إذا كان الرئيس الأميركي يعطي أولوية لتمرير النظام الجديد للعقوبات على العراق، فإن عليه أن يعطي أولوية موازية لملف الشرق الأوسط. ظنت الإدارة الأميركية أنها تستطيع أن تعالج كل أمر على حدة، ولا تزال تظن - وتقول - إنها ستفصل بين الملفين، لكن الواقع يعاندها. ليس مؤكداً أن ما أظهره جورج بوش بعد استقباله ارييل شارون مطابق لما اتفق عليه الرجلان خلال محادثاتهما. الظاهر ينبئ بأنهما اختلفا، وهذا يحتاج إلى اثبات. المعروف هو ان الإسرائيلي لم يعد يريد "عملية السلام" كما عُرفت خلال العقد الماضي بصيغتها المدريدية، ويسعى إلى التخلص من الإرث الأوسلوي أو إلى تحجيمه في أضيق حدود غزاوية ممكنة. غير المعروف هو ما تريده الإدارة الأميركية، وهل أنها مستمرة في تبني "عملية السلام"، وإلى أي حد تتميز رؤيتها - إذا كانت لديها رؤية - عما تراه إسرائيل شارون؟ حتى الآن ارتضت إدارة بوش أن تسجل لنفسها أنها انزلقت بكامل ارادتها ووعيها إلى خطط شارون. ولم تجارها في ذلك أي عاصمة غربية، بما فيها تلك المنحازة تاريخياً واعتباطاً إلى جانب إسرائيل، لأن أحداً لا يمكن أن يبني سياسته في الشرق الأوسط استناداً إلى أفكار رجل مثل شارون. مع ذلك، ليس واضحاً الآن أن واشنطن في صدد التغيير، أو على الأقل التمايز عن النهج الإسرائيلي التخريبي. هل كانت واشنطن بحاجة فعلاً إلى من يشرح لها أن "وقف العنف" يستلزم مبادرة سياسية فورية، بمقدار ما يستلزم ترتيبات لا تبدو إسرائيل مستعدة لاحترامها أصلاً؟ وهل تفتقر واشنطن حقاً إلى التحليل والمعلومات لتعرف إذا كانت إسرائيل شارون ترغب فعلاً في "وقف العنف" أم أنها تريد للعنف أن يستمر كي تتمكن من استخدامه في الاجهاز على "عملية السلام"؟ وأخيراً هل تسأل واشنطن سفيرها في إسرائيل لماذا لا يقرأ الصحف العبرية التي تعطي صورة أكثر واقعية للوضع مما يعكسها هو لإدارته، خصوصاً أنه يزايد على الإسرائيليين في الحملة الشخصية المركزة على السلطة الفلسطينية، وبالأخص على رئيسها؟ هناك كذبة كبيرة ينبغي أن توضح مرة أولى وأخيرة، لئلا تبقى مصدراً للاحكام الخاطئة وللعبث بالحقائق. الكذبة هي أن ايهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، قدم عرضاً سخياً للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، الذي ارتكب أكبر خطأ في حياته عندما رفض ذلك العرض. لم يكن الجانب الفلسطيني في تلك المحادثات في كامب ديفيد مخيراً وإنما كان واقعاً تحت ابتزاز شديد، ولم يكن "العرض" سوى أفكار منثورة تفتقد الجدية في التوصل إلى اتفاق سلام حقيقي، مع أن الإسرائيلي طرح كل الأفكار تحت عنوان "انهاء الصراع" من دون انهاء الكثير من الخلافات حول اللاجئين والأرض. لو كان هناك عرض جيد فعلاً لما استطاع عرفات ولا سواه ان يرفضه، لكن هذا لا يمنع أياً كان بمن في ذلك الرئيس الأميركي من أن يخدع بكذبة إسرائيلية لا تهدف إلى ابراز سخاء إسرائيل وإنما تستخدم لغرض محدد: تبرير التخلص من الرئيس الفلسطيني. كانت للرئيس الأميركي السابق دوافعه الخاصة - والخاطئة - للإشادة ب"العرض" الذي قدمه باراك، ولكن أي دوافع خاطئة جعلت الرئيس الأميركي الحالي يبارك تدمير "عملية السلام" على طريقة شارون؟ ينبغي لواشنطن أن توضح نياتها وتوجهاتها في الشرق الأوسط، كما بالنسبة إلى العراق، لأنها أثارت ما يكفي من الشكوك حتى الآن. فقد تكون "العقوبات الذكية" ذكية فعلاً إلا أن واشنطن قادرة بأدائها الغامض أن تجعلها رمزاً للغباء، وقد تكون لديها نيات سلمية طيبة للشرق الأوسط إلا أن انجرارها وراء شارون ألحق بها سمعة مجرم الحرب التي تلازمه، ولا يمكنه بهذه الصفة أن يكون رجل سلام، ناهيك بأن المطلوب منه حالياً أن يكون عقلانياً، وان لا يرتكب مجزرة جديدة. قد تعتقد الإدارة الأميركية أن الشارع الرأي العام العربي بلغ الذروة في ابداء الغضب، لكنه قد يفاجئ الجميع.