وبمكافحة الارهاب فقط، بل بتوزيع أكثر عدالة للثروة العائدة من الهيدروكربورات، الشيء البعيد التحقق في الجزائر، حسب ما يردده هؤلاء الخبراء عشية توقيع اتفاق الشراكة الذي سيحضره شخصياً الرئيس الجزائري في العاصمة البلجيكية. بانتظار دخول هذا الاتفاق حيز التنفيذ الفعلي، ستحاول الحكومة الجزائرية المطالبة بمساعدات استثنائية لاقتلاع الارهاب من جذوره. مما لا يستطيع الاتحاد الأوروبي رفضه خصوصاً في هذه المرحلة بالذات، خصوصاً بعد زيارة المسؤول الاميركي، وليام بيرنز للجزائر في العاشر من الشهر الجاري وتمضية يومين بحث خلالهما في السبل الآيلة لمكافحة الارهاب ومساعدة اميركا للجزائر ومناقشة عدد من المشاريع المشتركة المنوي توقيعها قريباً. وفيما يتعلق بالتنازلات التي قدمتها أوروبا في المفاوضات، حسب قول بعض المسؤولين الجزائريين، فإن العكس على ما يبدو هو الصحيح، لأن الجزائر ستفتح أسواقها ولو تدريجياً وحتى سنة 2012 وترفع حواجزها الجمركية التي كانت تدر عليها بلايين الدولارات وتخضع منتجاتها غير القادرة اصلاً على المنافسة لمنافسة شديدة ومحسومة النتائج سلفاً للمنتوج الأوروبي. لأن تحسين مستويات الشركات المحلية يتطلب وقتاً وجهداً ومالاً كثيراً كي تصبح في مستوى المواجهة وتغزو الاسواق الأوروبية. فالجزائر حسب وزير سابق في حكومة الاصلاحيين التي رأسها مولود حمروش في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات يرى بأن بلاده رابحة اصلاً من عدم توقيع اتفاق الشراكة لأن 90 في المئة من صادراتها هي من الهيدروكربورات التي تخضع لسعر السوق الدولي وبالتالي لا تخشى المنافسة في الاسواق الأوروبية المضطرة لاستيرادها أولاً لجودة نوعيتها، وثانياً للقرب الجغرافي. لكن "الله غالب"، كما يقول المثل المغاربي، فإن الاعتبارات السياسية والحسابات الانتخابية وتحسين شروط المواقع داخل الحكم في البلاد فرضت ذلك، كما يقول هذا المسؤول. * اقتصادي لبناني.