جاء آرييل شارون الى الحكم لفرض حل عسكري على الفلسطينيين، ومن دون أن يملك "أجندة" سياسية من أي نوع، وإنما مجموعة شعارات مثل "لا نفاوض تحت الرصاص"، و"ياسر عرفات هو المسؤول" عن أي حادث أمني في أي مكان، و"مواصلة ضبط النفس". وربح شارون معركة الرأي العام في الولاياتالمتحدة لأن الادارة الاميركية تريد أن تصدقه، وتعادل مع عرفات في أوروبا، حيث السياسة غير مرتهنة لليهود المحليين بالكامل. إلا أن وقف اطلاق النار وضعه في زاوية، وهو اذا استمر سيعريه تماماً، لذلك فجهده كله اليوم يصب على نسف الاتفاق الذي انجزه رئيس الاستخبارات الاميركية، جورج تينيت، من دون أن يبدو مسؤولاً عن ذلك طبعاً. وما جرف الأشجار والتدمير المستمر للبيوت والمكاتب الا محاولة لجعل المواطنين الفلسطينيين يفقدون أملهم بفوائد السلام. واذا لم ينجح هذا أو استفزاز أجهزة الأمن، فهناك دائماً امكان وقوع عملية انتحارية تعطيه مخرجاً من ورطته. بكلام آخر، فلو صمد وقف اطلاق النار بمعجزة، وجرّ شارون جراً الى مائدة المفاوضات، فهو سيفضح نفسه لأن العالم كله سيرى أن رئيس وزراء اسرائيل لا يملك مشروعاً سياسياً للسلام. الأميركيون يعون ابعاد هذا الوضع، ولا يريدون ان يجد شارون العذر للخروج من وقف اطلاق النار، فالادارة تؤيد اسرائيل كثيراً وتنحاز اليها بوقاحة، الا أنها لا تذهب في ذلك الى درجة الحرب، فالمصالح الأميركية تقتضي منع انفجار بين الفلسطينيين والاسرائيليين قد ينتشر في المنطقة، لذلك فهم وقّتوا زيارات كبار المسؤولين الى المنطقة، فلا يعود واحد حتى يصل الآخر. والدكتور نبيل شعث سيقابل كولن باول وكوندوليزا رايس في واشنطن بين هذا وذاك، لإبقاء قنوات الاتصال مع الفلسطينيين مفتوحة. المفاوضون الفلسطينيون الذين تحدثت معهم أمس وأول من أمس، يعتقدون ان شارون اذا دخل المفاوضات سيسقط، لأن جناحه اليميني سيعارضها، ولأن اليسار الاسرائيلي سيحاول ان يقضي عليه اذا شعر بأنه جرح. في مثل هذا الوضع تبقى فرص الانفجار أكبر من فرص التهدئة، وقد استغل شارون قتل مستوطنين ليرفض تنفيذ الالتزامات الاسرائيلية بموجب وقف اطلاق النار، غير ان الاميركيين لا يرون قتل مستوطنين اثنين سبباً كافياً لعدم تنفيذ ما اتفق عليه، وان كانوا يؤيدون شارون في طلب التزام فلسطيني كامل بالاتفاق الذي أنجزه تينيت، تمهيداً للانتقال الى المفاوضات السياسية على أساس تقرير ميتشل المعروف. وفي حين تصر الصحف الاسرائيلية على ان الرئيس بوش في محادثاته الهاتفية مع شارون وعرفات امتدح الالتزام الاسرائيلي، وانتقد عرفات، فإن المصادر الفلسطينية تؤكد أن الرئيس الأميركي لم ينتقد، بل بدا مقتنعاً بأن أبو عمار يحاول جهده، غير ان النتيجة ليست مئة في المئة كما يريد بوش. طبعاً النتيجة لا يمكن أن تكون مئة في المئة طالما ان الاسرائيليين يسيطرون على المناطق "باء" ويحدون من حركة الأمن الفلسطيني فيها، وطالما ان هذا الأمن غير موجود في المناطق "جيم" أصلاً، بل ان الاسرائيليين أبعدوا رجال الأمن الفلسطينيين عن الحواجز المجاورة. وقد رد أبو عمار، عبر الاميركيين، بأنه مستعد لضبط الأمن في المناطق "باء" و"جيم" إذا أعطيت قوات الأمن الفلسطينية المسؤولية عنها، وهذا ما لا يقبل به الاسرائيليون الآن. وسرب الاسرائيليون رداً على موقف أبو عمار هذا تقارير للموساد والأمن العسكري تقول ان الرئيس الفلسطيني أصدر أوامره بمنع عمليات اطلاق النار من المناطق "ألف" وتشجيعها من المناطق "باء" و"جيم". الا ان الاميركيين غير مقتنعين بكلام الاسرائيليين فعندهم مراقبون على الأرض، وأبو عمار دعا دائماً الى قدوم مراقبين دوليين يفصلون بين الجانبين، ويقررون الطرف المسؤول عن أي انتهاك لوقف اطلاق النار. وكان أبو عمار لُسع في البداية عندما ربحت حكومة شارون، على رغم تطرفها الواضح، معركة الرأي العام العالمي، بما بدا من التزامها ضبط النفس. ولم يخط شارون خطوة خاطئة واحدة، باستثناء استعمال طائرات اف - 16، وهذه طويت بسرعة، وعاد أبو عمار الى قفص الاتهام. اليوم خرج أبو عمار من القفص، بفضل وقف اطلاق النار، وهو يخوض معركة جديدة لكسب الرأي العام العالمي، ووقف اطلاق النار يناسبه ولا يناسب شارون، لذلك فهو سيسعى الى منع عملية كبيرة تقوضه. واذا حدث هذا فسيجد شارون نفسه جالساً الى مائدة مفاوضات، وقد وقع بين الأميركيين والأوروبيين من جهة، واليمين الاسرائيلي المسعور من جهة أخرى، فإذا لم يقدم شيئاً اختلف مع العالم الخارجي، واذا قدم أقل القليل اختلف مع قاعدته السياسية. وبنيامين نتانياهو سيسعى منفرداً لمساعدة شارون على السقوط، غير اننا نعبر الجسر عندما نصل اليه، كما تقول العبارة الانكليزية، وننتظر في غضون ذلك أن يسقط وقف اطلاق النار أو يستمر، قبل أن ننتظر سقوط شارون.